-->

تداخل السلطة الإدارية والقضائية في الدعوى العمومية



      مراجعة مدونة المسطرة الجنائية مناسبة تاريخية حاسمة في  مسار  تطور  البناء  القانوني  والسياسي والإجتماعي، لا يجوز للفكر القانوني أن يهملها وأن لا يسجلها كما لو كانت  مجرد تعديل تشريعي  عابر.  فالمسطرة الجنائية  مثل، بل أكثر من القانون الجنائي، مرآة للتوازن بين قوة السلطة الإدارية  والسلطة القضائية  في  بناء دولة الحق، ومعيار حقيقي  للتأكد  من مدى نجاح التوفيق بين هواجس النظام والأمن من جهة، ومتطلبات الدمقراطية والحرية من جهة أخرى .  بتعبير آخر يمكن القول بأنها ركن  أساسي أي في تصور الدولة التي تعتبر  نمو  الإنسان  في  إطار  الحقوق  والكرامة  والحرية  منتهى الغاية التي ترمي إليها وتضع نفسها على قدم المساواة مع  المواطن  أمام القانون والقضاء والإجراءات أمام القضاء(1).

      ولئن جاءت المراجعة الحالية في فجر القرن الواحد  والعشرين، أي أكثر من أربعين  سنة  على مدونة 1959 وأكثر من ثمان وعشرين عاماً بعد  صدور التدابير الإنتقالية التي  لم  يكن  لها  من  الصفة  الإنتقالية إلا العنوان،  فإنها  تتميز بحدوثها في فترة يتوفر فيها المغرب على مؤسسة  تشريعية  ينتظر  أن  توليها  ما تستحقه  من  العناية،  ويقوى  الأمل  في أن تمحورها وتبلورها في اتجاه تفعيل المبادئ الدستورية المقررة  منذ 1962. كما  تجب  الملاحظة  أنها  جاءت في فترة يسود فيها شعور قوي بانخراط المغرب في مسار العمل بالحريات  العامة  واحترام حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالمياً. ذلك  أنه يجب التذكير أن أهم القوانين الصادرة في المسطرة الجنائية بالمغرب منذ 1953 تم اعتمادها في  فترات  غياب  مؤسسة  تشريعية نيابية، كما أنها صدرت في ظروف تهيمن عليها معطيات أمنية بالغة الخطورة(2).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 1 / Voir en plus des traités consacrés aux libertés publiques, particulièrement celui 
       de  G.Burdeau,Bérnard, le droit pénale et les dictateurs, rev.sc.criminelles, 1938, 
       p.672:

     /عبد الرحمان بنعمرو ـ الحاجة إلى مراجعة التشريع المغربي ـ مجلة المحاماة ـ العدد الثالث 1969.
     /بالفرنسية: محمد التبر ـ عرض حول الإصلاح الحديث لقانون المسطرة الجنائية ـ مجلة المحاكم المغربية 1963.
     /عبد الكريم بنجلون ـ عرض حول الوضعية الحالية لإدارة العدالة ـ مجلة المحاكم المغربية 1963.
     /التهامي العسري ـ العدالة الجنائية بالمغرب ـ أطروحة دكتراه، الدار البيضاء 1989.
     /محمد بن الصغير ـ حماية الحريات الفردية ضد تعسف الموظفين ـ رسالة دبلوم، الدار البيضاء 1983.
2 /  1953 أحداث المقاومة والمطالبة بالإستقلال، 1959 هاجس تحصين استقلال البلاد ضد الفوضى، 1974 طغيان 
       الإنعكاسات الأمنية لأحداث 1971 و1972 و1973.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وسواء تم التفكير في مدونة 1953 أو مدونة 1959 أو تدابير 1974 فإن مراجعها  وأصولها  كانت  دائماً  أجنبية بخلاف المشروع الحالي الذي يوحي إطاره بأنه جاء نتيجة لمجهود وطني ولو كان مقتبساً ومستأنساً بتجارب أجنبية، وهذا تحول إيجابي في حد ذاته(3).

من جهة أخرى عرفت المبادئ الدستورية المشار إليها تحسناً مستمراً في جوهرها رغم أنه ظل يفتقر إلى الفعلية والفعالية لبقائها غريبة وسط حقل تشريعي أتلفته التعديلات  القانونية  المضادة  الصادرة  سنة 1962 و1974 في  غياب   مؤسسة تشريعية، وفي حضور الممارسات الإدارية والواقعية المعاكسة التي ترعرعت في غفلة من المراقبة القضائية  والسياسية.
منذ 1962 تم التقرير دستورياً لمبادئ الشرعية وعدم رجعية القانون، والبراءة الأصلية، وقضائية المتابعات  والمحاكمات والمعاقبات، وفصل السلطات واستقلال السلطة القضائية، إلى جانب الحريات والحقوق الأساسية، لكن دائماً  مع  الإشارة الصريحة إلى إمكانية الحد من هذه الأخيرة بواسطة القانون. وإذا كان هذا التقييد عادياً في  قوانين  جميع  الدول بما  فيها 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 / بالفرنسية: ميشيل الزراري ـ تكوين النظام الجنائي المغربي ـ أطروحة دكتوراه ـ نيس 1989.
   /بالعربية: محمد الإدريسي العلمي المشيشي ـ المسطرة الجنائية ـ ج1 المؤسسات القضائية ـ 1991 ـ ص27 إلى 34.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العريقة في الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، فإنه لا يخلو من خطورة حقيقية  في  نظام  قانوني  يغلب  فيه موقع الدولة والسلطة العمومية كل اعتبار للإنسان وكرامته(4).
يجب الإعتراف بأن روح الدستور هاته ظهرت واضحة في قانون المسطرة الجنائية الصادر سنة 1959 الذي يتميز على الخصوص بتوحيد التنظيم القضائي بالمغرب، وبالتوازن في مقتضياته  بين  الضمانات  المخولة  للمتقاضين  والسلطات المخولة للدولة، حيث اجتهد ولو نسبياً في التوفيق بين اختصاصات  النيابة  العامة والمتضررين  من  الجريمة،  ووضع أحكاماً متزنة في عموميتها بخصوص البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي، ووازن بين الصفتين الإتهامية والتفتيشية من خلال التحقيق والمحاكمة.

ومنذ  ذات التاريخ خصص القانون الجنائي فصولاً  متعددة  لزجر  تطاول  السلطة  الإدارية  على  اختصاصات  السلطة القضائية، وتعسف ممثلي السلطة الإدارية ضد حقوق وحريات  المواطنين  الأساسية(5).  ولكن  منذ 1974 منعت  مدونة المسطرة المدنية صراحة السلطة القضائية من التدخل في العمل الإداري  من خلال  منعها  من  إلغاء  قرارته  والبت  في دستورية القوانين والمراسيم (الفصل 25). ولم يغير القانون المحدث للمحاكم الإدارية  من  هذا الوضع شيئاً(6). وإذا كان إحداث المحاكم الإدارية في بداية التسعينات قد قلص من مجال  فراغ  المراقبة القضائية على  العمل  الإداري،  فإن  الأمر ظل على ما هو عليه بخصوص مراقبة  دستورية القوانين  والمراسيم  إذ  لم  يتجاوز  التعديل  الدستوري  بتاريخ 1992 إحداث  مجلس  دستوري  جد محدود  الصلاحيات(7).، بالتالي  يبقى  الرأي  الذي  عبرنا  عنه  سنة 1975 بصدد 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 /  بالفرنسية: محمد الإدريسي العلمي المشيشي ـ النظام العام والقانون الجنائي ـ مجلة القانون والإقتصاد والتنمية، الدار   
    البيضاء ـ العدد 22 و23 سنة 1993 ـ ص19. نفس الكاتبLa réglementation entre l'étique et les attentes…  
     أشغال ندوة جمعية رباط الفتح...
5 / خصوصاً الفصول 224 إلى 232، 237 إلى 240، من القانون الجنائي.
 6 / انظر مراجع القضاء الإداري بالمغرب وخاصة بالفرنسية:
M.Rousset et autres, Droit administratif marocain, 1992, Rabat, p.550. Contentieux administratif, 
Ed.La porte, 1996, p.33; J.P.Razon, Institutions  judiciaires et la procédure civile au maroc, 1988p.23.
 7 / الفصول 76 إلى 79 من الدستور، والتعليق عليها باللغة الفرنسية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

غياب  الأثر الفعلي القوي للحقوق والمبادئ الدستورية صحيحاً ولو بشكل نسبي(8).
ومن المعروف أنه  منذ 1962  حصل  أول  تراجع  خطير عن روح  ومقتضيات هذا التوجه، حيث  تم  تغيير عدد  من المقتضيات في قانون المسطرة الجنائية في اتجاه الصرامة والتشدد في وضعية المشبوهين وآجال الإعتقال سواء  منه  في إطار الحراسة النظرية أو الإعتقال الإحتياطي، وتقوية صلاحيات النيابة العامة  في  موضوع  الإيداع   بالسجن  في مادة الجنح. وبنفس العقلية تم إحداث محكمة العدل الخاصة منذ سنة 1965،  ومحاكم  الجماعات  والمقاطعات  سنة1974، وتم تعديل قانون العدل العسكري في ذات الفترة(9). وكانت قمة  التراجع  هي  ظهير 1974 المتعلق  بالتدابير الإنتقالية  الذي تميزعلى الخصوص بتقليص  نطاق  التحقيق الإعدادي،  وتشديد  محاكمة  الجنايات،  وإقصاء  عدد  من  المخالفات  من اختصاص المحكمة الإبتدائية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Le contrôle de la constitutionnalité des lois, Ahmed BELHAJ, in Révision de la constitution marocain, 1992, Collection Edification d'un Etat moderne, p.129 et s; Norme pénale et norme constitutionnelle, Mohamed JAOUHAR, in Constitution et droit pénal, collectif, 1995, p.61 et s.
8 / كان ذلك بمناسبة تحليل مبدأ شرعية القانون في المادة الجنائية:
M.D.Alami MACHICHI, manuel de droit pénale général, Edition Maghrébines, 1975, p.211 et s; même auteur, les limites constitutionnelles du droit pénale, in Constitution et droit pénal, 1995, p.35.
9 / قانون 26 يوليوز 1972.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لكن وبالفعل، منذ بداية التسعينات ظهرت بوادر التغيير التي أدت إلى مراجعة مواد  مدونة  المسطرة  الجنائية  التي شوهتها تعديلات سنة 1962 و1974 وتم الرجوع نسبياً إلى  ما كان  مقرراً سنة 1959(10). وانتعش الأمل في إنهاء العمل بالتدابير الإنتقالية وإعادة النظر في التنظيم القضائي وخاصة منه ما يتعلق  بمحاكم  الجماعات  والمقاطعات  ومحكمة العدل الخاصة، وبصفة عامة في مجمل مدونة المسطرة الجنائية التي راج  الحديث عن عدة مشاريع  لتعديلها  منذ 1975 وتم بالفعل التوصل إلى تصور ملموس لذلك وسط التسعينات. ومن الطبيعي أن تتشوف الأنظار  اليوم  إلى  المشروع الحالي نظراً لشح الإنتاج التشريعي في الميدان الجنائي منذ 1963، فالمجالس  التشريعية  المتعاقبة  كلها أظهرت إحجامها عن اقتحام هذا المجال(11). كما أن التشوف يجد  مبرره  في  طول  الإنتظار لإصدار مدونة  حقيقية  للمسطرة  الجنائية  بعد التدابير الإنتقالية والترقيعية(12). وأخيراً فإن مناخ الطفرة  التشريعية  الراهنة  يشجع على المطالبة بالتعجيل في إخراج هذا المشروع إلى الوجود. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
10 / قانون 67 ـ90 المعدل لبعض فصول قانون المسطرة الجنائية وقانون التدابير الإنتقالية.
11 / بالفرنسية:
M.AMZAZI, Parlement et droit pénal, in Le parlement et la pratique (législative au maroc, Edition toubkal, 1985, p.23 et s. M.JAOUHAR op. Cit.
 12 / بالفرنسية:
M.AMZAZI et M.ZIRARI, les écueils du bricolage en procédure  pénale, Revue juridique politique et économique du Maroc, n°12, 2éme semestre 1982, p.11 et s.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 وبالفعل فقد تم الإعلان عنه، وحصل الإطلاع على محتواه بما فيه التعديلات التي طالته في مجلس الحكومة.
ولا مفر من الإعتراف بأنه خلف رد فعل سلبي، ولو من طرف رجال القضاء المعروفين بالتكتم على آرائهم الشخصية، وهو ذات رد الفعل الذي حصل بصدد مشاريع مراجعة مدونة الحريات العامة  بشقيها  المتعلقين بالصحافة والجمعيات، وكأن ذات الروح نفخت فيهما معاً،وكأن ذات المنطق وجههما في خطين متوازيين في اتجاه واحد يصرخ بتعارضه مع النقاش الحماسي السائد، سواء لدى المهتمين بالقضاء والقانون أو بالإعلام والحريات العامة.

ومما لا جدال فيه أن المشروع الذي بين أيدينا يحتوي على عدة مقتضيات إيجابية سواء اقتصرت على  النص صراحة على بعض المبادئ مثل قرينة البراءة الأصلية، تحريم الأخذ بالإعتراف المنتزع  بالعنف،  الإستعانة  بالمترجمين  لمن  لا يحسن اللغة العربية، مراقبة مخافر  الشرطة  في  موضوع  الحراسة النظرية،  ومراقبة  السجون  في  نطاق  الإعتقال الإحتياطي؛ أو أحدثث مؤسسات جديدة مثل قاضي تنفيذ العقوبة،  رفع  سن  الرشد  الجنائي،  المراقبة  القضائية؛ أو رجعت  إلى  قواعد قررتها مدونة 1959 ولو بتحسينها أو تعديلها مثل ثنائية التحقيق،  وتمديد نطاقه،  وحماية  القاصرين .  ولا داعي  هنا  لأي مواقف احتفالية وكأن الأمر يخرج عن المطلوب والمألوف.

لكن ما يثير الإستغراب هو تطوير وتقوية الروح الإدارية من خلال تزكية صلاحيات وزير العدل  لاسيما بصدد تعيين قضاة التحقيق وتنفيذ العقوبة، والأحداث، وتحديد المحاكم المكلفة بالنظر  في  استئناف  قضايا  الجنايات.  كما  يبرز  ذات  التوجه الإداري في التعامل مع سرية المراسلات والمكالمات الهاتفية، وتقوية اختصاصات  النيابة  العامة  على  الخصوص  بالنسبة لمسطرة الصلح والتسديد والتنصت على المكالمات الهاتفية وخرق سرية المراسلات، إلخ. علاوة على ما حشرها فيه المشرع من خلال التدابير الإنتقالية على حساب ضمانات المتقاضين.

ولا يفلت القارئ القانوني وغير القانوني من الشعور بالحرج  أو الضيق  إن  لم نقل  غيرهما،  حيال  التوقف  أمام  تعارض فلسفة الإكراه البدني، التي لا يزال يكرسها المشروع، ضدا على ما وافق عليه المغرب  من معاهدات دولية وما قرره بقوة في دستوره، مكرراً ذات الخطأ الذي ميز مدونة

تحصيل الديون العمومية الصادرة سنة 2000 (الفصول 76 إلى 83)، ومدونة الجمارك الصادرة سنة 2001، في أسلوب فج يوحي بتحسين موقف القانون ولا يجد أي حرج في إظهار الفخر والإعتزاز بمقتضياته السلبية.

ولا يستنكف المرء عن الإنزعاج أمام استمرار مشاكل نظام  المحاضر  التي  تضعها  الضابطة  القضائية  والإدارية،  ودور الإدارة في الدعوى العمومية، والإمتياز القضائي والحصانة كمؤسسة في حد ذاتها سواء منها البرلمانية أوغيرها، والمسؤولية عن الأخطاء القضائية لا سيما ما يرجع منها إلى استعمال الإعتقال الإحتياطي من غير تبصر ولا اعتبار لطبيعته الإستثنائية ومشاكل التبليغ والتنفيذ وأهم جوانب إدارة المحاكم التي تؤثر سلبياً على  حسن  سير العدالة الجنائية بصفة خاصة، ووضعية المختلين عقلياً في نطاق المسطرة الجنائية على الأقل  في  انتظار  مراجعة  ضوابط  المسؤولية  فيها  والتي  لا زالت  تتسم بالغرابة إن لم نقل بالعبث، إلخ، الخ.

لاشك أن كل هذه الموضوعات سوف تستقطب اهتمام الممارسين والدارسين وكل من يهتم بالقضاء الجنائي ودوره في تحقيق التوازن العادل بين حقوق وحريات المتقاضين من جهة، وصلاحيات وسلطات الدولة من جهة أخرى. وبالتالي فلن يكون لهذه المداخلة المتواضعة أي ادعاء بالإحاطة بتحليلها ومناقشاتها، إذ سوف تقتصر على مقاربة تركيبية  لتتبع  مظاهر الخيط الذي يجب أن يبرز التوازن المنشود دستورياً بين سلطة الدولة وحقوق المتقاضين، وذلك بالتوقف قدر الإمكان  عند  نقط  انقطاعه المتناقضة مع التوجهات الحالية للدولة والتي تبدو من خلال مساحات  الظل  المتعددة  على مستوى الدعوى العمومية لما لهذه المسطرة من نطاق واسع يسمح بالتعرض لعدة جوانب مما أشرنا  إليه،  ولما لها  من  مساحات  التلاقي  والإحتكاك والتقاطع بين السلطتين الإدارية والقضائية.

يتأسس هذا الإختيار على ضرورة توضيح العقدة الكامنة  في  التداخل  المشار  إليه،  لأنه  علاوة  على  ابتعاده عن منطوق ومضمون مبادئ الدستور، فإنه يبين إلى أي حد يمكن اعتبار الأخذ  بالنظام  الليبرالي  قائماً  في  تشريع  وقضاء  المسطرة الجنائية بالمغرب، وبالتالي يسمح بالقول بتحقيق دولة الحق، ولو نسبياً، والإبتعاد عن دولة الأمن والضبط  في بلادنا، خاصة وأن هذه المراجعة القانونية تأتي في فترة توحي بعزم الدولة على  ترسيخ  الثقافة  الديمقراطية وإعطاء جانب حقوق الإنسان فيها مكانتها الحقيقية مقابلة مع مفهوم جديد للسلطة.

يتأسس هذا الإختيار كذلك على خاصية المسطرة الجنائية التي كثيراً ما تهمل النظريات الفقهية  والعلمية  المجردة  في تحديد قواعدها(13).لأن المشرع ينهج باستمرار توجهاً براغماتياً يجتهد  بمقتضاه  في  الأخذ  بالحلول  الجزئية  لمواجهة  المشاكل العملية المحددة، ولأنه يتأثر باستمرار كذلك بالظروف السياسية  والإجتماعية والإقتصادية بل والدولية في تقرير تلك الحلول(14).

لكل ذلك جاء هذا الإختيار متأثراً بهاجس تقصي  معالم  استجابة  المشروع  المطروح  للنقاش  للمبادئ  المشار  إليها، بحيث يتوجه قصداً إلى ما يشوبه من ضعف عسى أن يتم تداركه بمناسبة دراسته وتنقيحه وتحسينه من طرف البرلمان، ولن يتوقف طويلاً عند مستجداته الإيجابية التي سبق الإعتراف بها أعلاه والتي لا داعي إلى  الإطناب  في  التنويه بها لأنها لا تزيد على قيام الدولة بواجبها في احترام حق المواطنة وتجسيده من خلال التشريع.

انطلاقاً مما ذكر وتبعاً له، يلاحظ بداية أن المشروع يبرز أثراً واضحاً  لدور السلطة  الإدارية على مقتضيات  القانون، وذلك من خلال تقويته على صعيدين رئيسيين في المسطرة الجنائية، الإجراءات  المسطرية  الأساسية  التي  تتلخص  في الدعوى العمومية من جهة، والقواعد التي تحكم المعاقبة المترتبة عن الإدانة من جهة أخرى. في هذا  الإطار،  نعي  ونقصد  اختيارنا للدعوى العمومية يرجع  لمفهوم  ضيق  للمسطرة  الجنائية لا يمتد  ولو  إلى  تصورها  الضيق  الذي   يعتمده  الفقه؛  وعلى العكس من ذلك نعرف أن توقفنا عند معطيات المعاقبة ينطوي على اعتماد أوسع من التصور الفقهي.  ذلك  أننا  نرى  أن كل الأسئلة التي يمكن  طرحها حول الضمانات والحقوق المفروض  توفيرها  للمتقاضين  تتأكد  أو  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
13 / Merle et Vitu, Traité de droit criminel, t.1er.,n°116.
14 / مثلة من المغرب: ظروف التشدد: 1953، 1962، 1973؛ ظروف الليبرالية: 1959، 1991، 2001؟ من خارج  
       المغرب: 
Merle et Vitu, Traité de droit criminel, Influence de l'Etat sur le droit,Ed. Cujas, 1973, t.1er, p 164 et s.,Berrent, L.pénal, Rev. De dr. Pén., 1949,p.23.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تختفي،  تقوى  أو تضعف،  في ضوء الأحكام القانونية  المقررة على الصعيدين المذكورين، بحيث سوف لن نخرج عنهما في هذه الدراسة  المتواضعة، ونعترف بأن ما سوف  نطرحه من أفكار خلالها  سيبقى  دون  التفاصيل  التي  سبق  لنا  عرضها  بمناسبات  أخرى(15).

رغم ذلك، سوف نقتصر على بضع نقط ترتبط ارتباطاً وثيقاً  بموضوع  الدعوى، بحيث لن نخصص قسماً مستقلاً من هذه العجالة لمشاكل المعاقبة في حد ذاتها، وإنما  سوف  نلحق  منها  ما نراه  مناسباً  مع  مسار  الدعوى  ولا سيما  عند مرحلة انتهائها، وبالضبط عند مآل العقوبة التي تفضي إليها في حالة الحكم بالإدانة.

تتضح ظاهرة تقوية  مركز  السلطة الإدارية على الدعوى العمومية خصوصاً  من  خلال  الصلاحيات  المخولة بالمشروع لكل من وزير العدل  والإدارة  العمومية  والنيابة  العامة  بمناسبة  تحريك  المتابعة  الجنائية  وممارسة  إجراءات  الدعوى وحالات إنهائها. وتجلب هذه  المسألة الإنتباه  لكون المسطرة الجنائية عبارة عن قواعد وأحكام تنظم  المواجهة بين المجتمع والمواطن المشبوه بمناسبة  اقتراف  جريمة  أو إخلال  بنظام  المجتمع،  حيث لا محل  للمصالح  الخاصة  أو الفردية(16).  وحيث يفرض التصور القانوني والسياسي الذي يعتمده  المغرب،  تكليف  مسؤول  عن النظام العام أو عن الحق العام، دون غيره، للقيام بالمتابعة والمطالبة بتطبيق القانون ضد الشخص المشبوه.

ومن المعلوم أن عضو النيابة العامة هو خير من تتوفر فيه  الصفات الضرورية للقيام بهذه المهمة،  فهو  عنصر  من  الهيئة القضائية من جهة، ويرتكز على تفويض ملكي يشير  إلى  الضامان  الحقيقي  للنظام   وحقوق  وحريات  الأفراد،  من  جهة أخرى. لهذه الأسباب يصبح التساؤل ضرورياً عن المبررات الكامنة وراء تكليف كل من الإدارة العمومية ووزير العدل الذي ينتمي أساساً إلى السلطة السياسية بصلاحيات تتعارض مع أسس ومفاهيم  القضاء  الجنائي.  وعلاوة 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 15 / محمد الإدريسي العلمي ـ المسطرة الجنائية ـ ج.1، المؤسسات القضائية ـ منشورات جمعية تنمية البحوث 
        والدراسات 
        القضائية 1991، وبالفرنسية:
/M.D.ALAMI MACHICHI, Procédure pénale, Rabat, 1981; Les limites constitutionnelles du droit pénal, in Constitution et droit pénal, p.35.
16 /  Merle et Vitu, Traité de droit criminel , action publique, t.2, 1979,p.40 et s; Miloudi HAMDOUCHI, L.REMALD, 1997.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على الجانب  المبدئي لهذا التساؤل والمتعلق بتحريك المتابعة  الجنائية، فإنه يكتسي أهمية لا تقل عن احترام التصور المنطقي، على صعيد التفعيل الذي يتجسد من خلال ممارسة إجراءات المتابعة أو القيام بالتدابير الضرورية  للوصول بالدعوى إلىغايتها أي الحكم بالإدانة أو بالبراءة. هذا ما يبرر توقفنا عند المحطات الأساسية للدعوى، أي عند تحريكها وممارستها وإنهائها.

1 )  تحريك المتابعة الجنائية:
تظهر قوة نفوذ السلطة الإدارية في  تحريك  الدعوى  العمومية  بصورة  تكاد تكون شاملة إذ يلاحظ  تدخل  هذه  السلطة  في الدعوى الجنائية سواء من خلال المساطر العادية المشتركة بين المحاكم العادية والإستثنائية،  أو من  خلال  الأحكام القانونية المقررة في الإختصاص الإستثنائي حيث سوف نقتصر على حالة محكمة العدل الخاصة.

1 ـ 1) تحريك الدعوى من خلال المساطر المشتركة:
على صعيد المبادئ الأولية لا نرى ضرورة لتكرار ما يفصله الفقه منانتقاد  لنظام  الملاءمة  على  صعيد  النيابة العامة حيث تطغى سلطة تقدير ظروف الواقع في غياب المعايير الواقية من التجاوز،  وحيث  تفرز العلاقة  النظامية  بين  النيابة  العامة ووزير العدل(17).  فالمشروع المعروض علينا لا يكاد يضيف شيئاً للحد من  الوضع  المشار  إليه.  نقصر  ملاحظاتنا  بهذا الصدد على نفوذ الإعتبارين السياسي والإداري وأثره على المفهوم السليم لأحكام تحريك الدعوى.

بالنسبة للنفوذ الأول، نلاحظ مخاطر تداخل الإعتبار السياسي ومبدإ المساواة أمام القانون خاصة، وأن الواقع والقانون والعمل السياسي يجر وزير العدل إلى العمل في إطار الحكومة أوالسلطة التنفيذية التي  قد  ترى  بصفتها  هاته  ضرورة المتابعة أو عدم ملاءمتها، فتعمل بواسطة قناة وزارة العدل على تمرير موقفها إلى  النيابة  العامة،  وبالتالي  إلى  تطبيق قانون المسطرة الجنائية بشكل يتعارض مع مبدأ فصل السلطات وغيره من المبادئ  الدستورية.  ويسري  ذات الرأي المتخوف على الصور المتعددة التي تكون فيها أية إدارة أخرى  من  الأجهزة  الخاضعة  للحكومة والتي يتدخل الوزير المكلف بها في إطار الحكومة للوصول إلى ذات النتيجة(18).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
17 /  انظر على الخصوص: محمد جوهر ـ قراءة للمسطرة الجنائية من خلال المهام المسندة للنيابة العامة ـ المجلة المغربية للقانون واقتصاد التنمية ـ العدد 23 لسنة 1993. وبالفرنسية:
/Serevens et Beirs, Le rôle des organes de dr. pén, 1963, n°3 et 4.
18 / انظر علي بركاش. بالفرنسية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويصل  بنا  هذا  الهاجس  إلى  ذروته عندما يتعقد العمل السياسي الحكومي ببروز عنصر الحصانة البرلمانية أو الدبلوماسية مثلاً حيث تؤخذ بالإعتبار معطيات سياسية  أحياناً  ضيقة  جداً  لتحديد  موقف  الحكومة،  وفي  مجراه  موقف  وزير العدل، وبواسطته مدلول الملاءمة التي يفترض في النيابة العامة أن تمارس تقديرها بعيداً عن هذه الإعتبارات(19).
هنا كذلك، ورغم النقاش الحاد الذي أثاره موضوع الحصانة البرلمانية، وفشل  محاولة  الحكومة  في  فرض  مشروع  قانون لتطبيق مبادئ الدستور المقررة من بداية الستينات، فإن مشروع مدونة  المسطرة  الجنائية   لم  يكلف  نفسه  ولو النص على بعض المقتضيات المنظمة لعمل النيابة العامة بمناسبة هذا النوع من النوازل، وتخفيف الضغط الذي يهددها  بمقتضى الفصل 229 من القانون الجنائي الذي يعاقب كل قاض (من  بين آخرين ) يتابع أو يحكم أو يمضي حكماً...، في غير حالات التلبس، ضد شخص يتمتع بحصانة، لم يسبق الحصول على رفعها بصورة قانونية.  السؤال الخطير  الذي  أثاره النقاش المشار إليه والذي لم يكلف المشروع نفسه أدنى مجهود للجواب عليه هو كيف  يجب على قاضي  النيابة  العامة والقاضي الجنائي بصفة عامة أن يحصل على رفع الحصانة؟ خاصة البرلمانية؟ ولن نقفل هذه النقطة دون طرح سؤال لا يقل أهمية، يتعلق بالإمتياز القضائي وذلك بالنظر للتيار العالمي المتوجه نحو تقليص أو حذف كل مؤسسة من هذا النوع، في إطار المساواة أمام القانون والقضاء، وفي إطار اعتبار المسؤوليات العمومية تكليفاً حقيقياً يثقل التزامات  المعنيين به، ولا علاقة له بأي تشريف؟

يتعلق النوع الثاني من النفوذ المؤثر على  سلامة  تحريك  الدعوى  العمومية  بمسألة  صلاحيات  الإدارة  العمومية  المؤهلة لتحريك وممارسة الدعوى. ولبيان خصوصيات هذه المسطرة بالمقارنة مع  وضعية  المتقاضين  العاديين يجب الملاحظة أن الإدارة لا تحتاج دائماً إلى اللجوء إلى التبليغ عن الجريمة أو رفع شكوى  من  جرائها  أو  تكوين  طرف  مدني  أو استعمال الإستدعاء المباشر، لإجبار النيابة على المتابعة(20).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
/Le Ministre de la justice, mémoire de 3ème cycle, E.N.A.P, 1989.
19 / انظر المراجع العامة أعلاه في باب موانع الدعوى العمومية.
20 / انظر محمد غزيول برادة ـ مدونة وتنظيمات الجمارك والضرائب غير المباشرة ـ الرباط 1995 ـ ص 224 وما 
       بعدها.
     /عمر أبو الطيب ـ الدعوى العمومية ـ الرباط 1995 ـ ص 191 وما بعدها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نحصر ملاحظاتنا في هذه المرحلة على الإدارات المتخصصة التي  يخولها  القانون صلاحيات تحريك بل وممارسة الدعوى العمومية، وهي الإدارة المكلفة  بالمياه  والغابات  من  جهة  وإدارة  الجمارك(21).  بصرف  النظر عن  الإعتبارات  التقنية والواقعية التي يرتكز عليها موقف المشرع  بخصوص تكليف إدارات معينة بصلاحيات النيابة  العامة  في  تحريك وممارسة الدعوى  العمومية،  ورغم  كون  هذه  القاعدة لا تمنع  النيابة  العامة  من الحضور بل  ومن  المشاركة في ممارسة الدعوى، فإنها، في  حد  ذاتها،  تتعارض  مع  المبادئ  والمنطق  في  المسطرة الجنائية. في هذا الإطار، نذكر بأن  المسطرة  الجنائية تكون الإطار  القانوني  الذي  يتواجه  في المشبوه مع المجتمع أمام السلطة القضائية، وحيث  تمثل  النيابة  العامة،  كمؤسسة  مختلطة  قضائية  وتنفيذية،  حق  المجتمع  في  تطبيق  القانون. وبالتالي فإن الإدارة،  سواء  منها  المتخصصة  أو  غيرها، تبقى متقاضياً عادياً وقع ضحية لجريمة معينة، ولا مبرر لتمتيعها بأي امتياز يجعل منها ممثلاً للمجتمع أو الحق العام(22).

وإذا كانت الجريمة التي ألحقت بها ضرراً مباشراً تبرر سلوك مساطر معينة من شأنها  جبر  ذلك الضرر، حرصاً على المال العام، فإنها تبقى جريمة ولو اكتست طبيعة  مفتعلة  أو اصطناعية  بالمقارنة  مع  الجريمة العادية  أو  الطبيعية  التي تتجسد ضحيتها في شخص خاضع للقانون الخاص.

لا شك أن الضحية في خرق قانون الجمارك أو قانون المياه والغابات  هي  الشأن  العام،  سواء  تعلق  الضرر بالمال العام أو بالإحترام والإعتبار الواجب للمؤسسات الدستورية، وهي ضحية لا تتغير بتغير الإدارة، إذ نجدها  ذاتها  في  الإخلال  بنظام البيئة، أو إتلاف الطرقات العمومية، أو تخريب السدود، أو الإضرار بالمآثر التاريخية، أو سب  مؤسسة  دستورية،  أو  غير ذلك. وعلى فرض اعتبار الإمتياز المخول للإدارات المعنية له ما يبرره من  زاوية  منطلق  السهر على  حماية  الشأن العام، فلماذا لم يحدد مشروع المسطرة المدروس، شروطاً معينة لإبراز هذا المنطق؟ (23).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 21 / عبد الكبير بوخيمة ـ الإثبات ومسطرة الحجز على ضوء التشريع الغابوي ـ الملحق القضائي عدد 22 أبريل 1991 
         ص 151. 
      /Moulay Larbi El Alaoui, Le droit douanier au Maroc, 1996, p.254 et s.
 22 / Garraud, Traité d'instruction criminelle, t.1er. n°95; Tei, la poursuite et le jugement des infractions 
      douanières, in Etude de droit pénal douanier, 1968, p.203; Moulay Larbi El Alaoui, Le droit douanier au 
      Maroc, Livred Ibn Sina, 1996, p.257.
 23 / Roger A. Le rôle de l'administration dans le procès pénal, Grenoble 1980.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالنظر لما صار مقبولاً في الفكر السياسي والإجتماعي السائد حالياً، لماذا لا يأخذ المشروع  بذات  المنطق أعلاه وبالظرفية الحالية المميزة للمجتمع المدني لتعديل القانون في اتجاه  السماح  للجمعيات  أو لبعضها  ممن  تتوفر  فيها  شروط  يحددها القانون دائماً، من أجل تحريك الدعوى العمومية، خارج  إطار التبليغ  القائم حالياً؟ ونرى أن هذا التساؤل ينبني على نقاش وتيار قوي داخل الجمعيات ولا سيما منها المهتمة بالدفاع عن حقوق الإنسان، وقضايا  الطفولة  المعذبة. في الوقت الراهن، يجوز القول بأن امتداد النفوذ الإداري إلى الحلول  محل النيابة  العامة،  لصالح  إدارات  محددة  من  دون  غيرها، لا يعدو تغيير مفهوم ممثل الحق العام لإضفائه على طرف إداري صرف من أجل تمكينه من الجمع بين  الصلاحيات  المخولة لأية ضحية، وصلاحيات الإتهام والمطالبة بالعقاب، رغم أنه مجرد خصم لا يتمتع بأية  حصانة  ضد الشبهة والخطإ،  ويستفيد من امتياز لا أساس له في ضوء النظام الذي تخضع له الإدارات المتخصصة  الأخرى،  وفي  ضوء  النظام  الذي يسري على المتقاضين في المسطرة الجنائية بصفة عامة، وفي ضوء الفكر السياسي والإجتماعي الحالي.

1 ـ 2)  تحريك الدعوى الإستثنائية:
نقصد بالدعوى الإستثنائية مجمل الحالات التي يسمح فيها القانون  حالياً بتحريك  متابعة  جنائية أو بالتأثير على مسارها بوجه من الوجوه، بناء على قواعد مغايرة لما هو مقرر عادة في مدونة المسطرة  الجنائية  ويتعلق  الأمر  أساساً بالأحكام المنظمة لعلاقة وزير العدل بالنيابة العامة، وبالمسطرة المقررة  أمام  محكمة  العدل  العسكري  ومحكمة  العدل  الخاصة، وبالطعون التي يرجع الإختصاص في ممارستها إلى وزير العدل.  ولقد سبق أن أشرنا  إلى  استبعاد  ما يهم محكمة العدل العسكري من ملاحظاتنا لما لهذه المؤسسة من خصائص دقيقة إن على  صعيد  تقنيات  القواعد  المطبقة  أو على مستوى الفلسفة المؤطرة لوجودها. بالتالي لن نتوقف هنا، وبعجالة، إلا عند العلاقة بين وزير العدل وقضاء النيابة العامة في إطار المسطرة الجنائية لسنة 1959، أو الجارية أمام محكمة العدل الخاصة.

على صعيد علاقة وزير العدل بالنيابة العامة  في  إطار  قانون  المسطرة  الجنائية  الصادر سنة 1959، أي  من  زاوية الشريعة العامة، نلاحظ أن هذا العضو المنتمي للسلطة التنفيذية يتمتع قانونياً باختصاصات  قضائية  ترتكز على الفصلين 36 و48 من ق.م.ج لسنة 1959، و56 من  الظهير  المقنن  للتدابير  الإنتقالية  الصادر بتاريخ 11/11/1974  من  جهة والفصول 607 إلى 621 من ق.م.ج لسنة 1959 من جهة أخرى(24).  ترجع المقتضيات  الأولى  إلى  سلطة الإشراف وتوجيه المعلومات والملتمسات، وتعود المجموعة الثانية من تلك المقتضيات إلى سلطة الوزير في ممارسة الطعن لفائدة القانون والطعن بالمراجعة أمام المجلس الأعلى.

يجدر الإنتباه إلى أن هذه الوضعية القانونية والتي يمكن إلى  حد ما  تبريرها بالطبيعة  المختلطة لصفة النيابة العامة، قضائية وإدارية(25).  عالجها المشروع بشكل غير مناسب نهائياً  مع التوجهات  المعلنة. ذلك  أنه لا يقتصر على تقويتها في إطارها الدقيق، وإنما يضخمها بتعارض مع المنطق القانوني  والدستوري من  خلال  لاحيات التسديد بين الخصوم،  حضورها أثناء استنطاق مشبوه ومواجهته مع الغير أو أثناء  الإستماع للمطالب بالحق المدني،  وذلك على حساب الغاية المتوخاة من التفريق بين دور النيابة العامة ودور قضاء التحقيق. كما  يسحب المشروع من قاضي  التحقيق  سلطة متابعة التحقيق عند ظهور أدلة جديدة، وخولت هذا  الإختصاص للنيابة العامة  وحدها.  ويعطي  المشروع الحق  للنيابة  العامة للطعن بالنقض في القرارات النهائية القاضية ببراءة المتهم بشروط  مخلة بالتوازن مع صلاحيات المطالب بالحق المدني.
فيما يتعلق بفصول قانون المسطرة الجنائية وظهير التدابير الإنتقالية المنظمة لإشراف وزير العدل على قضاة  النيابة العامة، نسجل بداية أن الوزير المعني لا ينتمي إلى الهيئة القضائية بما فيها مجموعة النيابة العامة، بحيث لا يفسر وضعه إلا بالتقليد المعتاد لمؤسسات القانون الفرنسي، ولا ينسجم بتاتاً مع المفهوم الدستوري  والديني  للقضاء  في بلادنا والذي ينضوي روحياً وسياسياً في اختصاصات الملك أمير المؤمنين، والتي يمكنه  بمقتضاها  تفويض  البعض  منها  إلى الجهة الأكثر ابتعاداً عن أي تأثير أجنبي عن تحقيق العدل واحترام وحماية الحقوق والمصالح المتنازعة، والتي نرى أنها الهيئة القضائية ذاتها(26).

من جهة أخرى، لا بد من الملاحظة أن التشريع الحالي، على علله، يتميز على الأقل بصدوره في  تاريخ لم يكن  المغرب خلاله يخضع لمبادئ دستورية، سياسية وقانونية وإنسانية، محددة مثل ما  هو  عليه الأمر اليوم،  توضح  المعالم  الكبرى لاختياراته، بحيث لم يكن من السهل على المشرع وضع الحدود الدقيقة للسلطة التنفيذية والقضائية في الموضوع. وبما أن هذا الوضع لم يعد له وجود في الوقت الراهن، وبما أن التيار الفكري بمعناه الواسع أصبح  اليوم  يسير  في اتجاه توضيح وتقوية الفصل بين السلطات، وتفعيل سلطات الملك بصفته أميراً للمؤمنين وساهراً  على  حقوق  وحريات  أفراد  شعبه، 
 وعلى حسن سير مؤسسات البلاد، فإننا لا نرى بداً من مراجعة مقتضيات التشريع الحالي المتعلقة  بالعلاقة  بين وزير العدل  والقضاء بصفة عامة، والنيابة العامة بصفة خاصة، في ضوء المفاهيم السائدة حالياً.

من جهة أخرى إذا كان دور وزير  العدل لا يصل  حالياً  إلى  درجة تعيين قضاة النيابة العامة، بفضل تطور واقعي لعمل المجلس الأعلى للقضاء، فإن المشروع  الحالي  أتى  بموقف  غير  منسجم  حيث  وسع  نطاق  اختصاصات  الوزير في 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
24 / انظر رسالة السلك العالي لعلي بركاش المشار إليها  أعلاه في كل ما يخص سلطات وزير العدل.
25 / انظر محمد الإدريسي العلمي المشيشي ـ المسطرة الجنائية ـ ج1، المؤسسات القضائية ـ 1991 ـ ص 63 وما بعدها.
26 / انظر على سبيل المثال: ابراهيم حركات ـ الأوضاع القضائية بالمغرب قبل الحماية ـ مجلة رابطة القضاة ـ 
       العدد 6 و7 لـ1983 ـ ص 34.
     /حسن السايح ـ تاريخ القضاء بالمغرب ـ مجلة كلية الشريعة ـ العدد 26.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التحقيق، والسماح له بتعيين القضاة المكلفين بشؤون الأحداث،  والقضاة  المكلفين  بتنفيذ  العقوبات،  وكذا  وبشكل  صارخ، بتحديد محاكم الإستئناف المؤهلة للنظر في استئناف قرارات غرف الجنايات. ولربما جاز لنا أن  نقتصر هنا على القول بأن هذا الموقف، الخاص بمحاكم الإستئناف، يخرق نص الفقرة الثالثة من الفصل 45  من  الدستور  التي  تمنح للبرلمان  سلطة إحداث محاكم جديدة وخاصة سلطة تحديد المسطرة الجنائية.

 ومن البديهي أن أهم أركان هذه المسطرة الجنائية يرجع إلى توضيح اختصاصات المحاكم.  من  هذه  الزاوية، يصعب علينا فهم سلطة وزير العدل في تقرير أي من محاكم الإستئناف لها الإختصاص في النظر في الطعن ضد قرارات غرف الجنايات، إذا سلمنا بأن موضوع إحداث هذا النوع من  محاكم  الإستئناف لا يتعارض  مع أحكام الدستور لقيامه بمقتضى القانون.  لكن القانون، أو المشروع الحالي جاء خالياً من أي تحديد أو تعيين للمحاكم المقصودة  حتى  يكون قراره بتكليف وزير العدل بذلك التحديد متطابقاً مع منح الوزير سلطة يقررها الدستور للبرلمان . ألم  يكن  أولى  بالمشروع أن  يضع المقاييس والمواصفات التي يجب أن تتوفر في المحاكم المعنية بحيث لا يبقى إلا موضوع الإعلان عنها،  وهو  شئ  يدخل  في  اختصاص  السلطة الحكومية، ويمكن أن تمارسه بمرسوم؟

بالنسبة للمقتضيات المنظمة للطعون الإستثنائية، بالضبط  منها  طلب  النقض  لفائدة  القانون،  وطلب  المراجعة، نلاحظ أن المشروع لا يأتي بأي تعديل لمقتضيات القانون الحالي الذي يسمح لوزير العدل بممارسة هذه  الطعون  في  بعض  الحالات. وإذا كنا نتفهم موقف المشرع سنة 1959 في تصوره للدور الذي يمكن أن يقوم به وزير العدل من  أجل  احترام  القانون ومن أجل تصحيح ما يمكن إصلاحه من الأخطاء القضائية، فإننا نعجز عن مسايرته في ذات  الإتجاه سنة 2002 لما  عرفه تصور التنظيم القضائي من تطور في التجسيد وفي الغاية. ذلك أن الموقف الدستوري الذي يعتبر القضاء سلطة إلى جانب السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولو بأهمية أدنى، يفرض أن تقوم هذه السلطة ذاتها بما يجب من  طعون  وإجراءات  لاحترام  القانون وتصحيح الأخطاء. وفي هذا الصدد كم نحن  في  حاجة  إلى إعطاء النيابة العامة بالمجلس الأعلى دوراً حيوياً وعملياً يخرج بها من النطاق الضيق الذي توجد به اليوم. ولعله من الأولى أن يناط بها  اختصاص  وزير العدل  في  الطعون  التي  تهمنا وتوسيع صلاحياتها في هذا المجال بشكل متناسب مع التيار الفكري السائد في وقتنا.

بالإقتصار على موضوع محكمة العدل الخاصة حيث تتحول الإدارة بصفة قانونية تكاد  تكون  صريحة  إلى  نيابة  عامة وقضاء تحقيق، وحيث  يتقلص  مجال  اختصاص  قضاء  الحكم،  يكتسي دور القطاعات الحكومية أهمية قصوى. يتعلق الأمر في هذا الإطار بحماية المال العام بمقتضيات قانونية صارمة  عندما  يصل  مبلغ  التبديد  أو الإتلاف إلى 25.000 
درهم فما فوق وذلك بتخصيص محكمة غير عادية لزجره وتطبيق مسطرة جنائية لا تحتل ضمانات حقوق الدفاع هاجسها الأول إذ تهيمن عليها دوافع الزجر وصرامة المثال لاسترجاع المال العام أو على  الأقل لإصلاح  ما لحق  سمعة  الإدارة وهيبتها من ضرر(27).

المشكل هو أن هذا دور يتأسس على رأي وموقف مصالح إدارية عادية  تؤثر  في  موقف  ورأي  الوزير  المسؤول  عن الإدارة المتضررة  من  جهة  ويرتكز على  جواز  اعتبار  احترام  حقوق  الدفاع  والمساواة  أمام  القانون  مسألة  ثانوية بالمقارنة مع حقوق وصلاحية الدولة. وذلك جوهر  التعارض  مع  مفهوم  دولة  الحق .  يكفي أن تقتنع المصالح الإدارية المعنية بمسؤولية الموظف، بمعناه الجنائي الواسع،  الذي  يضخمه  الإجتهاد  القضائي أو يضيقه  حسب  ظروف  ومناخ المتابعة، لاقناع الوزير المسؤول المباشر بضرورة هذه المتابعة،  ليتحول  مفهوم  القضاء الجنائي إلى سلاح من المحتمل استعماله بطريقة وبغاية بعيدة عن مقاصده النبيلة. يبادر الوزير المعني بتبليغ الوقائع إلى وزير العدل ودعوته إلى تحريك المتابعة(28).

سكوت القانون عن العلاقة الرابطة بين وزير العدل، المسؤول المباشر والقانوني عن  تحريك  الدعوى، وتصور ما يمكن أن يجري بينه وبين الوزير الذي ترد منه الشكاية لا يترك له مجالاً لتقييم ملاءمة  المتابعة  بحيث  يقتصر عادة على دور مديرية الشؤون الجنائية من الناحية التقنية، في تكييف الأفعال، وفي أحسن  الظروف  يعرض  الموضوع  على  الحكومة لمعرفة رأيها في ممارسة المتابعة وتحديد ظروفها عند الإقتضاء. ثم يعطي أمره الخطي  للنيابة  العامة  لدى محكمة العدل الخاصة للقيام بتلك المتابعة، ولا يكون لهذه الجهة في هذه الحالة أي اختيار إلا تنفيذ الأمر. النتيجة  الغريبة  هي أن النفوذ الإداري يعقل العمل القضائي بمعنى أنه يؤسس تبعية النيابة والتحقيق بصفة آلية وإجبارية  على  موقف  الإدارة  الذي قد يكون متأثراً بمعطيات غير قانونية بالمعنى التقني.

لابد للباحث القانوني أن يسجل شذوذ هذا الموقف التشريعي الذي يهيمن  على نظام محكمة العدل الخاصة منذ إحداثها سنة 1965. فهو ينتاقض بشكل صارخ مع مبادئ الدستور المنادية  باستقلال  السلطة  القضائية  وبالمساواة  أمام  القانون  منذ 1962، ومع أحكام القانون الجنائي المجرمة والمعاقبة لتدخل الإدارة في العمل القضائي منذ 1961. يجدر  الإنتباه في هذه الوضعية إلى الفرق بينها وما سبق الوقوف عنده من سماح للإدارة بتحريك وممارسة الدعوى العمومية.  لقد  تم القول هنا بأن الأمر يرجع إلى امتياز يخل بقاعدة المساواة بين المتقاضين. أما بخصوص الوضع أمام  محكمة  العدل  الخاصة  فإن المشكل هو أن القانون المنظم لها يخلق تراتبية  بين  الإدارة  والقضاء  يكون  هذا الأخير بمقتضاها خاضعاً لأمر الإدارة. فوزير العدل، ومن ورائه الوزير المسؤول عن القطاع المعني بالمال  العام،  يعطي  للقضاء  أمراً  بالمتابعة،  وهذا  شئ يختلف عن تحريك المتابعة المسموح به لبعض الإدارات.

وأدهى من ذلك أن النيابة العامة لدى محكمة العدل الخاصة لا تتمتع بأية صلاحية غير تنفيذ الأمر المذكور. ورغم الفرق بين ظروف المغرب سنة 1965 و1972 من جهة وظروفه الآن من جهة  أخرى،  ورغم  الأفكار  والإعتبارات المبررة والموضحة للمشروع الحالي للمسطرة الجنائية، فلا توجد به أية إشارة لتصحيح  الشذوذ المذكور. فهل من سبيل برلماني إلى تحقيق هذا الحد الأدنى في انتظار التخلي نهائياً عن المحكمة المعنية برمتها؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 27 /  V.A.OUAZZANI, La cour spéciale de justice, Rabat, 1977.
 28 /  Merle et Vitu, Traité déjà cité, t.2, n°1324 et s.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2) ممارسة الدعوى العمومية:
نتوقف، باقتضاب، على هذا الصعيد بدون تمييز بين مساطر القضاء  العادي  والإستثنائي  على مجموعة من الإجراءات تجسد ممارسة الدعوى العمومية، ويبرز فيها أحياناً مظهر آخر  من  تداخل  السلطتين  الإدارية  والقضائية  في  المسطرة الجنائية. ولعل أهم تلك الإجراءات يتعلق بمدة الدعوى وبنظام الإثبات من جهة، وبما يحيط حرية المشبوه والمتهم ونلحق بهما الجاني الذي ينفذ الحكم بعقوبة سالبة للحرية من جهة أخرى. لا شك أن المعاقبة أجنبية عن المسطرة الجنائية بالمعنى الدقيق لهذه المؤسسة، لكنها تلعب دوراً خطيراً في  تصورها وتقريرها من خلال اعتماد نظام  حقيقي  للعقوبة حيث يظهر نفوذ للسلطة الإدارية لا يقل خطورة  على حرية  الشخص  وأمواله  وحقوقه.  وسوف  يتم الإقتصار  على  لمحة  خاصة بالعقوبة السالبة للحرية لكفايتها ولبلاغتها في الدلالة على هذا الرأي.

يتجلى أثر السلطة الإدارية على مستوى تحديد خطورة العقوبة المترتبة عن المحاكمة، كما يبرز بقوة على صعيد تنفيذها لما تتمتع به الإدارة من إمكانية وقفه من خلال إطلاق سراح المحكوم عليه قبل إنهاء مدتها.

على هذا الصعيد يظهر دور الحمولة الإجتماعية  التي تحيط بالنيابة العامة في مجال القضاء والمتقاضين وأجهزة السلطة الإدارية. فبقدر ما توجد قناعة بحياد هيئة الحكم،  بقدر ما يشعر الجميع أن الحل بيد النيابة العامة. فهي التي تحدد العقوبة التي تطالب بها، وتحدد درجة خطورتها، وتؤثر  على تنفيذها وعلى  إيقافه. لا جدال  في  أن  هذا  الإنطباع  يتنافى  مع القاعدة القانونية، لكنه يوحي بطبيعتها النظرية  لأنه  يساير الإعتقاد بأن حياد واستقلال وترفع هيئة الحكم فوق الأطراف يظل نسبياً في الحالات المتعددة التي يتسلل فيها الشعور بأن  النيابة  العامة  تعبر  عن  موقف  الدولة،  ولا تتمسك  بدور المدافع عن حق المجتمع أو الحق العام. وتدل مقتضيات المشروع الجديد على تزكية هذه الثقافة بواسطة الصلاحيات التي أضافها إلى هذا الجهاز.

2 ـ 1)  سرعة وبطء الإجراءات:
تلعب الآجال القانونية، والآجال المعقولة، دوراً في غاية الأهمية لتحقيق  المحاكمة  العادلة.  ولا تزال العناية بهذه الآجال محتشمة أمام الإمكانيات التي توجد لدى الإدارة لاعتماد السرعة الفائقة في الوصول  إلى  الأحكام،  أو على العكس لخلق أسباب التباطؤ لتأخير النطق بالأحكام، على حساب حرية وحقوق المتقاضين ( طلب الملفات  للدراسة،  طلب  آراء  من جهات معينة...)

من الزاوية الزمنية هاته أو المدة التي تتطلبها ممارسة الدعوى، تجب الإشارة إلى  ما يتسغربه  المتقاضون  وينتقدونه من سرعة أو بطء في مجرى الإجراءات. ولا جدال في تبرير الإستغراب حين تكتسي السرعة أو البطء صفة غير عادية لأن من شأن ذلك أن ينعكس على قيمة القرار القضائي. وبصرف النظر عن  كل  الأسباب  الراجعة  إلى  أخطاء  المتقاضين أنفسهم وإلى مشاكل التدبير الإداري لعمل المحاكم، فإن سبب البطء والسرعة  يجد  أصله أحياناً  في تصرف الإدارة ذاتها سواء كانت مصالح وزارة العدل أو مصالح إدارة أخرى. ومهما كانت دوافع  وأسباب  هذا  التصرف لا بد من الإعتراف بأنه يعود إلى عيوب العمل الإداري التي لم تجد بعد حلولا وإصلاحاً لها،  كما  يجد مرتعاً له في قصور التشريع القضائي الجنائي عن وضع آجال دقيقة لا يمكن تجاهلها من جهة، وتوفق  بين  متطلبات  حسن  سير العدالة من جهة أخرى، وتحد من تسويف وتماطل المتقاضين من جهة أخيرة. كان حرياً بالمشروع أن يستأنس بتوجه التشريع الحالي في قضاء المحاكم التجارية ليضع ضوابط لعمر الدعوى الجنائية أمام المحكمة. نخشى أن  يعتبر  هذا  السهو  بمثابة  مؤشر عن تفاهة قيمة الحرية الإنسانية المهددة بالدعوى الجنائية بالمقارنة مع قيمة الأموال المهددة بالدعوى أمام المحكمة التجارية؟

2 ـ 2)  نظام الإثبات:
يتعلق الأمر على الخصوص بالوسائل التي كانت مثار  نقاش  وانتقاد،  وخاصة  منها  المحاضر  التي  تضعها  الضابطة القضائية ويمكن أن تندرج في إطارها الوثائق الرسمية المختلفة التي تقيمها وتصدرها الإدارات العمومية، وكذا صعوبات الخبرة وما يقاس عليها من تحليلات وتدقيق أو افتحاص أصبح اليوم يكتسي  أهمية  قصوى  لكثرة استعماله سواء لحماية المال العام أو قيم أخرى، وأخيراً ما جاء به التشريع من تقنين للإستماع إلى المكالمات الهاتفية والإطلاع على المراسلات الخاصة.

أولاً: المحاضر والوثائق الرسمية:
يجلب المشروع الإنتباه أيضاً بمناسبة موقفه من الإثبات في المادة الجنائية  من  خلال  تجاهله  للنقاش  الفقهي والقضائي لنظام المحاضر الرسمية سواء الموضوعة من قبل ضباط الشرطة القضائية  أو من قبل جهات إدارية أخرى(29).  أو من خلال سكوته عن قيمة الوثائق الإدارية التي يتم الرجوع إليها في بعض القضايا.

إذا كانت محاضر الضابطة القضائية مقننة نسبياً، فإن  كل  المعنيين  بالعمل  القضائي  يجمعون  على  ضرورة  توضيح وتدقيق النظام القانوني الذي يحكمها وعلى الأخص جانب  القوة الإثباتية المترتبة عنها، لأن هذه النقطة بالذات ظلت قابلة للنقاش رغم الجهود النبيلة التي ميزت بعض الإجتهادات القضائية.  بالتالي  يجب  وضع  حد نهائي لأسباب المجادلة بسد ثغرات القانون. ونرى أن هذا الأمر يكتسي طبيعة مستعجلة يتعين  على  المشروع  أن  يأخذها  بالإعتبار  ويقدم  الحلول المناسبة للمشكل. وفي ذات السياق، كان من  الجدير به أن يضع  على  الأقل  المبادئ  الأساسية  بالنسبة للوثائق الإدارية الأخرى لمعرفة شروط إجبار الإدارة على الإدلاء بها، ومعايير تحديد قيمتها الإثباتية.

ثانياً: الخبرة والإفتحاص التقني:
في ذات النطاق ورغم زخم التطور التقني والعلمي نستغرب سكوت المشروع عما أصبح يحيط بالخبرة في مجال القضاء الجنائي من ظروف قد تعصف بالغاية منها. ذلك أن الخبرة  في  بعض  المجالات  محتكرة  من  المختبرات  والمؤسسات العمومية إما لصعوبتها أو لغلاء الإستثمار بها أو لخطورتها.  وحين  يتعلق  الأمر بقضية  جنائية  تهم  إدارة  عمومية  أو مؤسسة عمومية، على الخصوص منها الوصية على مؤسسة الخبرة، فإن الحرج يتسلل  إلى  موقف هذه الأخيرة كما يهدد بالتسرب إلى رأي المحكمة. ويسري ذات الشعور حين يكون  الخبير  موظفاً  عمومياً  أو  مهنياً  حراً  تستفيد  الإدارة من خدماته بصورة منتظمة. في كل هذه الأحوال نرى أن الضمانات التقليدية المكفولة للمتقاضين صارت فاقدة لجدواها وبات من اللازم التفكير في إكمالها وتقويتها بما يحمي حسن سير العدالة من تدابير ناجعة(30).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
29 / نظر على الخصوص محمد عياط ـ دراسة في المسطرة الجنائية ـ   ج2 ـ ص 80 وما بعدها ـ مع الإجتهادات  
      القضائية 
      التي  يقدمها/بوخيمة عبد الكبير ـ الإثبات ومسطرة الحجز على ضوء التشريع الغابوي./الملحق القضائي ـ العدد 22 
      لسنة1991 ـص 151.
     /  الحسن البوعيسي ـ عمل الضابطة القضائية بالمغرب 1991 ـ ص233 وما بعدها.
30 / حمد الإدريسي العلمي المشيشي ـ المسطرة الجنائية ـ مرجع سابق ـ ص 237 إلى 261.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثالثاً: الإستماع إلى المكالمات الهاتفية والإطلاع على المراسلات الشخصية:
بالنسبة للإستماع إلى المكالمات الهاتفية والإطلاع على المراسلات  الشخصية،  يفاجئنا  المشروع بإباحة نصية  صريحة لهذين الإجراءين عملاً بالإمكانية التي يسمح بها الدستور بخصوص تقييد  الحريات  والحقوق  بواسطة  القانون.  وتجدر الملاحظة هنا أن كل المبررات الواقعية أو المقتبسة من التشريع  الأجنبي لا تمنع من أن نسجل بأن موقف المشروع يدل على تراجع عن المبدأ الجاري به العمل في القانون الحالي.

من الناحية الن ظرية فالفقهاء والممارسون، قضاة ومحامين،  كانوا  معتزين  بالقاعدة  القانونية  السارية  ولا يترددون في انتقاد القوانين الأجنبية المخالفة. في ذات السياق، ألم تكن  الأحكام  المقررة  صراحة  في  قانون المسطرة الجنائية الحالي تنهج مبدأ حرية الإثبات سواء بالنسبة  للنيابة  العامة  أو لقضاء  التحقيق  أو لقضاء  الحكم،  بحيث  يستفاد  منها  إمكانية الإستماع إلى المكالمات الهاتفية والإطلاع على المراسلات  الشخصية؟  أو لم  تكن  هذه الوسائل معمولاً بها في الممارسة اليومية بناء على هذا الأساس؟ في هذا الإطار لا يتطلب التطبيق السليم  لهذه الإمكانية إلا الممارسة  النزيهة  أي  التي لا تنطوي على تدليس لأن المتابعة تقارن بمبارزة شريفة  من جانب السلطة القضائية، تأخذ بالإعتبار استماتة المتقاضي في الدفاع عن نفسه(31).  لهذه المعطيات نرى أنه كان  أولى بالمشروع  أن  يتجنب  وضع  قاعدة  تخدش المبادئ الدستورية بشكل فج، وأن يقتصر على تحديد وتقييد مبدإ  حرية  الإثبات  وأن  ينص  بهذه  المناسبة  صراحة  على  شرط  الإلتزام بالشفافية والصدق تجاه المشبوه، قياساً على ما يقرره االقانون صراحة في مادة المحاضر التي  تعاين الإعتراف بالجريمة.

في حالة العكس سيصبح مبدأ حرية الإثبات في القضاء الجنائي، سواء بخصوص محاضر  الضابطة  القضائية، المتمتعة بقوة إثبات إلى حين الطعن بالزور أو محاضرها العادية، وسواء بخصوص الإستماع إلى  المكالمات  الهاتفية أو الإطلاع على المراسلات الشخصية، ضداً على فلسفته القانونية والدستورية والإجتماعية  والإنسانية،  ويفرز مكانة  واقعية  تضع القضاء في تبعية فعلية متعارضة مع  قاعدة  الإقتناع  الصميم،  نظراً  لضعف  إمكانيته  وضعف  صلاحيات  المتقاضي، ودحرجة هذا الأخير إلى وضعية مناقضة للبراءة الأصلية ولقاعدة تحميل  النيابة  العامة  عبء  الإثبات(32).  وتأخذ هذه الظاهرة شكلاً أكثر خطورة وابتعاداً عن المبادئ المقررة  حين  يتعلق  الأمر  بالوثائق الإدارية الأخرى التي لا تتمتع بأي امتياز في قوة الإثبات، وحيث تتفاقم تبعية القضاء لعجزه عن الوصول إلى الحقيقة ولعجز المتقاضي عن دحض مضمون تلك الوثائق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
31 / Blondet, La légalité de l'enquête officieuse, J.C.P.1955, I.1233; Les ruses et les artifices de la police au  
     cours de l'enquête préliminaire, J.C.P, 1958, I, 1419; L'œuvre non dépassée de Gorfe, lappréciation des 
     preuves en justice, 1947; Merle et Vitu, t.2, n°997 à 1000.
32 /  J.Essaid, La présomption d'innocence, Rabat 1971.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2 ـ 3)  المساس بحرية المحكوم عليه:
تسري ملاحظة تسرب النفوذ الإداري على حرية المشبوه وكذلك  المحكوم عليه  من  خلال  ما قد  يطبع  تطبيق  السراح المؤقت رغم أنه لا يخضع إلا للأجهزة القضائية، ذلك لتعلقه الوثيق  والقوي  برأي  النيابة  العامة  التي  يضعها  القانون بدورها في شبكة تأثر واضحة داخل المجال الإداري سواء منه الراجع  إلى وزارة العدل(33).  أو لهيئات السلطة المحلية التي تدبر استعمال العصا السحرية المسماة بالنظام  العام  أو الإدارات  المعنية  مباشرة  بممارسة  الدعوى  العمومية  في تناقض صارخ مع متطلبات الضمان الحقيقي لاسترجاع المال العام  أو  حتى  لتحقيق  فرصة  جبر الضرر الخاص. وقد يكون أبلغ دليل على هذه الظاهرة ما تزخر  به  الندوات  التي  نظمتها  وزارة  العدل  ذاتها  في  الموضوع  والمجهودات المستمرة للتخفيف من تكدس السجناء والإستعمال الدائم لمؤسسة العفو. ويكتسب هذا العيب قوة أبلغ بمناسبة منح السراح المشروط أو السراح الإستثنائي قبيل صدور عفو على السجين.

في إطار العمل بالسراح المشروط أو  الإفراج  المقيد  بشروط، يلاحظ أن  هذه  الوسيلة  الهامة  في  السياسة  الجنائية(34).  مقررة في التشريع المغربي للمسطرة  الجنائية  منذ  صدور قانون 1959،  ورغم كل  إيجابياتها  لم  تعرف  أي تطبيق يذكر باستثناء حالة أو حالتين. ومن الجدير بالتسجيل أن المشروع أكدها ولو أنه لم يدخل  على  نظامها  القانوني  تحسيناً  يتناسب مع الظروف الراهنة. فبعدما كان رئيس السجن يعد ملف طلب التمتع بالإفراج المقيد بشروط تلقائي اً أو  بناء  على طلب من المحكوم عليه أو عائلته، صار علاوة على من ذكر، بالإمكان أن يعد  الملف  بناء  على  تعليمات  من   وزير العدل  أو مدير إدارة السجون أو بمبادرة من قاضي تطبيق العقوبات. بقدر  ما  نستحسن   فكرة   إشراك   قاضي   تنفيذ  العقوبات،  بقدر ما نتساءل عن سلامة تخويل الصلاحية الفردية لإدارة السجن ولمديرية السجون ولوزير العدل من غير إشراك لجهات صار لها دور معترف بفائدته في هذا الميدان. ذلك أن كل هذه الجهات، ومهما بلغت  درجة  موضوعيتها  ونزاهتها ومهما بلغت درجة دقة  وعمق  معرفتها  بحالة  السجناء،  فإنها  تبقى  تحت  رحمة  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 33 / أي الحكومة بصفة عامة.
34 /Laplatte, La libération conditionnelle, Rev.pénit.et de droit pén, 1949, p.359; Graven, Ce que devrait être  la libération conditionnelle des détenus, même rev., 1950, p.319; Aberkane, La libération conditionnelle comme mode de réadaptation sociale, Rev.sc.crim, 1957, p.527.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مساعديها  في الإطلاع على الحقيقة  المجردة.  بالتالي لن  يكون الدور المنتظر منها مجدياً إلا  إذا  تكامل  مع  دور  جهات  أقرب  إلى  الموضوعية  مثل  قاضي  تنفيذ  العقوبات والجمعيات العاملة في ميدان تتبع وضعية السجناء وإصلاحهم وإعادة إدماجهم. 

من جهة أخرى، لا نفهم لماذا يبقي المشروع على شرط التزام طالب الإفراج  بالإنخراط  في  القوات  المسلحة؟ هل نسي واضع المشروع أن الإنخراط في هذه المؤسسة  يتطلب  مؤهلات  جسمية  وعمرية  وتعليمية نادراً ما تتوفر  في  المعني بالأمر؟ أم هل نسي أن الإنخراط المذكور يخضع للقوانين والأنظمة والحاجيات المتعلقة  بهذه  المؤسسة؟ ولا يوجد  مبرر قانوني ولا علمي لإجبارها على الإستجابة لالتزام السجين بالإنخراط في صفوفها.  في  إطار  التطور الحالي للبلاد، وفي إطار نهج سياسة جنائية هادفة إلى الإصلاح وإعادة الإجماع، كان حرياً بالمشروع أن  يضع  شروطاً أخرى للإستفادة من هذا السراح، تكون قابلة للاثبات وللبرهنة على استحقاق المرشح مثل حصوله على شهادة بالدراسات الأساسية أو الثانوية أو العليا، أو بشهادة تكوين مهني.

كما كان من الأولى اشتراط إثبات خدمة معينة قدمها المرشح للمؤسسة السجنية أو لجهة أخرى تدل على اندماجه وتحسن سيرته وسلوكه. كما كان بالإمكان اشتراط تمكن المرشح من حفظ القرآن الكريم.

نجلب الإنتباه بذات المناسبة إلى الفائدة من اعتماد هذه الشروط في نطاق تفعيل مؤسسة العفو كذلك. لا جدال في ضرورة مراجعة شاملة لهذه المؤسسة إن على مستوى الشروط الواجب توفرها في المستفيد  أو  على   مستوى  المسطرة المطبقة أو حتى على عدد المناسبات التي يتم فيها إعمالها. ويجب الإعتراف بأن  المشرع أغفل  كل  هذه  المسائل  رغم  النقاش الذي تثيره على الساحة القضائية والإجتماعية.

وأغرب من ذلك أن يسكت المشروع عن الإفراج الإستثنائي الذي يجوز لوزير العدل  أن  يأمر به  لفائدة  المحكوم  عليه بسبب جنحة أو مخالفة ريثما يتم البت في طلب العفو  المرفوع  لفائدته(35).  لاشك  بأن  هذه  رخصة  استثنائية  يضعها القانون بين يدي وزير عدل ليمارسها في ظروف جد خاصة مثل مرض المحكوم عليه. لكن خلوها من أي شرط ومن أية مسطرة موضوعية، بصرف النظر عن وجود طلب  سابق  للعفو،  يجعل  منها  مؤسسة  قابلة  للاستعمال  خارج  نطاقها المعقول والمشروع، وأخطر من ذلك خارج نطاق المراقبة. لذا كان  جديراً  بالمشروع أن يعيد النظر فيها بما يتناسب مع التوجهات التي يوحي بها.

3) إنهاء الدعوى العمومية:
 من خلال مناقشة ظروف حفظ الشكاية سواء مباشرة على مستوى النيابة العامة أو على مستوى  الإدارة المركزية، أو من خلال ضوابط سحب الشكاية عند صدورها من لدن الإدارة  العامة، أو قواعد الصلح كمؤسسة  وقائية للشرخ المترتب عن البت القضائي، بما في ذلك الصلح بين المتقاضين العاديين  أو بين  الإدارة  والمتقاضين؛  أو الطعون  التي  تتعرض  لها الأحكام الجنائية خاصة منها الطعن لفائدة القانون حين يتبين أن الأحكام الصادرة تنطوي على تأويل أو تطبيق للمقتضيات القانونية غير مطابق للصواب نظراً لمخالفته لمضامينها أو للقواعد العلمية التي تسري عليها. وكذلك الأمر بالنسبة للطعن من  أجل  مراجعة  أحكام  جنائية  عندما  يبرز  وقائع  جديدة  يتضح  معها  أن  الأحكام  الصادرة   مرتكزة  على  خطإ 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 35 / الفصل 53 من القانون الجنائي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبالتالي فإن القواعد القانونية التي تعملها لا تسري على النازلة. ولن نتوقف من جديد عند هاتين الصورتين لسبق الإشارة إليهما اعلاه. كما أننا لن نتوقف عند إنهاء آثار الدعوى العمومية من خلال  إنهاء آثار العقوبة على صعيد السجل القضائي أو العدلي وعلى مستوى مسطرة رد الإعتبار للمحكوم عليه، لأن المؤسسة  الأولى  تتطلب  نوعاً  آخر  من  الإصلاح بما يوفق بينها وبين عمل الإدارة العامة للأمن الوطني في إطار استعمال بطاقة  القياسات الجسمية المستعملة في تحقيق هوية ذوي السوابق الجنائية. بالتالي لن نتعرض في هذه العجالة إلا لثلاث  مساطر  تلعب  دوراً  في  الدعوى  العمومية  تتعلق إحداها بالحفظ من لدن النيابة العامة، وترجع الثانية إلى إجراء الصلح مع  المشبوه وتخص  الثالثة إمكانية سحب الشكاية.

3 ـ 1) الحفظ، من لدن النيابة العامة:
لا شك أن النيابة العامة تتوصل يومياً بعدد من شكايات المواطنين فيها  ما ينطوي على جدية الوقائع ومنها ما لا علاقة له بالقانون الجنائي ومنها ما يشتمل على معطيات تفرض التساؤل عن  ملاءمة المتابعة الجنائية في  ظروف معينة. ولا شك أنه يجوز لها في عدد لا يستهان به من الحالات الأخيرة أن  تحفظ الشكاية  إلى  أن  تتأكد  وتقتنع  بما  يجب فعله. ويبقى قرارها هذا مجرد تصرف إداري لا يرتب أثراً قضائياً على  مضمون  التظلم،  ويخضع  لمراقبة  القضاء  الإداري  عند الحاجة. ويلاحظ أن ممارسة هذه الصلاحية تثير قلق وانزعاج  عدد  من  المتقاضين  لما يعيبونه عليها أحياناً من مجانبة للصواب أو من إهمال لصاحب الشكاية الذي يجهل مصيرها، هل  هو  الحفظ  أم  قيام  النيابة  ببحث  أو بإجراء آخر؟ واستجابة لهذا التساؤل جاء المشروع بقاعدة إلزام النيابة بإخبار المشتكي بالحفظ داخل أجل معقول لا يتجاوز الأسبوعين. ومن شأن هذا الحل أن يساعد المتظلم على اتخاذ ما يراه مناسباً سواء  بالتخلي عن  المتابعة  أو  بنهج  مسطرة  الدعوى المباشرة أو بالطعن في قرار النيابة العامة. ويجب الإعتراف بإيجابية هذا الموقف.

لكن بصرف النظر عن هذا التحسن المجرد، فإن المشروع يظل قاصراً عن بلوغ  الهدف لأنه يحدد انطلاق الأجل ابتداء من تاريخ قرار وكيل الملك، بحيث يحق التساؤل عن المدة التي يجوز للنيابة العامة أن  تستغلها  لاتخاذ  قرارها؟ ذلك أن المشتكي سوف يبقى جاهلاً بمصير تظلمه لأجل غير مسمى قد يطول أو يقصر حسب ظروف وكيل الملك. وهذه وضعية تكاد لا تغير من واقع القانون الحالي شيئاً. من جهة أخرى، يلاحظ أن المشروع صامت عن  معايير  حالات  الحفظ وعن أسباب القرار الصادر بشأنه، بحيث يترك المجال واسعاً لمواقف من النيابة  العامة  يخشى  أن  تبتعد  بها  عن  رد الفعل المناسب حماية لحقوق الأطراف ولنظام المجتمع وللسياسة الجنائية(36).  ومن نافلة  القول  أن  نذكر بعلاقة النيابة العامة مع السلطة الإدارية سواء منها وزارة العدل أو غيرها مما سبقت الإشارة إليه أعلاه.

3 ـ 2) سحب الشكاية:
في إطار سياسة جنائية متبصرة يعتمد المشرع المغربي منظرواً واقعياً  للضرر  في  المادة  الجنائية . فهو ينطلق من مبدأ نظام المجتمع بحيث لا يجرم إلا الوقائع المضرة بهذا النظام، ويترك لمقتضيات  القانون  المدني  موضوع  جبر وإصلاح 
الأضرار التي تلحق مصالح الأفراد التي لا تمس ذلك النظام .  لكن  الواقع  يفرز أوضاعاً  معقدة  تتداخل  فيها  المصالح الخاصة مع نظام المجتمع. وعندما يتبين أن تلك المصالح أولى  بالحماية  فإنه لا يتردد في إعطائها مكانة متميزة إذ يعتبر 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  36 / Davidovitch et Boudon, Les mécanismes sociaux des abandons de poursuites, in lannée sociologique, 
       1964, p.111 et s.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أن نظام المجتمع لا يكون معنياً بها إلا  حين يطلب منه ذلك، بحيث يقيد التجريم أو على الأصح الدعوى العمومية بشكاية من الضحية المباشرة ويربط ممارستها بعدم سحب تلك الشكاية. ولربما كان أهم مثال على هذا النهج  يرجع إلى  حماية  انسجام  الأسرة،  ولكنه  يوجد أيضاً في حالات يفهم منها أن مصالح الضحية أجدر بالحماية كما هو الشأن بالفصل 522 من  القانون  الجنائي  المتعلق  باستعمال عربة ذات محرك في غفلة أو ضد إدارة صاحب الحق فيها، حيث  يتطابق  الأمر  مع  سرقة الإستعمال وليس  مع سرقة التملك، والفصل 422 وما بعده المتعلق بالقذف، والفصل 281 الخاص بتصرفات  بعض  مموني القوات المسلحة الملكية.

لا نعارض في ضرورة الإستمرار في هذا النهج لما نومن به من فوائده. بل  أكثر  من  ذلك   نحبذ  توسيع  نطاقه  ليشمل حالات متعددة أخرى تفرزها الحياة الإجتماعية اليوم ويبررها نوع من القياس المحدود على  ما تتمتع به النيابة العامة من صلاحية تقدير ملاءمة المتابعة. وفي هذا الإتجاه يجدر الإنتباه أن  سحب  الشكاية  المنظم  بشروط  ضامنة  لحماية  نظام المجتمع وحقوق الأفراد يعود إلى مسطرة  أقل  مخاطر  من  إجراء  الصلح، لأن المفروض  فيه  أن  يصدر  تلقائياً  عن المشتكي، سواء لمجرد اقتناعه الصميم بجدواه، أو تبعاً لصلح أبرمه مع خصمه خارج أي تدخل قضائي.

بصرف النظر عن مزايا هذا الإجراء يظل من الواجب الإعتراف  بعيوبه  في  القانون  الحالي،  وبسكوت المشروع عن ضرورة إصلاحها في إطار السياسة الجنائية التي يجسدها. من  هذه  الزاوية، لا يستبعد  أن  تستعمله  الضحية  أو الجهة المتضررة مباشرة انطلاقاً من سلوك المشبوه كسلاح للضغط عليه  من  أجل تحقيق غاية معينة بحيث يتحول من مسؤول إلى ضحية. كما يمكن أن يمارس المشتكي سحب شكايته بتهور أو عن جهل  بما  يترتب  عن  ذلك  من  عواقب  مضرة بمصالحه أو حقوقه أو بمصالح وحقوق الغير. ولعل ما سبق التعبير عنه من ضرورة تنظيم صلاحية النيابة العامة بصدد حفظ الشكاية يرتكز على أسس قانونية وواقعية أمتن فيما يتعلق بسحب الشكاية من لدن المشتكي لأنه لا يتوفر حتى على ما تستفيد منه النيابة العامة من معلومات ومصادر معلوما ت لتحديد موقفها.

يضاف إلى ذلك ضرورة بيان الحد الفاصل بين المفهوم والنظام القانوني لكل من سحب الشكاية من جهة وإبرام الصلح أو التسديد من جهة أخرى لما يحتمل من تداخل  بينهما  خاصة  بصدد  صلاحيات الإدارة  العمومية  المسموح  لها  بتحريك وممارسة الدعوى الجنائية وإبرام الصلح لإنهائها.

3 ـ 3)  الصلـــــح:
يعتبر الصلح أو التسديد بين الخصوم كذلك من التدابير التي  تعتمدها  السياسة  الجنائية  الرصينة من أجل تجنب الحلول الجراحية التي تنطوي عليها الأحكام والقرارات القضائية بكل أنواعها، والتي تسفر عن  شروخ  في  العلاقات  الإنسانية والإجتماعية يبقى من الصعب اندمالها. ولا تقل فائدته ولا تتغير حسب طبيعة المتقاضين  بحيث  يحبذ  اللجوء إليه سواء كانوا من الخواص أو من الإدارات العمومية والخواص.

وسواء كان الصلح في إطار الدعوى المحركة من قبل الإدارة العمومية،  أو  في  إطار  الدعوى  الممارسة من قبل النيابة العامة ضد شخص من الخواص فإن مجاله يقتضي إعادة النظر في مفهوم  الجريمة  والضرر  المجتمعي  المترتب  عنها، للتمييز بين نوعين: الجريمة الطبيعية والجريمة الإصطناعية.

فيما يخص الأولى، يرجع الضرر إلى المس بحق كوني كالحياة أو الملكية أو الطمأنينة  العامة أو السلامة الجسدية، يكون عمق الجرح المترتب عنه في ضمير المجتمع من القوة والخطورة بحيث لا يسمح بالتخلي  عن  الحق  العام في رد الفعل المجتمعي، بصرف النظر عن حق الضحية المباشرة في جبر الضرر. وطبقاً لذلك لا يبقى مجال للحديث  عن الصلح لأن السياسة الجنائية تقتضي أنزال العقاب على الجاني.

أما بالنسبة للجرائم الإصطناعية أو المفتعلة أو التي ترتكز على النظام العام الإقتصادي والإداري والبيئي  وما شابه  ذلك، فإن من شأن الصلح أن يعيد الأمور إلى حالتها الطبيعية ويصحح الأخطاء ويجنب النتائج الجراحية المشار إليها.
ولحد الآن لم يكن القانون يسمح بالصلح إلا للإدارة التي يعطيها صلاحية تحريك  وممارسة الدعوى العمومية، ويمنعه في غير تلك الفرضية ولو على النيابة العمومية لأن سلطتها لا تشمل التصرف في  الحق  العام(37).  جاء  المشروع  بقاعدة جديدة يجوز بمقتضاها للنيابة العامة أن تسدد بين الخصوم الخواص  وتنهي  الدعوى  أو على الأصح  تتجنب ممارستها. وإننا إذ نؤكد موقفنا من تحبيذ الصلح وتجنب الدعوى، وننوه  بتوجه  المشروع  في  هذا  الإتجاه، لا يسعنا إلا أن نعترف بضرورة تصحيح الحل الذي جاء به وتحسينه. في هذا النطاق نرى من الضروري حصر تطبيق التسديد في الجرائم التي لا يكون فيها النظام المجتمعي ضحية لفعل مس الحقوق الكونية المحمية من خلال  الجرائم  الطبيعية .  وحتى إن اقتضى الأمر ذلك بالنظر إلى سن الجاني أو ظروفه  المختلفة،  يستحسن  أن  يستعمل  الصلح  كوسيلة  للتخفيف  من  العقاب أو لاختيار عقوبة بديلة عن سلب الحرية.

من  جهة  أخرى  حين  تقتضي  السياسة  الجنائية  في  الجرائم  الإقتصادية  والإدارية والبيئية وغيرها مما تخلقه الحياة الإجتماعية اليومية من احتكاك مع السلطات  المختلفة  من  جرائم  اصطناعية  تفرض  ظروف  السياسة  العامة  الوقتية اعتمادها، أو في النطاق المحدود للجرائم الطبيعية المشار إليه آنفاً، العمل  بالصلح فإنه يجب  إرجاع الإختصاص فيه إلى الجهة أو هيئة محايدة، سواء دخلت في التنظيم القضائي أو كانت خارجة  عنه،  ولا يعقل  تكليف  النيابة  العامة به لأنها طرف خطير في الدعوى العمومية ولا يمكن أن نتصور فيها صفات الجهاز  المؤهل  لتحقيق الصلح، علاوة على مكانتها في مخيال المتقاضين بالمغرب وعلاوة على ثقافة السلطة الراسخة في نظامها القانوني وفي عملها اليومي.

على هذا الصعيد يمكن القياس على ما يعمل به  القانون  الحالي  بالنسبة  للإدارات  المؤهلة  لتحريك  وممارسة  الدعوى العمومية التي لها وحدها صلاحية إبرام الصلح مع خصمها. بناء عليه  يجدر بالمشروع أن يقرر صلاحية وكيل الملك في إنذار المشبوه بالتصالح مع خصمه في أجل معين،  تحت  طائلة  المتابعة  الجنائية.  ويترك  الحرية  للمعنيين  المباشرين بالصلح في أن يتوجهوا إلى الجهة التي يرونها مناسبة إذا عجزوا  عن  الإتفاق فيما بينهم. ويحدد أخيراً مسطرة أو إجراء للتأكد من سلامة الصلح المتوصل إليه من أي عيب حتى تجنب التعسف أو التحايل على القانون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
37 / Hémard, Les transactions en droit pénal économique, Rev.sc.crim.suppl., 1958, p.56; Dupré, La 
      transaction en matière pénale, 1977.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الدكتور محمد العلمي المشيشي
      أسـتاذ التعلـيم العـالي
مجلة الاشعاع ، العدد: 27، ص: 6

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : القانون الجنائي المغربي