-->

فتاوى العلمانيين وإقصاء الدين من دولة القانون { موازنة بين المقدسات الدينية والسياسية }


ذ. احمد باكو
من أعاجيب هذا العصر، ان بعض الذين يفتون في شؤون الإسلام ويحللون فيها ويحرمون، لا علاقة لهم بالدين وقواعده وضوابطه، ولا علاقة لهم بالفقه ولا دراية بالحديث وعلومه، والتفسير ومناهجه. ولم يسمعوا أبدا عن أصول  الفقه  ومقاصد  الشريعة  الإسلامية،  وطرق استنباط الأحكام من نصوصها، ودلالة الألفاظ، والفرق بين المنطوق والمفهوم، وطرق الترجيح عند التعارض . الخ ..
بل ان اغلب هؤلاء من الشعراء الهائمين في كل واد، او الصحافيين الراكضين وراء الخبر المثير، والفضائح الصحافية التي ترفع المبيعات .

وقد انضم اليهم اخيرا بعض الممثلين، لاسيما بعد تطور السينما الى ان  أصبحت دعارة صريحة،  بوجه اثار  تقزز  بعض  نجومها  انفسهم،  وحملهم على هجرها والتبرؤ منها. فظهر من أصحاب السينما والتمثيل طائفة من المفتين، اخذوا يرددون بإلحاح وفي كل مناسبة، ان السينما بحالتها، وكذا سائر الفنون الراهنة المتعارف عليها عالميا، ليست حراما ولا يمكن ان تكون كذلك، لاسباب متعددة،  منها  ان  الاسلام لا يمكن ان يكون ضدا على التقدم، ومنها، كما قال بعضهم، ان الفنون الجميلة والله يحب الجمال ! !

وقد اسرف هؤلاء وتعسفوا، حتى حللوا محرمات ثابتة الحرمة بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، وتجرأوا على ان يعتبروا كل فنون الحضارة الاوربية، بحالتها التي تخرج بها من ايدي تجارها في هوليود وغيرها، وبواقعيتها المشهورة، ما لا يجوز ان يتدخل فيه الدين بالتحريم .

واذا كنا قد سمينا كلام هؤلاء واراءهم فتاوى، على الرغم من انها من لغو القول وسقطه بل  من  الكلام  المؤذي، الذي  يوجب  العقاب، فلانهم يعتبرونها كذلك، ويرددون بها على كل من قال الحق في هذه المناكر، ويشيعونها بين الناس، عن طريق وسائل الاعلام التي يحتكرونها،  لحملهم  على الاقتناع، بان الاسلام لا دليل في نصوصه على ما يحرم فنونهم هذه، على الرغم من كل ما بلغته من افراط في انتهاك الحرمات. وقد توصلوا من  ذلك  الى تضليل طائفة كبيرة من الناس، اصبحوا يعتقدون ان كل ما تنتجه الحضارة الاوربية بعلمانيتها واباحيتها، من " العمل الصالح" الذي يجب المبادرة اليه والتنافس فيه !

على ان السبب الاكبر والاخطر،  الذي يحملنا على ان  نعتبرها  فتاوى  على هذا النحو، هو ان دولنا الاسلامية تضفي عليها هذا الطابع المحترم، وتصغي اليها وحدها، دون الفتاوى الصادرة من ذوي الاختصاص والكفاءة، بالاستناد الى الكتاب والسنة، وتنفذها فعلا، بتحليل واباحة كل ما يقدمه تجار الفنون اليوم، هنا او هناك .
فالسلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، في بلادنا الاسلامية اليوم، لا تعمل الا باراء  العلمانيين من هؤلاء الادباء والصحافيين  والفنانين.

فعندما يثور الجدال في بعض البرلمانات الاسلامية، حول  بعض المناكر التي تعرض باسم الفن ( ولا يكون ذلك الى حين يظهر ما هو خارق للعادة في هتك الحياء)، فان الاحتكام والقول الفصل، يكون في النهاية لاراء الفنانين انفسهم، والاقلام التي تنهض للدفاع عنهم، باسم حرية التعبير والابداع،  وليس الاستناد الى نصوص الكتاب والسنة، واقوال المختصين في تفسيرهما والافتاء بمقتضاهما !
وكذلك تفعل السلطة التنفيذية، وهو نفس ما تفعله السلطة القضائية، التي قلما سمعنا انها تجرأت على ان تمنع عملا فنيا هابطا وساقطا، مهما بلغت درجات هبوطه .

واذا حدث ان تدخلت سلطة ما، لتقوم بما يجب، لحماية حياء المجتمع وحرمة الاسرة فان عليها ان تتوقع غارة عشواء شعواء، من هؤلاء المفتين وشيعتهم، الذين يتدخلون بالكلام المنطوق والمكتوب والمرسوم، الذي يتجه بالاحتجاج الى فقهاء الدين، الذين لا يحق لهم ان يتدخلوا في الفنون، ليضعوا فيها الحدود والقيود، حتى تنتهي المعركة بانتصارهم، وعلو باطلهم على كل شيء، فترى مناكر تحكم الفطرة بداهة باستقباحها، شائعة نافقة، رائجة بحماية من الدولة بكل سلطاتها .

انه موضوع  كبير واسع، يرتبط بكل نواحي الحياة ويتشعب اليها،  وله علاقة كبرى بالقانون نفسه، لانه لابد ان يجد كل من يتناوله نفسه وجها لوجه، امام اشكال خطير هو، مركز الاسلام في الدستور، وواقعه الذي يعيشه الناس، ومعنى التزام الدولة بحمايته، ومدلول هذه الحماية ومداها، وغياب كل اثر لذلك في واقع الناس ولو في حده الادنى .
ولهذا فان تناول الموضوع لابد ان يطول بنا ويتشعب، لانه يتطلب اولا، ان نعرض نماذج من هذه الفتاوى العلمانية، لنتأكد من جرأة اصحابها وفضولهم، ومدى تفاهة ما يهرفون به من لغو وسقط الكلام، ويتطلب ان نبحث فيما يستندون اليه، من نظريات ومذاهب مادية، اصبحت الان خرافات بعد ان كشف الواقع خللها، من خلال المعاين في حياة الناس، في كل دولة العلمانية .

وبعد هذا سنجد انفسنا مجرورين، الى مواجهة معضلة محيرة، هي حالة الاسلام في الواقع، ومركزه النظري في نصوص الدستور، ومدى التضارب والتناقض الحاصل بين الامرين،  والعواقب المرة الناتجة عن ذلك، وكيف تدهور الامر، الى ان اصبح المنكر معروفا محميا من السلطة، ان لم نقل مأمورا به، والمعروف منكرا مخذولا منها، ان لم نقل منهيا عنه ومعاقبا على فعله. وكيف ان المسلم اصبح محروما من حق يعدل حقه في الامن والحياة، وهو حقه في ان يعيش اسلامه كما انزله الله وامر به، وثبته في كتابه المحفوظ من عنده، وان يحي مكارم الاخلاق،  كما بلغها وعلمها رسوله الكريم (ص)، من غير ان تهاجمه المناكر كالطوفان، حتى تقتحم عليه بيته وخلوته مع اهله وذريته، دون ان يجد حماية ممن يجب عليه قانونا  وعرفا ان يقوم بهذه الحماية !

وبعد ان يرهقنا استعراض هذه الماسي المحزنة، نختم بوقفة امام رسولنا العظيم، سيد الاولين والاخرين،  لنقدره قدره ونتعزى بما تحمله وكابده، هو واصحابه الكرام، من اذى ومحن، لاجل ان يبلغونا رسالة الاسلام،  ومكارم اخلاقه،  التي لم تزدها ظلمات عصرنا المادي الا تلألؤا ولمعانا .

- 1 -
فتاوى العلمانيين
لأقلام بعض الكتاب العلمانيين من الصحافيين والادباء، جرأة كبيرة على الاسلام،  تصل احيانا الى المجادلة في ضرورياته، من واجبات ومحظورات،  بل تصل الى جحود بعض حقائقه الكبرى، والتدخل لتحليل بعض محرماته، ولا ينافسها في هذه الجرأة، الا ألسنة بعض السياسيين، حين يخطبون ويخطبون في بعض المناسبات، فيتحدثون لشعوبهم في قضايا الدين، بما ترتاح اليه أذواقهم  السياسية، وتستحليه أهواؤهم الشخصية !
ويزداد العجب من هذه الجرأة، بجميع صنوفها، حين تصدر في عصر يعرف فيه الناس جميعا، معنى التخصص وضرورته، ويعلمون انه لا يستطيع، ولا يجوز ان يتكلم في مسالة الا اهل الخبرة، المشهود لهم بالاختصاص بدرايتها .

ومن يستطيع ان يجادل في ان تفسير نصوص الدين والافتاء في قضاياه، يتوقف على تخصص فقهي، لابد منه لاكتساب الملكة الفقهية الضرورية لذلك ؟
ومن يستطيع ان يجادل في ان تحصيل الملكة الفقهية، المؤهلة لتفسير نصوص الدين والافتاء فيه، تتوقف على دراسة متينة شاملة لشتى العلوم الموضوعة لمعرفة اللغة ودلالاتها، والبلاغة واساليبها، واصول الفقه، ثم دراسة متينة للغة التشريعية وكيفية استنباط الاحكام، واستخلاص مقاصد الشريعة، على مقتضى الاحوال العامة والخاصة ؟

وربما كان العامل المغرر بهؤلاء للإقدام على هذا، هو ذلك الزعيم الذي يرددونه كلما عيب عليهم ما يقولون، وهو وانه لا حق في احتكار الدين، وتفسير نصوصه. وهذا صحيح. ولكن استشهادهم به خارج عن الموضوع. فهو  من الحق الذي يراد به الباطل !
فاذا كان لا يحق لاحد ان يحتكر الدين والكلام فيه، فانه لا يجوز لمن يريد ان يتحدث في امر من اموره، ان يقدم على ذلك، من غير معرفة تؤهله لان يقول، ويحتج لقوله، بما يقنع من براهين ودلائل شرعية، بعيدة عن الاهواء الشخصية، وما تميل اليه النفوس من الترخص والتحلل .

ولا ريب ان السادة الذين يتسابقون من حين لحين، لينازعوا في بعض الاوامر والنواهي الشرعية، يعلمون بالتجربة، والممارسة، ان اي واحد منهم، مهما بلغت ثقافته الخاصة ومعارفه العامة، لا يستطيع، حين تطرأ عليه مشكلة قانونية، قضائية او ادارية، ان يراجع مدونات القانون وكتب الفقه، لياخذ الحل منها، ويفتي لنفسه بما يجب، بل لابد ان يستعين باهل الخبرة القانونية، الذين يعرفون لغة القانون وإلغازه واصطلاحاته، والمعاني الخاصة التي لا تنكشف الا بالممارسة والتطبيق، ولو ان احد منهم اراد ان يتحدى وذهب ليراجع مدونات القانون واسفار الفقه، لتاه بين مصطلحات ومفاهيم، لا يخرج منها الا بنتيجة واحدة، هي ازدياد التيقن بانه عاجر عن الوصول الى راي او فهم يفتي به لنفسه .

نماذج من هذه الفتاوى
ما اكثر النماذج التي يمكن سوقها امثلة لفضول الادباء والصحافيين والسياسيين، حين يتدخلون لتفسير النصوص الشرعية، ويفتون  في بعض المشاكل، التي تنجم احيانا عن الصدام، بين ما يوجبه  الدين وما تستحليه الاهواء،  تبعا للعصر وأحواله !

صحافي يفتي بإباحة البغاء للضرورة
في العقود الاولى من هذا القرن، ثار الجدال في احدى دولنا الاسلامية حول " البغاء الرسمي"، الذي جلبه الاستعمار، وهل يجب القضاء عليه وإجلاؤه مع الاستعمار وجنوده، فانبرى احد مشاهير الصحافيين، ليفتي بان هذا المنكر، يجب قبوله والابقاء عليه. والسبب الذي علل به فتواه، هو " الضرورة" التي تبيح "المحظورات" !
والضرورة التي يقصدها صاحب الفتوى، هي احتياج الناس الى السفاح ! وكانه يرى كل انسان له الحق في ذلك ان يتزوج او يموت، اذا اختار العزوبة الدائمة. ولا يخفى ما في هذا الفهم من خطر وبعد  عن المنطق والفطرة، لان صاحبه يجهل او يتجاهل، ان القصد من تحريم السفاح، هو حماية الزواج، ودفع الناس اليه، لانهما ضدان يتنافيان، يطرد احدهما الاخر، وان اباحة السفاح، لابد ان يؤدي الى الاستغناء عن الزواج، وطرده طرد العملة الرديئة للعملة الجيدة، حسب القاعدة الاقتصادية الثابتة بالتجربة .

وعصرنا الذي اشتهر باستفحال العنوسة وازمانها، شاهد على ذلك، فمهما تكن الاسباب التي تساق عادة لتعليل العزوف عن الزواج، فان السبب الفعال في المعضلة هو ان الطريقة الغربية العصرية، التي يتعايش عليها الناس، وما ادت اليه من تقريب النساء من الرجال، من غير قيد ولا ضابط، رفعت ذلك الاحتياج الفطري، الذي يجعل الرجل  لا يفكر في المرأة الا ليتزوجها، باعتبار ذلك امرا لا بديل له ولا يغني عنه حل اخر .

ولو طاوعنا صاحب الفتوى في عقله وفهمه، لوجب ان نبيح كل الجرائم لان كل جان يمكن ان يبرر جنايته بضرورة ما !
فالسارق حين يرتكب السرقة، يكون مدفوعا بحب المال والرغبة في الاغتناء. وحب المال رغبة غلابة هي التي تحمل الناس على الكد والكدح لتحصيله، بالطرق المشروعة. فاذا جاء شخص واختار ان يكتسب المال بتنظيم عصابة، لتسور المنازل وكسر الخزائن، فانه بلا ريب، يكون نفسيا واجتماعيا، مدفوعا بعاطفة طاغية، هي حب المال، وحق الناس في الاغتناء والامتلاك، لدفع العوز وعواقبه الخطيرة، واكتساب الاحترام بالانتماء الى طبقة الاثرياء !

فهل نقول ان هذا السارق معذور، ونهيئ له السبيل لاشباع شهوته البشرية الطبيعية الى المال ؟ لا ريب اننا اذا فعلنا هذا فان العاقبة هي ان تطرد السرقة عقد البيع، وكل انواع المعاملات المشروعة لاكتساب المال، ويتحول الناس الى استثمار عضلاتهم الجسمية، ومواهبهم العقلية في السلب والنهب .
وهذا ما جربته الانسانية من قديم، فوجدت ان الحياة لا يمكن ان تستقيم به. وانه لابد من نظام ودولة تحمي المشروع من المعاملات، وتمنع غير المشروع وتعاقب عليه. وقديما قال الشاعر العربي : لا يصلح الناس فوضى  . (1) .
-------------------------
1)  قائل هذا هو  الشاعر الجاهلي الافوه الاودي،  والبيت بتمامه هو :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة  لهم                         ولا سراة اذا جهالهـــم ســـادوا
وهو شعر يورده الفقهاء في مبحث الامامة العظمى، للاستدلال به على انها واجبة عقلا. وهذا المعنى الساذج الذي عبر عنه شاعرنا الجاهلي، هو ما طوره اصحاب المذهب الطبيعي في نشوء القانون، كما صاغه بالخصوص جان جاك روسو في نظرية العقد الاجتماعي .
--------------------------
أخر يؤول القرآن بما يفيد انه يمنع التعدد
وكان صحافي آخر يردد فتوى عجيبة، في قضية تعداد الزوجات، هي ان القرآن الكريم حرم التعدد ولم يبحه، لكون الجمع بين الآيات الواردة في ذلك، يؤدي الى المنع لا الى الاباحة، لانه بعد ان نص على جواز التعدد بشرط العدل، جاءت الاية اخرى لتقول : { ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم}. فكان نفي استطاعة العدل، دالا على ان استحالة تحقق الشرط، وهذا يفضي، حسب فهمه، الى ان التعدد ممنوع !

وكأني بصاحب هذه الفتوى، وقد كان يجمع بين الصحافة والمحاماة، يريد ان يقدم مرافعة قانونية، يبرئ بها الاسلام من التعدد، الذي دأب الغربيون على نعيه على الاسلام،  واعتباره من الدلائل القوية، على تحقيره للمراة، وكأني به كان يسعى الى ان يحث برلمان بلاده، وقد كان عضوا فيه، على اصدار تشريع يحرم التعدد، استنادا الى فتواه ومرافعته السفسطائية هذه !

وقد اسرف الغربيون كما هو معلوم في تعيير الاسلام بالتعدد، واعتباره البرهان الحاسم على احتقاره لجنس الإناث، والجور في قسمة الحقوق، بين الرجال والنساء وكل الذين تتلمذوا منا على الحضارة الغربية، وشربوا علمانيتها، يشعرون بالنقص من هذا التعيير ويودون لو كان التعدد ممنوعا عندنا كما هو ممنوع عندهم. من هذا الشعور جاءت مساعيهم المتعددة المتنوعة، لنفيه والتبرؤ منه، على نحو ما قلناه، بل ان بعض من وصل من هؤلاء الى الحكم لم يتردد في الغائه ومنعه واعتباره جريمة يعاقب عليها القانون !

وليس هذا الا دليلا على شدة تمكن الاستلاب الحضاري والثقافي في البعض منهم. وهو يبرهن على ضعف الشخصية في هؤلاء واحتقارهم لانفسهم، قبل ان يحتقرهم الغربيون، الذين في حياتهم، ما يغني عن المبادرة الى استعمال السفسطة، لتاويل النصوص الدينية، للتوصل الى ان القرآن يحرم التعدد ولا يبيحه، فما اكثر ما يمكن ان نجادل به الغربيين لإفحامهم، فيما ينعونه على الاسلام في شان التعدد. وما اكثر المخازي المخجلة التي يكفي التذكير بها لاسكاتهم .

اذ ان التعدد موجود لدى الغربيين، ومعمول به ومقبول لدى المجتمع، فاذا كان القانون عندهم يمنع الزواج بامرأة ثانية، فانه يبيح مسافحتها.  وهو يبيح ذلك من غير قيد ولا حد. اذ في استطاعة كل فرد ان يعاشر من شاء من الخليلات، من غير حصر. كما ان في استطاعة ان يزاني من شاء من البغايا من غير عد. والنتيجة ان كل زوجة هناك، تكون محاصرة بما لا يعد من الضرات من كل نوع، فيهن الخليلة المعاشرة، وفيهن البغي العابرة والرفيقة الطارئة وزميلة العمل والخادمة والسكرتيرة .. وليس من النادر ان تكون الخليلة زوجة للغير، وهنا يمتد تعددهم ويعم، ليشمل تعدد الزوجات والازواج معا !

ومن المعلوم ان المجتمع هناك، لا ينظر الى الخليلات  بعين الاحتقار والسخط، بل يرفعهن احيانا الى درجة من التبجيل والاحترام، يضن به على الزوجات، ويحدث هذا بالخصوص، بالنسبة للمشاهير، من الادباء والمفكرين والسياسيين، وكل نجوم المجتمع الراقي، اذ تراهم هنا ينسبون الى الخليلات كثيرا من الفضل على أخدانهن، ويعتبرونهن مصدرا لنبوغهم وتفوقهم وعبقريتهم وملهماتهم لهم فيما يبدعون من فن وادب. وعلى العكس من هذا فان الزوجات لا يذكرن الا بالسوء. بل يعبترن، في بعض الاحيان،  مصدرا لشقاء الاديب او الفنان، وسببا لعقمه وازماته النفسية !

وقد سئل احد الأدباء الأوربيين، وهو الروسي انطوان تشيخوف،  وكان يحترف الطب كذلك : كيف يجمع بين الطب والادب،  وكيف يستطيع  ان يمارسهما معا ؟ فلم يجد جوابا يرفع عجب السائل، سوى ان يقول : الطب زوجتي والادب عشيقتي ! وواضح من هذا ان الاديب الطبيب اراد ان يرفع استغراب من سأله بإحالته على امر مألوف مقبول لدى قومه، وهو الجمع بين الزوجة والعشيقة ! ومن الواضح ايضا انه يرفع مقام العشيقة على الزوجة، حين يشبه الاولى بالادب الذي اعطاه شهرته المعروفة !

وعند المقارنة بين ما عندنا وعندهم، نجد انه " لا عيب في تعددنا"، الا انه مقيد ومشروط، بان يرتبط الرجل بالمراة الثانية، بعقد يعترف لها بالحقوق الكاملة للزوجة، وان حصر ذلك في عدد معين، ووضع له شروطا، ثم جاء بعد هذا، وقرر ان كل زوج يرتبط بامراة بغير زواج، تكون عقوبته الاعدام رجما !

وكتابنا عندما يستاءون مما يقوله الغربيون عن تعددنا، يبرهنون عن غباء كبير، حين يسعون الى نفيه، بمثل هذا التاويل الغريب، للنصوص الدينية ويحجمون عن تحدي الغربيين بواقعهم، وما فيه من تعدد فوضوي، غير محدد ولا مشروط، تكون فيه الزوجة مطوقة، بما لا عد له ولا حصر من الضرات، بل يكون فيه بجانب الزوج احيانا أخذان يقاسمونه شريكة حياته !

اذ ليس من المعقول، ولا من المقبول  منطقيا، ان يكون التعدد شائعا بين الغربيين على هذا النحو الفوضوي المهين، ثم ياتوا لينعوا على الاسلام انه يبيح الزواج باكثر من واحدة، فاذا كانوا يرون ان التعدد عيب، وفيه أغماط للمراة، فانهم ملزمون برفعه عن نسائهم، قبل ان ينعوه على غيرهم، واذا كانوا  يرون ان اتخاذ الضرات عن طريق الزواج هو وحده العيب، دون اتخاذ الخليلات عن طريق السفاح، فالمصيبة اعظم !

واشد كتابنا امعانا في هذا الغباء، الذين رحلوا الى اروبا وامريكا،  وساكنوا الناس هناك، وعاشروهم، وعاينوا كيف يتعدد النساء على الرجال، ويتعدد الرجال على النساء، من غير ضابط، وقل من هؤلاء من لم يجرب ان تكون له ادوار، في تلك المهازل المخزية، التي تجري على النساء هناك. ونحن نتجرأ عليهم بهذا الاتهام، لان الكثيرين منهم حرصوا على تدوين تجاربهم ومغامراتهم في كتب، ما زالت نافذة لدى المراهقين ومقروءة  منهم بنهم شديد !

الا اننا نعلم بالتجربة، ان مثل هذه الحقائق، لا تقنع المستلبين، والمصابين بداء التغريب، ولا تريحهم وتزيل ما يشعرون به من نقص، لان مرادهم هو ان نلبس عيوب الغربيين، كما لبسنا ثيابهم، وان يكون لنا تعدد مثل تعددهم الفوضوي، ولو ادلى الى تعدد الزوجات والازواج معا !

ملكتهم تتحداهم
في تاريخ إنجلترا ملكة اشتهرت بالملكة العذراء، والسبب انها اضربت عن الزواج واختارت العزوبة الابدية، الا ان هذا كان يسخط عليها رجال دولتها، من الوزراء واعضاء البرلمان وغيرهم، فاكثروا عليها من إلحاحهم بالزواج، وحين استفزوها خرجت عليهم ذات يوم الى البرلمان لتقول : انكم تلحون علي ان أتزوج واترك حياة العزوبة، صيانة لحرمة الدولة، فهل بينكم من يستطيع ان يدعي انه يخلص لزوجته ! فسكت الجميع ولم يستطع احد ان يتحداها بجواب !

ان الاسلام لم يامر بالتعدد ولم يرغب فيه احدا، وانما عالج امرا واقعا بحل فيه اخف الاضرار، والى ان ينطق الاوربيون بالرد على التحدي الذي ألقته عليهم ملكتهم منذ قرون، والى ان يقدموا لنا مجتمعا مثاليا، لا يمارس فيه الرجال (والنساء ايضا) هذا التعدد الفوضوي، الحرام، فان عليهم ان يسكتوا والا فان كل انتقاد منهم للاسلام، لن يكون الا من قبيل استهزاء الشبكة بالغربال، كما يقول المثل !

قريبا نستريح من المشكلة
على انه يجب الا نغفل عن ان الامر، يتجه الان في الغرب الى " تطبيع" وضع الخليلة، والاعتراف لها تشريعيا بكل حقوق الزوجة، ان لم يكن قد حدث ذلك بالفعل، وهذه نتيجة لا يجوز استبعادها او استغرابها لان جمهورا كبيرا من المواطنين، في اوربا وامريكا اليوم، هم من مواليد الخليلات، وقد وصل الكثير من هؤلاء الى مراكز القرار في كل السلطات الدولة، لاسيما التشريعية. ولذلك فان من الطبيعي ان يسعوا الى الدفاع عن أمهاتهم على هذا النحو!

ولدي، في هذا، قصاصة صحافية قديمة، تخبر عن وجود مشروع قانون معروض على بعض البرلمانات الاوربية، يرمي الى  الاعتراف للخليلة بمركزها القانوني، والحقوق التي للزوجة، اقرارا للعرف الجاري به العمل من قديم، ومجاراة للحملة المشنونة على عقد الزواج، منذ مدة طويلة، كما يتجلى ذلك في عدة مظاهر تشريعية، منها الغاء جريمة الخيانة الزوجية، وتمديد جريمة الاغتصاب الى الزوج، وغير ذلك !

ولهذا فان من الاحسن ان يطوي المفتونون بالحضارة الاوربية قضية التعدد، ويكفوا عن اثارتها، لانهم يوشكون ان يفاجأوا بقوانين اوربية او امريكية،  تكرم الخليلة وتعطيها  كل الحقوق التي للزوجة، واذا راعى المشرع اعراف الناس، وهو فاعل قطعا، فلابد ان يحابي الخليلة بحقوق تفوق تلك التي تجب للزوجة، تبعا للاحترام الكبير الذي يضفيه المجتمع على الاولى !

وآخر يقول " ان القرآن يتسامح مع الدعارة !
ومن الامثلة الغربية، الى حد الإضحاك في الموضوع، ان صحافيا تدخل بمناسبة قضية سلمان رشدي، يدافع عنه كعادته في كل قضية يساء فيها الى الاسلام،  فكتب سلسلة من المقالات، ترك فيها قلمه يسيح ويسرح بدون لجام، ويرتجل الكلام بغير نظام، في امور من الدين ونصوصه، يفسرها حسب هواه، وكان مما وصل اليه، ان ما كتبه صاحب " الآيات الشيطانية" مطروق من غيره قبله، او مذكور في كتب التراث، ولا يستحق لذلك كل اللوم الذي انصب عليه .

وكان مما وصل اليه ايضا، ان الاسلام متسامح، ليس في نصوصه ما يسوغ التشدد الذي يظهره بعض المسلمين، كما وقع بمناسبة صدور كتاب آيات شيطانية.
وضرب المثل لرايه هذا بالاية الكريمة : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا، لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرههن فان الله على إكراههن غفور رحيم } (2). واعتبر خاتمة الآية برهانا على ان القران تسامح  مع البغاء وقبل التعايش مع اقدم حرفة، كما سماها  !
والمثال نموذج صريح للمدى المتطرف الذي يصل اليه بعض هؤلاء، في تجرؤهم على ارتجال  الكلام في امور الدين، وتفسير نصوصه حسب هواهم !

فالآية كما هو واضح من عبارات وسياقها، تتعلق بالإكراه وحكمه الشرعي على المكره والمكره. ومن المعلوم شرعا وقانونا، ان المكره لا مسؤولية عليه، وان من يكره غيره على جريمة فان إثمها وعقابها يكون عليه وحده، دون من كان ضحية الاكراه،  ولذلك فان الاية والفاظها،  تفيد ان خاتمتها الواعدة بالغفران، تنصرف الى النساء اللواتي يكن ضحية الاكراه، وليس لمن يبغي بهن ويكرههن على ذلك، حظ في هذا الوعد .

والاية نزلت لتنهي عن رذيلة وجدها الاسلام لدى العرب في الجاهلية، وهي اقتناء الجواري، لاستغلالهن في البغاء للاثراء من ذلك، وقررت النهي عن هذا الفعل نهي تحريم بطبيعة الحال. ثم نبهت الى ان نساء الواقعات تحت الاكراه، لا ذنب عليهن ولا عقاب، لان إثمهن يتحمله من اكرههن .
والرذيلة التي نهت عنها الاية، هي ما يعرف اليوم بتجارة " الرقيق الابيض"، التي تقام لها في عصرنا، ولدى الغربيين بالذات، اسواق صاخبة حامية، تكون فيها
-----------------------
2)  الاية 33 من سورة النور
-----------------------
النساء موضوعا للعرض والطلب، وموضوعا للاستيراد والتصدير والتوريد، تجد بعهضا في اماكن ظاهرة مثل الملاهي الليلية، وبعضها في اماكن باطنة خفية.  ويدير هذه التجارة ويقيم اسواقها اباطرة اشداء، استغلوا تحرر النساء من ضوابط الاسرة، فتملكوا رقابهن على نحو يفوق في كمه وكيفه، ما وجده القران ونهى عنه، في جاهلية العرب الاولى !
وعندما يطلع المرء على ما يكتبه الغربيون، حول تجارة الرقيق الابيض، ويقدمونه من حقائق واحصاءات عن ضحاياها، واسباب سقوطهن، واسباب نفوذ اصحابها وقوتهم، يتاكد له ان نخاسي البغاء الدولي، ما تمكنوا من بسط سيطرتهم على هذا الجم الغفير من النساء على هذا النحو، الا بسبب التشرد العائلي بالخروج عن ضوابط الاسرة  !

ويستطيع كل من يريد، ان يتاكد من هذه الحقيقة المرة بالمعاينة، فلو ان انسانا جرب ان يلج احدى علب الليل، لاجراء دراسة حول المعلبات فيها، والدوافع التي اسقطتهن في هذا المصير المهين، لاكتشف توا انهن على اختلاف اشكالهن وبيئاتهن واحوالهن، ما صرن الى ما صرن اليه، الا بسبب شرودهن عن الانتظام العائلي، وتمردهن على " الولاية الابوية" و " القوامة الزوجية" و انطلاقهن لممارسة حريتهن الشخصية، التي يحبها كثيرا تجار الدعارة، لانها سر مهنتهم، اذ لولاها لبارت وانقطعت ارزاقهم .

شاعر يرى ان الرقص يخدم اغراضا روحية
ويستاء الادباء والصحافيون كثيرا، حين يسمعون من يقول ان فنون الحضارة الغربية، من رقص وتمثيل وغيرها، من المحرمات التي ينهي عنها الدين ولا يبيحها، ولهذا كثرت فتاويهم، التي يسعون فيها الى تحليل هذه الفنون، وانكار ان تكون، بكل ما فيها من عري ومجون، من الحرام المنهى عنه في الدين !
ومن هذا ان شاعرا استفزه ان يسمع من ينسب هذه الفنون الى الحرام، وينعت الرقص بالفجور، فاندفع ليقول بكل جراة، ان الفن ليس امرا من امور الدين .
ولذلك فليس من شانه ان يكون موضوعا للتحريم، لان الفن هو ايضا له نشاط روحي، وله قوانينه التي تنظمه، بعيدا عن الدين كما ان للعلم قوانينه وللطب قوانينه.  فليس لعلماء الدين في نظره سلطه على الفن، كما لا سلطة لهم على العلم !

ويستفزه كلام من يرى ان الرقص ليس فنا، وان النوع المعروف منه ب " البالي" يثير الغرائز اسوا من الرقص الشرقي، فينطلق ليرد بان هذا الكلام دليل على الجهل بهذا الرقص، لانه في نظره بعكس ذلك مغالبة للغريزة، لكون راقصة البالي ترقص على اطراف قدميها، لتشبه الطائر، وتقول بجسدها المعبر ما يقوله الفنان المصور بخطوطه والوانه والشارع المفكر بقوافيه واوزانه !

ولكن ماذا يبقى من الاسلام، القائم على الظهر والحياء ومكارم الاخلاق وتحريم الخبائث وما يؤدي اليها، اذا قبل فنون الحضارة الغربية، ورضي بالتعايش معها : وكيف يمكنه وهو الحريص على تحصين المراة وضمان حرمتها، ويحرم حتى النظر اليها بريبة في حالتها العادية، ان يبيح للناس، ان يجتمعوا عليها عارية راقصة، ليتسلوا بحركاتها الماجنة، ويبيح لطائفة من النساء ان يتخذن ذلك حرفة، لتكون ارزاق بعض الناس منها ؟ !

وقبل هذا، ما هو الرقص وما منشأه وغايته ؟ ان ظهور المراة امام الرجال كاسية او عارية، للتلاعب بجسدها، من اشد المظاهر التي يتجلى فيها تحقيرها واهانة حرمتها الانسانية، وهو قطعا ليس الا من مظاهر الجاهلية الاولى للانسان، حين كانت المراة لا تعتبر الا اداة للمتعة وقنية للإلهاء .

وهذا واضح من ان صفة الراقصة وصفة الجارية، كانتا دائما متلازمتين في الماضي. فلا تكون الراقصة الا جارية يربيها النخاس، ويجهزها جسديا لهذا الغرض، وهو واضح كذلك من ان الراقصات المحترفات اليوم، لا يختلفن كثيرا عن جواري الماضي، حيث نجد الكثيرات منهن مسخرات يحتكرهن ارباب الملاهي ودهاقين الدعارة .

وهل هناك شك في ان الرقص مرتبط بالدعارة، يتفاعل معها وياخذ منها ويعطي، ويفضي اليها وتفضي اليه، وان الكثير من الراقصات لسن الا بضاعة في سوق الرقيق الأبيض ! ؟
ولكن اين بمن يفتح بصيرته لهذه الحقائق، من كتابنا الذين افسد التغريب اذواقهم ومسخ فطرتهم، حتى اصبحوا يرون في فواحش الحضارة الغربية جمالا، ويصدقون انها من " الفنون الجميلة" كما ينعتونها !

الرقص الغربي والرقص الشرقي
يلاحظ مما كتبه الشاعر، انه يتعصب للرقص الغربي، ويمدح منه النوع المسمى بـ " البالي". ولا يخفى من كلامه انه يريد ان يفضله على الرقص الشرقي المعروف ويبرئ ذاك مما في هذا،  من تلاعب بالعورات، واهانة لحرمة المراة. وبلغ من اعجابه ان استحسن كلام من يشبه الراقصات بالملائكة  !
وهذا مطرد لا ينفرد به الشاعر صاحب الفتوى، فمن المالوف لدى الادباء ونقاد الفن ان يذموا الرقص الشرقي باعتباره فنا منحطا، وان يكيلوا المدح جزافا " للبالي" باعتباره فنا رفيعا، يقوم على التعبير عن العواطف الانسانية، بالحركات، الخ .

والواقع ان قدر المجون والفجور الذي يحمله " البالي"، من حيث العري والحركات الخليعة، وتوظيف العورات للاثارة، يفوق بكثير ما يحمله الرقص الشرقي وينضح به. الا ان هناك فرقا، هو ان الغربيين يتقنون تنظيم فجورهم حتى يصير قبحا اشبه بالجمال وباطلا اشبه بالحق !
وهذا ما وقع بالنسبة " للبالي" الذي تفنن الغربيون في عرضه وتنظيمه، فجعلوه يقوم على تشخيص حكايات، يعبر عنها بالحركات المنظمة، وغير ذلك من " المحسنات"، ويقبل عليه الجمهور بنظام، ويشاهده بنفس الهدوء والوقار، الذي يشاهد به الاعمال الجادة حتى ترى الناس مجتمعين على العورات، في رزانة المتعبدين في الكنيسة !

ونحن لا نستغرب اذا شاهد احد هؤلاء المنفتحين للتغريب، عرضا للبالي، واندمج مع جمهور المتخشع، ان تسرقه طباع القوم وتصيبه العدوى، فيجد نفسه منجذبا لان يقدس الفجور، فيحمل القلم ليكتب ان هذا فن رفيع، بريء مما في الرقص الشرقي، من اثارة وهرش للغرائز !
وهنا يجب ان ننتبه الى انه كان في جاهليات الانسان الاولي، سوابق من هذا النوع، حيث كان الفجور فيها يحظى بالاحترام والتقديس ! ألم يسجل التاريخ ان العرب في الجاهلية، كانوا يطوفون بالبيت عراة الى ان جاء الاسلام ! ؟

بل لقد سجل المؤرخون وجود ما سموه ب " البغاء المقدس" لدى بعض الامم البائدة. فكانت المعابد تأوي نساء "نذرن" أنفسهن للعهارة، وكان الانسان يلج المعبد للعبادة والفسق معا  ! ! !
ومن غريب ما ذكروه، ان هذا البغاء، كانت له ولاهله حرمة وحصانة ! فلم يكن يجوز للزوجة ان تطارد زوجها في بيت البغاء، ولم يكن يحق للزوج ان يتعقب زوجته فيه !

فاذا جاء اليوم من يقول لنا ان الرقص يخدم اغراضا روحية، ويشبه الراقصات بالملائكة، فليس هذا الا انتكاسا الى الجاهلية الاولى، واحياء لضلالة قديمة !
وسر هذا الانقلاب الغريب، ان المنكر لا يقنع من الناس بان يفعلوه. بل يصر على ان ياخذ مكان المعروف ويطرده، وهكذا يابى الفجور الا ان يتسولي على مقام المقدسات، لينفرد بمزاياها ويحظى بحرمتها ! قد سبق ان لاحظنا ان الخليلة في الغرب، اطاحت بالزوجة واحتلت عرشها، وان المجتمع هناك اعترف بالامر الواقع  ! والاحترام الذي تحظى به الفنون واهلها في عصرنا، بكل ما فيها من فجور، مثال اخر جدير  بالذكر !

وهذا الفرق الذي يقيمه البعض بين الرقص الشرقي والرقص الغربي، يشبه تماما ما يفعله بعض السكارى، حين يقيمون فرقا بين خمر العوام الرخيصة ويذمونها، وخمر الخواص النفيسة، ويكيلون لها الامداح، ليعلنوا انهم من شراب النفيسة، لا من شراب الرخصية !

واظن ان الشاعر صاحب الفتوى، لو حضر مجلس شراب لعلية القوم  وخواصهم،  تدور فيه الخمر النفيسة، ويكون فيه سقاة وندماء، على النحو الموصوف في خمريات الشعراء، لخرج علينا بفتوى جديدة، يعلن فيها، عملا بالمعيار الذي استحسن به رقص " البالي"، ان هذا النوع من الخمر لا يجوز ان يمتد اليه التحريم، لانه برئ مما في خمر العوام من العربدة، كما ان البالي برئ مما في الرقص الشرقي من  الضجيج والفوضى  !
وهذا نهج جديد في التشريع، اذا اخذنا به، وجب الا يحرم الاسلام الا الفواحش التي يرتكبها العوام والضعفاء، دون التي يرتكبها الخواص والاقوياء !

فطرة الإسلام تأبى هذه المخازي
ان منهج الاسلام المبني على الفطرة ومكارم الاخلاق، يابى ان يقبل ما تستحليه الحضارة الغربية اليوم، من فنونها الماجنة، فعملا بمقاصد الشريعة الاسلامية، التي هي المنطلق في التحليل والتحريم، فان العرض مقصد مقدس، له الصدارة العظمى على المال وكل المتع المادية. وبمقتضاه فان حرمة الاسرة او حرمة المراة، زوجة وأما وأختا وبنتا، لها السبق والاولوية، يجب التضحية بكل ما هو مادي في سبيلها، وليس العكس .

ولذلك فان من المستحيل ان ينظر الاسلام بعين الرضى الى فتاوى العصر، التي تقوم على استغلال العري والتركيز على جسد المراة " للابداع" فيما يسمى بالفنون الجميلة .
ورضى الغربيين بذوقهم المادي، بهذه الفنون، وابتهاجهم بمشاهدها المنكرة، وما تجلبه من متع نفسية وارباح مالية، ليس حجة على الاسلام،  وشعاره وقوله الفصل في هذا المقام، هو الاية الكريمة الحاسمة { لكم دينكم ولي دين } (3) .

ومن ثم فانه لا يجوز لمن كان على مذهب الغربيين، في انحرافهم هذا، ان يحتج به على الاسلام،  الذي يفضل العرض وحرمة المراة على المال، وينطلق من هذا المنهج فيما يبيحه ويمنعه من الفنون .
ومهما تكن المنافع المادية والارباح المالية، التي تجلبها فنون الحضارة الاوربية، فان مفاسدها المحققة تمنع اباحتها او التساهل معها باي وجه. والقاعدة الفقهية " درء المفاسد مقدسة على جلب المنافع"، حاسمة في هذا المقام، وهي مبنية على ان عناية
----------------------
3)  الاية 6 من سورة الكافرون
---------------------
الشريعة الاسلامية بالمنهيات، اشد من عنايتها بالمامورات، عملا بالحديث النبوي الوارد في هذا الباب : " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما امرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" (4).
وعمليا فان مما لا ريب فيه، ان هناك اكثر من بديل، لجلب التسلية واكتساب المال يغني عن عمل تختلط فيه الدعارة بالفن، كما يختلط السم بالماء الزلال. ولا بديل يعوض ما يتحقق ضياعه بهذا من اخلاق سامية، ضرورية لقيام الاسرة وصيانة العرض وحرمة المراة.
ولذلك فان قاعدة درء المفاسد هذه، لها سندها في الواقع، بجانب سندها في النصوص الشرعية. ففي ميدان الطب مثلا، فان العلاج لا يكون، كما عبر القدماء، الا بالدواء الذي لا داء معه، وفي وقتنا الحاضر فان السلطات الصحية لا ترخص بتسويق الدواء، الا اذا كان لا يجلب معه اضرارا اخرى، او ما يسمى طبيا بالاعراض الجانبية، والا لجاز الترخيص باستعمال المخدرات، باعتبار ان لها وظيفة علاجية، بالنظر لما تجلبه لمتعاطيها من راحة ومتعة نفسية !

عبث كعبث شعراء المجون
هذه النماذج من الفتاوي الكثيرة، التي داب الصحافيون والادباء وغيرهم، على الادلاء بها، في مناسبات مختلفة، كلما سمعوا راي الاسلام في منكر من مناكر الحضارة الغربية، ولا شبه لاقوالهم وارائهم هذه، الا في تلك  الاقوال العابثة، التي يرسلها بعض شعراء المجون والزندقة، على سبيل المزاح، حين يفقدون تمييزهم .
فهذا شاعر يرى ان على الناس ان ينتهزوا كون الرب غفورا رحيما للاكثار من الاثام والخطايا وليس للاكثار من التوبة:
(( تكثر ما استطعت من الخطايا                    فانك بالغ ربا غفورا ))
وهذا يبشر السكارى بان القران لم يذكرهم بسوء لانه قال ويل للمصلين ولم يقل للسكارى.
(( وما قال ربك ويل للأولى سكروا                بل قال ويل للمصلينا ))
--------------------------
4)  اخرجه مسلم في صحيحه واحمد في مسنده .
--------------------------
وعلى قبح هذا العبث السخيف، فانه يبدو هينا، اذ راعينا ان هؤلاء الشعراء، كانوا يهزلون ويمزحون، او في لحظات جنون، واما الذين نقلنا فتاويهم فقد كانوا جادين، وفي كامل عقلهم، راغبين في ان نفعل ما يقولون، بل يريدون ان يجعلوا اقوالهم فتاوى حاسمة ملزمة .

- 2 -
المستند الخرافي لهذه الفتاوى
مما لا يحتاج الى تاكيد، ان كل فتوى، لا سيما اذا كانت تتعلق بما هوحلال وحرام، لابد لكي يكون من يتلقاها محجوجا بها او مطمئنا الى صحتها، من ان تستند الى اساس علمي، يكون سببا لها وعلة مقنعة بها. وكل فتوى لا تستند الى منهاج ودليل علمي، تكون باطلا وضلالا وخرافة .
فما هي الاسس والاسباب المنطقية او الواقعية، التي يستند اليها السادة المفتون، فيما يحللونه من المحرمات الدينية، لاسيما ما كان ثابتا منها بالنصوص القطعية، التي لا تقبل التاويل او التعديل، لتكون ملائمة في نظرهم لروح العصر او لذوق الحضارة الاروبية .

اننا لا نبالغ اذا بادرنا الى القول، بان هذه الفتاوى كلها، خالية، من اي اساس علمي، يكون به من يسمعها مطمئنا الى موضوعيتها ومنشرحا لقبولها. ولذلك فانها خرافات يدحضها العلم والتجربة العملية، ليس هذا فقط لانها لم تصدر بمقتضى المنهج الاسلامي، وضوابطه في الحلال والحرام، المحفوظة في مراجعه الدينية، ولكن ايضا لان جميع الاراء والمفاهيم والمذاهب السائدة في هذا العصر، التي يتحمس لها هؤلاء المفتون ويعولون عليها، ليست الا اباطيل لا تستحق ان تكون سندا للافتاء، فيما يرجع لسلوك الناس ومصائرهم الاخلاقية، لاسيما حين يتعلق ذلك بحياتهم العائلية، ولذلك فانها خرافات لا تستحق الا الاهمال والنبذ .

فاذا كانت الخرافة هي ما ينافي العلم ويناقضه، واذا كان العلم يستند الى التجربة في اثبات قواعده وضوابطه، فان التجربة التي هي المعيار المهتم هنا، تكشف ان المستند الذي ينطلق منه المفتون ضلال يفتري على الواقع الذي يدحضه بألف دليل .
فليس لدى هؤلاء المفتين ما يعولون عليه سوى " ما جرى به العمل" لدى الغربيين، وليس لدى الغربيين برهان يحكم بصحة ما يعيشون عليه، من آراء في الدين والحياة والاخلاق، سوا انهم اليوم الاقوياء اقتصاديا وحربيا في العالم، وانهم بهذه القوة الطاغية، يسود الكثير من باطلهم، وينطلي على الكثيرين الذين يندفعون الى الاقتناع، بان سلوك الغربيين صواب يجب تقليده، لمجرد انهم الغالبون في عالم اليوم، فينطلقون لالتزام ارائهم، بمنطق العبودية " او الاستلاب" الذي يدفع الضعيف الى التشبه بالقوي، وليس لشيء اخر غير هذا .

وخضوعا لهذا نراهم يستسلمون لوهم يركبهم كما يركب المخبول خبله، وكما يركب الجهل المركب صاحبه، وهو اننا لا يمكن ان نتقدم  ونتحضر، الا اذا حدونا حدو الغربيين، في كل سلوكهم وفي لهوهم بالذات، والا اذا كان لدينا بالخصوص فن عار فاجر كفنهم، والا اذا تطرفنا فيه تطرفهم، والحال ان العكس هو الصحيح، لانه لا خلاص لنا، الا اذا تحررنا من تقليدهم !

مذهب الغربيين في الدين متخلف
ان اول ما يركز عليه المفتون المستلبون، هو مذهب الغربيين في الدين، اذ يجعلونه خاصا بما بين الانسان وربه، ومحصورا في الكنيسة ورهبانها وكرسي الاعتراف وغير ذلك. وهذا مذهب متخلف جدا، لا يساير العصر، ولا يفي بمقتضيات العلم، لان المسيحية المعمول بها اليوم، لا تعدو ان تكون دينا وضعيا، من صنع البشر، ولان الاناجيل المتداولة، لا تعدو ان تكون مدونات بشرية، لا صلة لها بالوحي الالهي .

فليست الاناجيل الاربعة المشهورة، الا كلاما ارتجله اصحابها، الذين تحمل اسماءهم، وليست من املاء المسيح، عليه السلام، وليست المسيحية الا ما تقرر في ذلك المجمع التاريخي المشهور، وما ارتاه المجتمعون فيه، وزكاه وفرضه الامبراطور الروماني قسطنطين،  وليست كذلك الا ما رسخته الكنيسة والرهبان، من تقاليد ابتدعوها، ولم يرعوها حق رعايتها كما نعى عليهم القران الكريم (5) .

وليس هذا فقط، فهناك امر اخر، هو ان نبيا ظهر بعد موسى وعيسى، هو محمد بن عبد الله، عليهم جميعا ازكى السلام، الذي جاء بكتاب جديد ونسخ الاديان كلها وعدل فيها وصحح، وكشف ان الكتب السماوية السابقة محرفة، وقدم الصيغة الصحيحة النظيفة للدين، ورسخ الثوابت التي يجب ان تبقى خالدة دائمة، معصومة من الاجتهادات الشخصية للانسان، ويمكن ان نقول ان العالم كله محجوج اليوم بالاسلام وكتابه الخالد، لانه اعترف بجميع الانبياء، واوجب الايمان بهم، واعتبر الكفر او الطعن في نبي اليهود او نبي النصارى، كفر بالاسلام نفسه من غير فرق. والموضوع طويل لا يمكن استقصاؤه في مظانه، ولكن المهم الذي يجب ان نخلص اليه، هو ان نظرة الغربيين الى الدين، وادعاء انه لا يجوز ان يتدخل في حياة الناس بالتحريم والتحليل. متخلفة جدا، لانها لا تراعي الجديد ولا تساير التطور، وهي على كل حال، ليست حجة علينا، ويمكن اعتبارها المرجع الوحيد للمنع والاباحة، وتقرير الممدوح والمذموم من الاخلاق، كما يريد السادة المفتون المستلبون ! .

واذن فالعلمانية الناتجة عن تصور الغربيين الفاسد للدين، ليست حجة على الاسلام، ولا يمكن ان تنسخ احكامه، او تغير فيها وتعدل وبترسيخ العلمانية لدى الغربيين في حياتهم، اصبح سهلا ان تصير بيئتهم مرتعا، لعدد لا يحصى من التيارات والمذاهب المادية، التي تسعى كلها، على ما بينها من خلاف، الى نفي الدين واثره على الناس، وتقديم بدائل فكرية حديثة، تقدم تفسيرا جديدا للحياة والاخلاق، اتجهت كلها بطرق ومناهج مختلفة، الى اقناع جمهور المتعلمين والمثقفين، بان الاخلاق التقليدية، خرفات لا تسند الى برهان يؤيدها، وان اراءهم التي جاءوا بها هي الخلاص والمنقذ.

مسكونون باراء فرويد
وبين كل المذاهب التي سادت وكونت العقل الحديث، برز مذهبان او تياران كان لهما نفوذ كبير وهيمنة عظيمة على الثقافة والمثقفين، وهما ما جاء به فرويد
--------------------------
5)  انظر " محاضرات في النصرانية" للمرحوم الشيخ ابو زهرة، صفحات 39 و129 .
-------------------------
من اراء في الاخلاق الفطرية، وما جاءت به الماركسية من اراء في الدين والحياة والاخلاق ايضا .
فكما هو معلوم، فقد جاء فرويد  بما يفيد ان الاخلاق كلها، ليست الا امراضا نشات من اوهام مرضية. وجاء بناء على ذلك بعقده المشهورة، التي تركز بالاساس، على اخلاق الاسرة، من غيرة وعفة واحترام الوالدين وطاعتهما.

وعلى الرغم من ان الماركسيين انتقدوا فرويد واتجهوا الى انشاء علما للنفس خاصا بهم، لانهم اعتبروه بورجوازيا، فانهم ايدوا مذهبه ومهدوا له الطريق الى اذهان المثقفين، لكونهم لم يخرجوا عن النتائج التي قررها، بل اكدوها بطرق اخرى. ولكون قيام دولتهم القوية الغالبة ادى الى تعزيز المذاهب المادية كلها، وجعل لها سلطانا قويا على قلوب المفكرين، الذين اصبحوا مهيأين لان ينفتحوا لكل تيار مادي، يتجه الى نفي الدين والاخلاق الازلية التي جاء بها (6) .

وتلافيا للتطويل، اختصر هنا ايضا، لأخلص الى ان اراء فرويد كان لها سلطان كبير على الادباء، الذين اخذوا يستندون اليها في نقد الادب وتفسيره، وتحليل الاعمال الادبية والنفسية منتجي الادب انفسهم، لاسيما ان فرويد نفسه سعى الى تطبيق ارائه على بعض الادباء المشهورين وانتاجهم .

وقد دأب فرويد كما هو مشهور، على تاكيد ان الاخلاق الفطرية، لاسيما المتعلقة بالاسرة، كالعفة والحياء وطاعة الوالدين، ناشئة عن اوهام وهواجس مرضية ومن هذا انطلق ليؤسس عقده المشهورة، التي ترمي الى تدنيس قداسة الاسرة وحرمة الوالدين. وخرج من ذلك بان المحرمات ( او " الطابو" بالاصطلاح المتداول)، هي سبب المشاكل والامراض النفسية التي يعاني منها الانسان. ولذلك فانه يجب لتحرير الانسان من امراضه واراحته مما يعاني، تحطيم "الطابو" وكسره ونفيه، كما تنفى القاذورات المزعجة المكروهة .

من اراء فرويد هذه واراء غيره، من الذين قدموها بصيغ اخرى، انطلق المفكرون العلمانيون، والادباء بالخصوص، ليقولوا ويكرروا ان سلامة الفرد وصلاح المجتمع لا يتحققان الا بدفن هذه المحرمات، كما تدفن الجثث المتعفنة .
-----------------------
6)  انظر المراة والاشتراكية، فصل الفرويدية والماركسية، ترجمة وتقديم جورج طرابشي، دار الاداب، ط، ثانية.
----------------------
ولهذا راينا كثيرا من ادباء القصة والرواية، وفناني السينما والمسرح لا يخفون، تبريرا لما يبتدعونه من اراء وفنون خارقة للحياة، انهم يرمون ويسعون الى تحطيم" الطابو" ودفنه، لتصل المجتمعات البشرية المعقدة بهذه الاخلاق، الى حالة يصبح فيها كل حرام محرج شيئا عاديا، ويتخلص الانسان من الشعور بالاثم، الذي يركبه ويعذبه بدون حق، لانه لا شيء يستحق القداسة والاحترام !

ومن هنا انطلقت موجات العري والمجون، في الاداب والفنون، التي ما زالت متعالية في مدها الهادر، الذي يزداد يوما عن يوم، حتى اصبحت الان تقتحم على الناس بيوتهم بغير استئذان، كما يحدث للفيضان حين يستمر ويدوم، وحتى انتزعت الاعتراف لها بشرعية الظهور .

القيمة العلمية والعملية لاراء فرويد
لقد قرر العلماء المختصون من قديم، ان ثلاثة ارباع ما جاء به فرويد، لا سيما ما يتعلق من ذلك بعقده المشهورة، باطل، لا دليل عليه، وان هذه الاراء لا تعدو ان تكون خواطر شخصية اطلقها صاحبها على الناس، فيما يشبه هذيان المحموم .
واذا أمعنا النظر فيما قاله فرويد وكرره، في شان  عقده النفسية المشهورة، فاننا لا نجد فيها من الحقيقة سوى ان صاحبها هو اكبر المعقدين، لان ما قاله لا يمكن ان يصدر الا من مريض يكره البشر، ويريد ان يدنس حياتهم ومقدساتهم العائلية وعواطفهم الفطرية الطبيعية، التي نجدها حتى عند البهائم !

غير ان هذا المعيار النظري، ليس هو كل ما يمكن ان ندحض به اراء فرويد، في ان المحرمات امراض، وان العلاج في التخلص منها، بل هناك معيار اخر عملي يثبت بطلان مذهبه، حتى لو لم يقل علماء النفس ذلك، وهو  الواقع والتجربة العملية التي قدمتها  المجتمعات الغربية، حين عملت بما قال ونصح به .

ان المجتمعات التي حطمت " الطابو" والغت المحرمات، هي التي تقدم لنا اليوم اكبر الدلائل العملية، على انها اصيبت بامراض خبيثة نفسية وجسمية وسلوكية. وفي العلاقة بين الجنسين بالذات، لا نجد لها تفسيرا الا في انها نبذت الاخلاق بالغاء المحرمات التقليدية المعروفة، واكثر هذه الامراض بروزا، هو تعقد العلاقة بين الرجال والنساء، ووجود مظاهر وظواهر، تدل على ان هذه المجتمعات هي المصابة بما سماه المفتون ب " الكبت" الذي طالما نعوه على مجتمعاتنا، باعتباره نتيجة للتمسك بالمحرمات التقليدية، التي تنظم العلاقة بين الرجل والمراة،  واعتبروا الفنون الحديثة بعريها ومجونها سبيلا على التخلص منه وعلاج اثاره الضارة !

تقرا اليوم فيما ترويه الاخبار، ان  صحافيا يتسلل الى منزل او قصر ويتربص في الحديقة، ليختطف صورا لربة الدار في خولتها، ثم يبادر الى عرضها على الصحف، ويجد من يشتريها منه بالثمن الغالي. وتبادر الجريدة او المجلة الى نشرها، ليتهافت عليها القراء، حتى ترتفع مبيعاتها الى ارقام خيالية !

وتقرا ان مديرا لاحد الاندية الرياضية، ترتاده احدى حسناوات المجتمع، يعمد الى اخفاء كاميرا لتلتقط صورا تسجل حركات جسمها اثناء ادائها للتمارين الرياضية. ويجد هذا الشخص الجريدة، التي تدفع المال الكثير الذي يقيه من الافلاس لتفاجئ، بها قراءها، الذين يقدمون لها ارباحا تجعلها لا تندم على ما دفعته لاجلها من ثمن غال .

وتقرا ان بعض ضحايا هذا العبث ، تبادر الى التظلم لدى القضاء، لتاخذ التعويض الثقيل، الذي تظن انه سيؤدي الى افلاس الصحيفة، ويكون زاجرا لها ولغيرها، فاذا بك تفاجا بها تبحث عن صفقة جديدة من ذات النوع، من غير ان تنزجر بشيء مما حدث !
أتردون ما السبب ؟ لقد كشفه احدهم حين قال : ان ما تكسبه الصحف من الاتجار في هذه العورات، من خلال العدد الهائل، من النسخ التي تطبع وتباع، يكفي لاداء بالتعويض المحكوم به، مع بقاء الربح الذي يغري بالتمادي والعود !

هنا نرى طلبا ملحا واقبالا شديدا، يشبه نهم الذئاب الجائعة من المجتمع بمختلف طبقاته، على تتبع هذه العورات، وكان الواحد منهم لم يسبق له ان راى جسم المراة الا ذلك الصباح، الذي فاجاته فيه الجريدة بتلك الصور المسروقة  !
وللتنبيه فان الضحايا هنا، لا يرتدين الحجاب، بل انهن لا تقتصرن في الظهور بكل جديد من الازياء، التي تكشف مفاتنهن للانظار، ولكن الجمهور يتطلع الى ان يرتفع الستار عن البقية الباقية ! ! .

ان بلايين الدولارات تروج وتحصد من تجارة الفنون العارية، منذ عشرات السنين، وما زال الناس هناك يستزيدون من هذه البضاعة ويطلبون الجديد، وكان هذا الجنس الانثوي المحترم، الذي خلقه الله، لتكون منه امهاتنا، لم يخلق في نظرهم الا لنعريه ونحملق في عوراته !
ولكن الاخطر والادهى،  هو هذا الكم الهائل من جرائم الاعتداء على العرض، التي تعج بها حياة الناس هناك. ان المجتمعات الاوربية، التي تحررت من المحرمات هي التي تقدم للعالم اليوم، اكبر عدد من جرائم الاعتداء على اعراض النساء، في ايقاع يسابق دقات الساعة. ويصدر هذا من الجميع. يستوي في ذلك الصعاليك والاعيان، والسوقه والمثقفون، والحاكمون والمحكومون، حتى اصبحت المراة لا تامن على عرضها حتى في بيت الاسرة وبين اقاربها ! ! !

فبجانب ما تنشره الصحافة عن جرائم الدهماء وجمهور الناس العاديين، تأتيك كل يوم بكم اخر من اخبار الكبار، لاسيما المسؤولين الذين يجلسون في مقاعد السلطة، لتجد انهم لا يتورعون عن اي نوع من هذا العدد الهائل من جرائم انتهاك الاعراض،  التي يرتكبها الصعاليك والسوقه .
ويصل الامر الى حد ان تقرا فيما تكتبه الجرائد اليوم، ان احدى الحسناوات تجمع الصحافيين، لتقول لهم ان رئيس دولتها غازلها وراودها، واخذت تروي لهم كل ما قاله لها وطلبه منها حرفيا، وتاخذ اجهزة الاعلام الخبر لتذيعه بين الناس، لاجل التسلية والترفيه، كاي خبر عادي طريف، يقراه الجمهور للتسلية ويتقبله الراي العام، لاسيما الجانب النسوي منه بهدوء وحياد، من غير ان يجد فيه ما يقدح في نزاهة الرئيس او يطعن في كفاءته !

وبطبيعة الحال فاننا لا نستطيع ان ننكر اننا نعاني، نحن ايضا، من بعض هذه الجرائم الشائنة، ولكنها كلها مستوردة من اصحابها ومخترعيها، والدليل على ذلك، ان كثيرا من هذه الجرائم الاخلاقية، التي اصبحت عادية اليوم، لم يكن لنا بها عهد، فيما مضى من حياتنا، وحين يحدث ان تقع الواحدة منها في بعض الاحيان النادرة، فانها يكون لها دوي الزلزال المرعب بين الناس، الذين يظلون يرتقبون ان تعقبها كوارث طبيعية، وربما توقع بعضهم قيام الساعة في الحين !

ان كل هذا يسوقنا الى نتيجة حتمية لا مفر منها، وهي انه لم يبق بين الرجال في اوربا اليوم، من يوقر المراة ويحترمها. وان كل واحد لا يرى المراة الا فريسة ينتظر الفرصة لنهبها، يفعل البعض ذلك جهرا بالاكراه المادي، ويفعل البعض ذلك سرا بالاكراه المعنوي، ويستوي في ذلك صعاليك القوم واشرافهم !
ويحدث هذا في مجتمع حطم " الطابو"، وتحرر منه تنفيذا لتعاليم فرويد وغيره. واصبح كل ممنوع مباحا، حتى استوى الزواج والسفاح، واستوى الاولاد الشرعيون وغير الشرعيين، وزال كل فرق بين بيت الاسرة وبيت البغاء !

فأين الدليل الذي يقنعنا بان التحرر من " الطابو"، والغاء المحرمات يعطينا المجتمع السوي، الذي يحترم فيه الرجل المراة، ويعيشان بدون عقد وامراض،  كما يبشرنا بذلك العلمانيون، فيما يكتبون وما زالوا ! !؟
اظن انه يمكننا الان ان ندعي، في اطمئنان واقتناع، على اصحاب هذه الفتاوى، انهم يستندون الى خرافات واباطيل، وان تعلقهم بما جاء به فرويد حول الاخلاق الفطرية والمحرمات الدينية، تختلف شائن، لا يليق بانسان ينسب نفسه الى العلم والثقافة، لانه لا يختلف في شيء عن تعلق الجاهليين بأصنامهم، التي كانوا يعبدونها وهي احجار وجماد، ليس فيها حتى حيوانية البهائم، ولا يختلف كذلك عن بعض التجارب المضحكة، التي عانت منها البشرية في ضلالها، مثل حال الذين كانوا يعتقدون، ان نهرهم الذي كان يسقي زرعهم ويروي عطشهم، يستطيع اذا غضب عليهم، ان يحبس عنهم مياهه، التي تجري بسنن الله الكونية، على النحو الذي تشرق به الشمس، فيعملون كل عام على " رشوته" بان يزفوا اليه اجمل نسائهم، لتغرق بين امواجه. وظلوا على هذا الظلال المهين، الى ان حررهم منه الاسلام، على يد احد أقطابه العظام، عمر بن الخطاب، جزاه الله برضوانه !

-3-
دولنا الإسلامية لا تعمل الا بهذه الفتاوى
على ان داهية الدواهي في هذا الامر، ان دولنا الاسلامية لا تاخذ الا بهذه الفتاوى ولا تعمل الا بها، ولا تعطي اي اعتبار لما تلقاه من انتقاد المختصين، الذين لهم الدراية الضرورية في الموضوع، ولا تتردد في قمع واسكات، كل من يريد ان يعارضها براي الاسلام ونصوصه الحاسمة .
وهل نحتاج الى دليل على هذا، والحال ان دولنا لا تحكم بشيء مما انزل الله، وانه لا اثر للاسلام في حياتنا، حتى في الحد الادنى لذلك. وهو عدم الجهر بالمناكر واستفزاز شعور الناس بها !

الا ان ما هو اخطر من هذا ايضا، ان بين قادة دولنا الذين بيدهم سلطة التشريع والتنفيذ، من لا يتحرج في تاييد هذه الفتاوى علنا، والجهر بذلك في خطبهم السياسية وتصريحاتهم الصحافية .
وكثيرا ما يستغل بعض هؤلاء القادة حصانتهم الدستورية، فيطلقون كلاما يعتبر طعنا في الدين، لانه ينطوي على جحود صريح لضرورياته وتحليل لمحرماته، فلا يستطيع احد ان يرد عليهم، ولو بالنصح والتصويب المؤدب، لان ذلك يعتبر من " المحرمات السياسية" الكبرى فتكون المصيبة مضاعفة العواقب، وتكون اقوالهم هذه كارثة لا حد لاخطارها، لانها تصبح مسلمة بالسكوت المفروض، ليجد فيها العلمانيون تزكية رسمية لما يهرفون به من ضلال وبهتان، وتصير تشريعا معمولا به، كما هو واقع فعلا !

ويمكن ان ادعي ان كل النماذج التي سبق ان عرضنا لها من فتاوى العلمانيين، من الصحافيين والادباء، نالت " تزكية رسمية" من بعض هؤلاء القادة، في خطاب او تصريح او سلوك علني، يعتبر عملا بها، ودعوة الناس الى الاقتداء بهم في ذلك !
ويحدث بهذا حتى في الدول الاسلامية،  التي تحرص على ان تنص في دساتيرها، على ان الاسلام هو دين الدولة الرسمي، وهنا تكون مجاهرة قادتها بهذه الفتاوى، تلبسا بارتكاب اخطر انتهاك للقانون، وهو خرق نصوص الدستور بمقتضى قواعد القانون الوضعي نفسه !

إقصاء الدين من دولة القانون
وهنا نصل الى موضوع كبير الاهمية، ومعضلة خطيرة العواقب، فلست اكتب " وعظا وارشادا" وانما اتناول موضوعا داخلا في اختصاص القانون ورجاله ونسائه ايضا لانه يتعلق بتطبيق القانون الاسمى للبلاد .
ان كثيرا من بلداننا الاسلامية، تنص دساتيرها، على ان الاسلام هو دين الدولة الرسمي، بصيغ مختلفة، تفيد كلها حتى في حدها الادنى، ان المواطن يجب ان يرى اسلامه محترما على الاقل، ان لم يكن معمولا به ومطبقا، كما جاء به نبيه وحفظه القران الكريم بنصوصه القطعية. ولكن جميع دولنا الاسلامية ذات الانظمة  الدستورية الديمقراطية او اغلبها، لا تعطي لهذا النص اية قيمة، ولا تحرص على ان يكون له ظهور في العمل، ولو باضعف  معانيه، ففي كل دولنا تنتشر هذه المحرمات التي يحللها الادباء العلمانيون. بل توجد مؤسسات رسمية ترعاها وتؤطرها. فهناك مدارس للرقص والتمثيل " بالشكل المتعارف عليه دوليا" تستدعي لها المواطنة المسلمة لان تتعلم  ذلك وتحترفه، ويستدعى الناس لمشاهدته واستهلاكه. وفيها كلها وزارات ترعى هذه الفنون، باعتبارها من النشاط الثقافي " البريء". بل فيها وزارات للسياحة كثيرا ما تقترح التضحية باعراض النساء  لاجل تنشيط السياحة، واستفراغ جيوب سفهاء الاغنياء،  الذين تتنافس الدول على رشوتهم باعراض نسائها، للفوز باكبر نصيب من ذخائرهم. كما يتجلى ذلك في كثير من المناشط السياحية، التي تقوم كلها على استثمار الاعراض،  مثلما يحدث في مسابقات الجمال المختلفة في اشكالها ومناسباتها .

نحن الأولى بالتنزه عن هذا العبث
وليس من الامانة ان أكتفي بهذا التعميم، دون ان اخص بلادنا بحديث يركز عليها، ويكشف انها قطعت في هذه المفارقة الممقوتة اشواطا،  وذهبت الى ابعد الحدود، وفي تغييب الدين ونفيه، على الرغم من وجود مقتضيات دستورية وعرفية، توجب ان يكون الاسلام ركنا في دولة القانون بها .
ان دولتنا المغربية، هي اولى من كل الدول الاسلامية، بان تتنزه عن هذا العبث القبيح، لتكون عاملة بالكتاب والسنة، ليس فقط لان دستورها العرفي والمكتوب يوجب ذلك، وليس فقط لان موقعها الجغرافي حفظها دائما من التغريب، بوجه جعل اصالتها العربية الاسلامية محمية على الدوام، وليس فقط لانها حافظت على استقلالها منذ كانت دولة ولم تستعمر الا مرة واحدة، وليس فقط لان الاستعمار الاجنبي المسيحي، الذي ابتليت به اخيرا لم يدم بها طويلا، ولكن لاننا فوق كل هذا وذاك، اشد الدول الاسلامية إلحاحا ( بالقول) على تمسكنا بالاسلام والكتاب والسنة. بل بالخلافة النبوية الراشدة، كما يظهر ذلك في رموز الدولة وألقابها الكثيرة، التي تحرص على ابراز هذا الجانب المتميز من تاريخنا الاسلامي واتخاذه شعارا !

ان الاسلام كان دائما هو العهد الذي بين المغاربة وملوكهم. وكانت حماية الدين شرطا مفترضا في كل مبايعة، ولم يكن الناس  يفرقون بين خيانة الوطن، والتفريط في حماية الدين !
والمعيار الذي يعرف به مدى وفاء الدولة بهذا لشرط، هو تغيير المنكر، ولذا راينا ملوك المغرب يبادرون دائما الى الاهتمام بقمع المحرمات وحماية الناس منها، بجانب جهادهم لحماية البلاد في حدودها ووحدتها. ومن يراجع التوجيهات والاوامر،  التي كان يوجهها الملوك الى العمال والقواد  وغيرهم، يجد الحث على العمل بالشريعة  الاسلامية، والجد في تغيير المنكر، حاضرا بإلحاح .

ومما يجدر ذكره دلالة على هذه العناية، ان السلطان المولى سليمان حرص على ان يستخلف بعده المولى عبد الرحمن الذي هو ابن اخيه، متجاوزا به ابناءه. وانه جاء في وصيته المتعلقة بذلك، انه يؤثره بالعهد بعده، لعدة مؤهلات، ذكر منها ان الله حفظه من شرب الخمر وعدة موبقات اخرى (7) .
وهذا يدلك على مدى حضور العنصر الديني، باعتباره معيارا للتزكية والاختيار، وهو يدلك على مدى نصح هذا السلطان، ومدى وفائه لالتزامه الديني، حتى حرص على ان يختار لخلافته شخصا يتجنب الحرام، ولو انه ليس من صلبه، لانه يعرف انه اذا اختار لهم ملكا مبتلى بارتكاب المناكر، فان الناس سيصبحون جميعا مثله !

ان بلادنا لهذه الاسباب، كانت اخر البلدان التي يمكن كان تسقط في هذا النفاق، الذي بداته بعض الدول الاسلامية التي استقلت قبلنا، وحتى بعد ان سقطنا فيه، كان يجب ان نكون اقل ايغالا فيه من غيرنا، ولهذا راينا بعض من يزور بلادنا من المسلمين، يغمرهم العجب والدهشة من كل جانب، حين يجدون اننا مثل غيرنا من دول العالم الاسلامي العصرية، نؤمن بالقرآن قولا، من غير ان يكون له اي اثر في واقعنا. ويزداد العجب بهؤلاء الزوار حين يكتشفون، اننا سابقنا الدول التي سبقتنا الى هذا النشاز وتجاوزناها، وقد حدث مرة ان راينا احد علماء المسلمين الذين يستدعون في بعض المناسبات، يتجرا على ان يقول في جلسة رسمية سامية، انه اندهش حين وجد الخمور عندما تباع كما يباع الماء !
---------------------------
7)  الاستقصاء، ج. الثامن، ط. دار الكتاب سنة 1956، ص 164 .
---------------------------
ولم يكن ما نعاه علينا هذا الشخص منعدما في بلاده الاسلامية، التي يحمل جنسيتها. واظن اننا لو جادلناه بانه كان يجب عليه ان يبدا بمسؤولي بلاده اولا، لرد فورا بانهم لا يدعون ما ندعيه من تمسك بالاسلام، ولا يلبسون ما نلبسه من القاب خطرة، ونحمله من رموز وشعارات تاريخية، تجعل من يسمعنا يعتقد انه لابد ان يجد شيئا من ذلك الوجه التاريخي النظيف للاسلام في عهوده الاولى. ويستبعد جدا ان يعاين ما أدهشه من احوالنا (8) .

-4-
الاستقلال كان يعني التحرر من علمانية الاستعمار
لقد كثر الحديث من جانب النخبة المثقفة، التي تكون الراي العام ونؤطره، عن دولة القانون، وضرورة ان يتحقق لها وجودها بحيث تكون العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، موثقة بنصوص قانونية تؤطرها وتحددها، وفي مقدمتها نصوص القانون الدستوري المقررة للاصول الكبرى، التي لا يجوز ان يتجاوزها قانون ادنى او يخالفها. بل لا يجوز ان يقول احد او يفعل، ما يعتبر اخلالا بها، سواء كان من المحكومين ام من الحاكمين .

ومن هذه الاصول التي لا تقبل اي نزاع من اي كان، دين المغاربة، الذي كان دائما اساس تعاملهم مع حاكميهم، وكانت حمايته معيار اخلاصهم وادائهم امانة الحكم، منذ جاء به ذلك الرعيل الاول من المجاهدين العظام الذين تحملوا ما تحملوا لاجل ان يوصلوا الينا رسالة خاتم الانبياء، وذلك الرعيل اللاحق الذين حمونا مرارا
-----------------------
8)  وقد تكرر هذا اكثر من مرة. فإلى جانب هذا المثال القديم، الذي استمليه من الذاكرة، اقرا الان اخر جديدا موثقا فيما كتبه الدكتور مراد هوفمان ( الالماني الذي اسلم سنة 1980، وكان سفيرا لالمانيا ببلادنا) في مؤلفه المترجم تحت عنوان [ الاسلام كبديل]، وهو بصدد انتقاد عبث المسلمين باسلامهم، لا سيما الخواص منهم، حيث قال انه كثيرا ما شاهد امثلة من هؤلاء الملقبين " بالشرفاء" في المغرب يقدمون اليه للتعارف، وفي ايديهم كؤوس الخمر، من غير خجل ولا وجل  (الاسلام كبديل ط. اولى، ص 135 هامش 8). فهذا مثال موثق يستطيع القارئ ان يرجع اليه في مصدره، يدلك هناك ما يثير الدهشة  والاستغراب في حالنا !
------------------------
من الوثنية والتنصير، الذي كاد يحيق بنا لولا جهود وجهاد ادريس الاول وعبد الله ابن ياسين ويوسف بن تاشفين واحمد المنصور الذهبي وغيرهم .
وعلينا ان نتذكر ان فرنسا نفسها، رضيت ان تلزم نفسها باحترام دين المغاربة، وانها ظلت دائما تتهيب ان تخرق هذا الالتزام، ولا تفعل ذلك، حين تفعله، الا خلسة وعلى نحو من التحيل .
كما ان المغاربة وقادة الحركة الوطنية، كانوا يتربصون بها من هذا الجانب، ولا يتركون عملا تتجرا به على الاساءة لدين المغاربة او لغتهم، الا فضحوه. ويكفي ان نذكر رد الفعل الذي واجه به قادة الحركة الوطنية " الظهير البربري"، الذي سعت به فرنسا الى الغاء الشريعة الاسلامية في الاحوال الشخصية، بالنسبة الى المغاربة الامازعيين، ولو انها تسترت واء الادعاء بانها ترمي الى تطبيق اعراف محلية كانت موجودة بالفعل .

وعلينا كذلك ان نذكر ان الوطنية في المغرب بدات بمحاربة المناكر التي جلبتها فرنسا، لاسيما ما يتعلق منها بالمحرمات الكبرى، مثل الترخيص ببيع الخمور على الرغم من ذلك كان محصورا في الاحياء الاوربية، ومقيد بضوابط خاصة، ومثل البغاء العلني الرسمي وغير ذلك من المناكر .
وقع هذا كله دون ان يكون هناك دستور مكتوب، ينص على ان الاسلام هو دين المغاربة. لان الحقيقة ان الاسلام لم يكن يحتاج الى نص يقرره. لانه صار من احوال الانسان في المغرب، التي تستند من الجانب القانوني الى قاعدة دستورية عرفية بدهية، يعتبر النص عليها مزريا بها، كما يزري بنا ان نشترط فيمن يتولى السلطة. ان يكون انسانا لا حيوانا مثلا. والدليل على ذلك ان فرنسا لم تطلب منا ان نثبت اسلامنا بنص دستوري، عندما قبلت ورضيت ان تلتزم في عقد الحماية باحترام دين المغاربة، وان الوطنيين ايضا لم يحتاجوا لوجود نص دستوري لكي يدعوا عليها الاساءة الى الاسلام، حين اقاموا عليها القيامة محليا ودوليا بسبب الظهير البربري.

الا انه كان من تمام الاهتمام بالهوية الوطنية المغاربة، بعد الاستقلال، ان وقع الحرص على تسجيل اسلامية الدولة في الدساتير المغربية، اقتداء ببعض ما وقع في بعض الدول الاسلامية التي سبقت الى ذلك .
وهذا يدلك على ان الاستقلال الذي سعت اليه الدول الاسلامية، ومنها بلادنا، وجاهدت من اجله وضحت، كان يعني فيما يعنيه، التحرر من علمانية الاستعمار، ومنها الحرص على اجتناب المحرمات الدينية والمبادرة الى تحريم كل ما جلبه الاستعمار وقرره بقوانينه الوضعية .

نشاز خطير
وعلى الرغم من كل هذا، حدثت مفارقة غريبة، ونشاز خطير لا يستطيع الانسان ان يجد له تبريرا او تعليلا، وهو ان النصوص المقررة الاسلامية الدولة على جلالة قدرها، ظلت بدون تطبيق، حتى في اضعف معانيها، بل راينا كل المحرمات التي اباحها الاستعمار وجلبها، من خمور وقمار ودعارة، تبقى وتظل من غير ان ترحل برحيله، بل رايناها تنتشر على اكثر مما كانت وتعم بين المسلمين بقوانين جديدة تقرر هذا التعميم، بعد ان كانت القوانين التي وضعها الاستعمار، تحتاط في ذلك، بما يجعلها مقصورة على الاوربيين واحيائهم. بل راينا حكامنا الذين تولوا امورنا بعد الاستقلال، يحمون هذه الفواحش، بمختلف الوسائل التي تعطيها الحق في الوجود، على نحو لم يكن يتجرا عليه الاجنبي المستعمر نفسه. بل ظهر بيننا من صار ينازع في حقنا في تغيير هذه المناكر، ويعد ذلك تخلفا ورجعية، كما راينا في الفتاوى العلمانية التي عرضنا نماذج منها !

قد يبدو من الإسراف ان نطالب حكومات الاستقلال، بان تقيم لنا دولة إسلامية متحررة من طغيان الحضارة الأوربية، ومظاهرها في الحياة والسلوك الاجتماعي وغيره، التي أصبحت أعرافا دولية مقبولة بل مفروضة، وان كانت إسلاميا من المناكر التي يجب تغييرها، وتطهير المجتمعات الإسلامية منها .
ان صح هذا فان من الإجحاف ايضا ان تسرف حكومات الاستقلال في الانقياد لأساليب هذه الحضارة السفيهة، بكل ما فيها من مناكر محرمة، بنصوص قطعية، من غير تحفظ، حتى تجاوزنا في ذلك، حال بعض الدول الإسلامية التي سبقتنا الى التغريب، لأسباب جغرافية وتاريخية، والحال ان الذين ألفوا حكومات الاستقلال هذه، وقادوها، هم انفسهم رجال الحركة الوطنية، وزعماء الاحزاب السياسية، التي ما كسبت ثقة الشعب المغربي، الا بشعار الإسلام، الذي كان حاضرا وبارزا في كل أقوالها وأفعالها .

وعلى سبيل المثال، فكلنا يعلم الضجة بل الضجات، التي اقامها الوطنيون على باشوية مراكش، بسبب "جامع الفنا"، والاتهامات التي كالوها لها لمجرد ان بعض الرجال ( لا النساء) يقدمون فيه عروضا لتسلية السياح، اعتبرها المغاربة مهينة لكرامة الوطن والمواطنين .
فمن كان يتوقع مهما بلغ به سوء الظن بزعماء الامس، ان تتهافت حكوماتنا بعد الاستقلال، على هذه " البدع العصرية" المهينة،المستعملة، لجذب السياح . بل من كان يتوقع مهما بلغ به الشك في امانة قادتنا، المؤتمنين على اسلامنا واخلاقنا، ان تدخل حكوماتنا المتعاقبة، في منافسات حادة، مع بعض الدول، التي تقايض صراحة باعراض نسائها لاصطياد سفهاء السياح، وجرهم لتبذير اموالهم بل اموال شعوبهم المنهوبة، في الفسق والفجور، حتى اذاعت عنا بعض الصحف الاجنبية في هذا الباب، اخبارا مهينة لا تكاد تصدق، دون ان يستفز ذلك حكومتنا، فتقوم برد فعل مناسب، يدل على ان هناك اهتماما من نوع ما، بكرامة هذا الشعب  !

-5-
موازنة بين المقدسات الدينية والسياسية
واظن انه لابد لكي نقدم البرهان، على ان اباحة المحرمات الاسلامية،  ينطوي على خرق صريح لنصوص الدستور، من اجل ان نقوم بتحليل قانوني، يستهدف المقارنة، بين النصوص الدستورية المتعلقة بالاسلام، وتلك المتعلقة بنظام الحكم، او بين المقدسات الدينية والمقدسات السياسية !
فمن المعلوم ان النصوص الدستورية المتعلقة بالدين وحمايته، تقع بمكان واحد مع النصوص المتعلقة بنظام الدولة وحمياته، بحيث يكون الامر ان في مرتبة واحدة من حيث القيمة والاعتبار والاهمية،  ويزيد في هذا وجود اعراف دستورية مطردة قارة تعتبر الاسلام وحمايته، ركنا في قيام الدولة والتزاما اساسيا من التزاماتها .

ومن المعلوم ان النصوص المتعلقة بنظام الدولة وحمايته، نشات عنها "مقدسات سياسية"، لا يجوز الاخلال بها. وبمقتضاها يجرم القانون كل ما يعارضها او يهينها من قول او فعل، ولا حاجة لان نبرهن عن هذا، فالمحاكمات الكبيرة والصغيرة التي جرت وتجري لزجر كل من يمس المقدسات السياسية، تجعل هذا من المعلوم بالضرورة وبالنظر لوجود النصوص الدستورية، المتعلقة بحماية الدين وحماية الدولة في مكان واحد، فان المنطق القانوني، يحتم لان يكونا متساويين، وان تاخذ المقدسات الدينية من الدولة، نفس العناية والحماية التي تاخذها المقدسات السياسية .
فكما لا يجوز ان يظهر كلام او عمل او رمز او شعار يعارض نظام الدولة او يهينه، او يسخر منه او يصرف الناس عنه، فانه لا يجوز ان يظهر ما يفعل مثل ذلك بالدين .

والاسلام في تعريفه النظري وتطبيقه العملي، لا يستطيع احد ان يحدده بتعريف او بتطبيق من عنده، لانه موصوف محدد ومرسوم، بمرجع هو اقدس من الدستور نفسه، وهو القران الكريم والسنة النبوية المفسرة او المطبقة له. والمنطق الديني والقانوني، يقتضي ان يكون الدستور، بتصريحه بان الاسلام هم دين الدولة، التي تلتزم بحمايته، محيلا على القران الكريم والسنة النبوية، باعتبارهما المرجع الذي يجب اعتماده وحده، لمعرفة الدين نظريا وتطبيقه عمليا .

والقران الكريم، كما لا يحتاج الى بيان، يحتوي على اوامر ونواه عديدة، في مقدمتها ، نصوص جنائية تحدد عقوبات ثابتة، لنوع من الجرائم، ونصوص تحرم كل الخبائث، التي اجمع العقلاء على ضررها، وفي مقدمتها الخمر والميسر والزنى. بل فيه نصوص تضع للناس حدودا في لباسهم لا يجوز تجاوزها !

والدولة بهذا ملزمة، بان تعمل بكل هذا الذي جاء في القران الكريم، مما ذكر وغيره، وكذلك ما زادته السنة من تفسير او تشريع، ابتداء من حدوده القصوى، الى حدوده الدنيا، التي تتراوح بين النصوص الجنائية الى النصوص المتعلقة بالهيئة والزي والسلوك الشخصي !
واستنادا الى هذا، تكون الدولة ملزمة بالحكم بما انزل الله، وبمقتضاه تصير جميع القوانين الوضعية المعمول بها الان لاغية باطلة، وبمقتضاه تكون الدولة ملزمة بتحريم كل ما حرم القران، وبه تكون جميع الرخص الممنوحة لاستثمار مقاولات الخمور والدعارة و" الفنون القبيحة"، القائمة على استغلال عورات النساء لاغية، باطلة مع التنبيه الى ان هذه النتائج كلها مقررة بقوة القانون، اي بنصوص الدستور نفسه، لانه من مقتضياته ومدلولاته التي لا مفر منها.

*
*  *
هذه حقائق بديهية، لا يستطيع احد ان ينازع فيها او يجادل، واظن اننا لو استفتينا ثلة من فقهاء القانون الوضعي، وحتى من الاجانب، اي من الكافرين بديننا انفسهم، لما استطاعوا ان يتخلصوا من هذه النتائج، التي تفرض نفسها على كل واحد، ومادام ثابتا ان الدولة التزمت الاسلام وحمايته، ومادام ثابتا ان المرجع المعتمد لمعرفة الاسلام هو القران، ومادام ثابتا ان هذا القران يتضمن نصوصا تشريعية، ونصوصا توجب العمل بها ومنها ايات "ومن لم يحكم بما انزل الله" الثلاث(9) والاية الاخرى { فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدون في انفسهم حرجا مما قضيت  ويسلمون تسليما} (10) ومادام ثابتا اننا من الحيوان الناطق، المحجوج بمنطقه الذي ميزه  الله به عن البهائم. ونحن نعلم ان هذا من الكلام المزعج، الذي يكاد يصبح تهمة تجر العقاب، ولذلك نتجاوز الخوض فيه لنقول، اننا نتمنى على دولتنا ان تحترم القران على الاقل، فيما جاء به من محرمات، باعتبار انها خبائث ضارة بالمال والصحة، وان تعمل على حماية الدين من هذا الجانب، بل اننا نتمنى على دولتنا ان تحرص على اقل الاقل،  وهو منع المجاهرة بهذه المحرمات، وان تلزم المبتلين بها بالاستتار، ليفسق من يريد منهم داخل بيته من غير ان يخرج الى الشارع، ليتحدى الناس بمحرماته ويعديهم بها. وليس وراء هذا حبة خردل من الايمان !

مثل كان يضربه أحد علمائنا
أتذكر هنا مثلا كان يضربه احد علمائنا رحمه الله، في هذا المقام، يفترض فيه انه شخصا يقوم باستنساخ " الظهائر الشريفة"، ويزخرفها ويؤطرها ويعلقها،
-----------------------
9)  هي الايات 44 و45 و47 من سورة المائدة .
10)    سورة النساء الاية 65 .
----------------------
ويكتفي بهذا دون ان يعمل باي شيء مما ورد فيها من اوامر ونواه. فاذا حوسب على عصيانه، دافع بانه اشد احتراما للقانون من اي احد،  محتجا " بلوحاته" التي تبرز ما بذله من عناية صورية بنصوصه .
حقا انه لمثل وافق مضربه في كل شيء. فكم يشبه هذا حالنا مع القران وما نضيفه عليه من زخارف وتشريفات في مختلف المجالات والمناسبات، لاسيما في اجهزة الاعلام وخصوصا المرئية منها، لنعطله بعد هذا، ومع هذا كله، بإباحة كل ما حرمه ونكون مثل الكافرين به تماما، بل نزيد فنهينه بمختلف انواع الاهانات ويكون ذلك اول ما يكون بجهاز التلفزة نفسه بالطريقة الوقحة التي تعرضه بها وتقدمه (11)
      ( يتبع)
----------------------------
11)    على انه يجب بالمناسبة من كان يحسب ان من تكريم القران ادراجه بجهاز التلفزة، لتقدمه مذيعة بابتسامة ماجنة، مسبوقا ومتبوعا بافلام الخلاعة ولقطات الاشهار الوقحة، لان هذا " التكريم" ليس والله الا منكرا نهى عنه كتاب الله، باشد ما نهت عنه اية " لا يمسه الا المطهرون".
----------------------------


* مجلة المحاكم المغربية، عدد 74، ص 7 .


Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : أبحاث قانونية مغربية