-->

التضخم في الأحكام ( بحث تقويمي في عدم قبول الدعوى)

                                                     
الأستاذ احمد باكو 
محام بهيئة الدار البيضاء

يلاحظ المتتبع لقضاء محاكمنا منذ سنوات كثرة الاحكام الصادرة بعدم قبول الدعوى شكلا، لاسباب ترجع غالبا، الى عدم ثبوت " صفة المدعى". حتى انه يمكن ان يقال، انها تربو على عدد الاحكام الباتة في موضوع الدعوى، او تعادلها.

وهذه نتيجة غير محمودة،  لاننا  اصبحنا  امام  كم  هائل  من  الاحكام  العقيمة  الفارغة من الغاية المقصودة من الحكم، لانها لا تحسم النزاع بين طرفي الدعوى. وهي بهذا تشبه تماما، ما تكون عليه النقود عند انتشار التضخم بسب الازمات  الاقتصادية ،  فتصير الاوراق النقدية ، كالغثاء الذي لا يغني ولا يجدي .

فاذا رجعنا النشاط القضائي لسنة او سنوات المعينة، لاجل الجرد والتقويم، وجدنا انفسنا امام كم هائل من الملفات، تنطوي  على مقالات سجلها اصحابها وأدوا عنها، وانتظروا تعيينها بتلهف وقلق واستدعت لها المحكمة اطرافها، وعينت لها الجلسات، وحضرها المتقاضون، وترافع  فيها المحامون بالكتابة او المشافهة او بهما معا ثم ينتهي هذا كله الى نتيجة سلبية، هي الحكم بعدم قبول الدعوى شكلا، ليحصل المدعى على حكم يقول له  ان  عليك ان تصعد بالصخرة من جديد، ليكرر  كل  ما قام  به  من  حركات ونفقات، ويعاني ما عاناه سابقا من انتظار  وقلق  !  لا مبالغة اذن في ان نقول ان الحكم هنا شبيه بالورقة النقدية المريضة بالتضخم  !

ثمة اذن خلل، وثمة اذن خلط ! فما هو ؟ !
لقد تتبعت الاحكام الصادرة بعدم القبول، من خلال الدعاوي التي توليتها او التي سمعت عنها، فوجدت ان اغلبها غير مبرر قانونيا، وان منطوقها بعيد عن حيثياتها المذكورة بها. او التي يجب ان تذكر، اذا راعينا قواعد المسطرة، الغايات التي توخاها المشرع منها.
وعندما حاولت استقصاء اسباب الخلل ومصادرة، وجدته يرجع الى التمسك بحرفية النصوص، من غير  مراعاة  لروحها  و الغاية  منها ، او الافراط في التشدد عند تطبيقها، الى حد التزيد والالزام بما لا يلزم احيانا، او الخطا في فهم  الصفة  المشترطة لقبول الدعوى، واساءة تطبيق الفصلين الاول والثاني والثلاثين من ق م م، وهذا ما اسعى الى عرضه بتفصيل في الفقرات الاتية :

التمسك بحرفية النصوص
( مثال الإذن بالتقاضي)
يؤدي التمسك بحرفية النصوص الى اخطاء ثقيلة ما اجدر القاضي باجتنابها، لانها تؤدي الى سد باب القضاء في وجه المدعين، وإقناطهم من الانصاف الذي يبتغونه، من لجوئهم الى المحاكم.
لنتأمل هذه النازلة : " توفي رجل عن زوجة وولد قاصر، من امراة مطلقة، وخلف متروكا لا باس به. ونظرا لاستبداد الارملة بالتركة لجأت المطلقة باعتبارها مقدمة عن الولد المحجور الى السيد قاضي المحاجير الذي سعى اولا للتسديد بينها وبين الارملة، ليحصل المحجور على نصيبه من التركة وبعد ان اخفق في ذلك، وجه المقدمة لرفع لدعوى المحكمة، واحالها على النيابة العامة التي منحتها المساعدة القضائية، واستصدرت لها امرا من السيد نقيب المحامين، بتعين محام للدفاع عنها.
وقام المحامي برفع دعوى امام المحكمة المختصة. وبعد اجراء المسطرة، اصدر القاضي حكمه بعدم قبول الطلب، والسبب هو عدم الادلاء باذن السيد قاضي المحاجير، للمقدمة برفع الدعوى !".

في هذا النموذج نجد التمسك بحرفية النصوص، من غير اعتبار لمعناها وروحها والغاية منها، وحالة النازلة وما تقتضيه. وطبعا فقد استند القاضي الى مقتضيات الفصل 158 من م ح ش. الذي ينص على انه لا يجوز للمقدم بدون اذن من القاضي ان يباشر تصرفات، منها رفع الدعوى، الا ما كان في تاخيره ضرر على القاصر، او ضياع حق له، وعلى الفصل الاول من ق م م الذي ينص على انه يثير القاضي تلقائيا انعدام الصفة او الاهلية، او الاذن بالتقاضي، ان كان ضروريا .

ان اقل تامل في وقائع النازلة، يفيد ان الاذن بالتقاضي هنا، لا ضرورة له بل لا موضوع، لكون الغاية التي من اجلها اوجب الفصل 158 المذكور وجود الاذن، هي منع الوصي او المقدم، من المبادرة الى رفع دعوى، لا ضرورة لها ولا مصلحة فيها للمحجور، بحيث يترتب عن ذلك تبذير امواله، وهذا المحذور منعدم في النازلة حتما.

اذ ان النيابة العامة منحت المقدمة المدعية المساعدة القضائية، فأعفيت من مصاريف الدعوى. وزادت فعينت لها محاميا، عن طريق النقابة، فأعفيت من مصاريف الدفاع، وترتب عن هذا حتما، ان صارت اموال المحجور، مصونة محصنة من الضياع، مع ملاحظة ان موضوع الدعوى، يفيد انه لم يكن لدى المحجور عند رفع الدعوى، مال يخشى عليه من الضياع .

وفوق هذا فان منح المساعدة القضائية. ينطوي على اذن ضمني لمقدمة برفع الدعوى. صادر من النيابة العامة، التي تتقاسم مع قاضي المحاجير، الاختصاص برعاية شؤون القاصرين.

فقد يقال ان القاضي لا يستطيع ان يتصرف في النص، بفهم من عنده قد يكون غير مراد المشرع، وهنا نلاحظ ان المشرع فتح الباب واسعا، لتمكين القاضي من التصرف بالحكمة الواجبة، ليتجنب الالزام بشرط الاذن، اذا كانت حال النازلة تقتضي ذلك، نجد هذا في عبارة " الا ما يكون في تاخيره ضرر على القاصر او ضياع حق له" التي وردت في الفصل 158 من م ح ش وعبارة " ان كان ذلك ضروريا" التي وردت في الفصل الاول من ق م م فالعبارتان تفيدان معا ان الالزام بشرط الاذن بالتقاضي ليس مطلقا، وان القاضي يمكنه ان يضرب عنه، ويقبل الدعوى بدونه، عندما يجد في وقائع الدعوى ما يقتضي ذلك.

وفي النازلة اكثر من شاهد واحد، على ان اشتراط الاذن لقبول الدعوى، لا ضرورة له، وفيه تضييع لحقوق القاصر، بحيث تعتبر نموذجا، للحالة التي يجب فيها على القاضي، ان يضرب عن هذا الشرط، والا ترتب على ذلك ضياع حقوق القاصر، أي نقيض ما توخاه بالمشرع، من اشتراط الاذن .

وبالفعل فان الذي استفاد من حكم عدم القبول، الذي صدر في الدعوى، هو المدعى عليها، التي ظلت مستبدة بالمتروك، في اطمئنان زادها لددا على لدد، ورجعت المدعية بخيبة مقنطة، بعد ان ظلت تتردد علت قاضي المحاجير، ثم على النيابة العامة وغيرها، حتى اذا تاتى لها ان ترفع الدعوى، جاء الحكم بعدم القبول لينزل بها الاسفل بعد طول صعود ! 

هنا يتأكد ان هناك خللا، ناتجا عن اهمال التعمق في النصوص لفهمها فهما جيدا، لإدراك مراميها ومغازيها، للتصرف فيها عند التطبيق، حسب كل نازلة بخصوصها، اذ لو حصل هذا لنفطن القاضي، الى ان التمسك باشتراط اذن القاضي، لا ضرورة له، بل لا موضوع، وان الالزام به، لا بد ان يؤدي الى الاضرار بالقاصر ونفع خصمه الغاصب لحقه.

* * *
التشدد والإلزام بما لا يلزم
( مثال الفصل 9 من ظهير 25/12/80)
وقد حصل ما هو اشد واغرب مما سلف، وهو التزيد في معاني النصوص، بالتشدد فيها بأقوى مما قصده المشرع، والالزام بما لم يقصده اصلا، كما حدث في تطبيق الفصل التاسع من ظهير 25 دجنبر1980، الذي ظلت المحاكم تتشدد في تفسيره سنين طويلة.
فقد نص الفصل المذكور على ان اشعار فسخ الكراء يجب ان يتضمن في صيغته تحت طائلة البطلان شروطا ثلاثة، اولها شموله مجموع المحلات المكراة، بكافة مرافقها.

وما ان وصل الفصل الى التطبيق، حتى بدات الاحكام تصدر بعدم قبول الدعوى، بعلة بطلان الاشعار، بعدم نصه على جميع المحلات والمرافق، على سبيل العد و الاحصاء على اساس ان هذا هو مراد المشرع، ثم اطردت الاحكام على هذا، حتى اصبح اجتهادا قارا، تجمع عليه محاكم الدرجة الاولى والثانية، على الرغم من ان الالزام بذكر محتويات العين المكراة بعددها، لا دليل عليه في الفاظ النص، ومن ان هذا الفهم مدفوع مرجوح، بعدة اعتبارات اخرى منطقية خارج النص .

فاذا كان الفصل يوجب شمول الاشعار لجميع المحلات ومرافقها، فان هذا المطلوب يتحقق، بمجرد كون صيغة الاشعار عامة، بخلوها من النص على ان الفسخ يتعلق بجزء من العين دون جزء، لان مقصود المشرع، هو اجتناب الفسخ الجزئي لعقد الكراء، حفاظا على وحدته، حسب التفسير الذي اعطاه المجلس الاعلى للفصل اخيرا، وهذا يتحقق بمجرد كون عبارات الاشعار، تفيد ان الفسخ يتعلق بعموم العين، وهذا يتحقق بالصيغة التي تحرر بها الاشعارات في العادة.

فعندما يشعر المكري المكتري بفسخ الكراء، في الدار او المنزل او المحل، معرفا هكذا بالالف واللام، فان هذا يعني بداهة، ان الفسخ يعم جميع العين من غير استثناء، لان ( ال) التي بالدار او المنزل، تفيد ذلك قطعا لانها هي ( ال) التعريف العهدية، التي تحدث عنها النحاة، ونصوا على انها اذا دخلت على الاسم، زيادة على التعريف، كونه معهودا ومعروفا بين المتكلم والمخاطب، بمعنى ان الفاسخ هنا يخبر المكتري بفسخ الكراء في المحل المعهود بينهما، بكونه كان موضوعا لعقد الكراء المبرم بينهما، بعد ايجاب وقبول ومعانية.

وبهذا كان التعميم والشمول المطلوب بالفصل، مدلولا عليه قطعا، بالعموم المستفاد، من عدم النص في الاشعار صراحة، على ان الفسخ يتعلق ببعض العين او جزء او قسم فقط. ولم اطلع في حياتي على اشعار مكتوب بهذه الصيغة، حتى ذلك الذي يكتبه العوام من الناس !

* * *
وزيادة على ان هذا العد والاحصاء لم يكن مقصودا، فانه لم يكن منطقيا، لان من شانه اذا استمر واطرد في الاشعارات، ان يحدث اشكالا عمليا وقانونيا، يؤدي الى ذات المحذور الذي توخى المشرع دفعه.
اذ من الشائع ان المكتري، قد يعمد مع طول الزمان، الى احداث تغيير بالعين، اما بالنقص باشراك غرفتين لتصبحا واحدة، واما بالزيادة، بتشطير غرفة الى اثنين، او احداث بيت بالسطح، او مرآب بالاسفل، فتصير العين الى غير حالتها التي يعرفها المكري، عند بداية التعاقد.

فاذا قام المكري واعلن للمكتري فسخ الكراء في الدار، بعدد غرفها ومرافقها التي اكراها بها، فان هذا الاحصاء لن يكون مطابقا للواقع، اذا افترضنا ان المكري طلب فسخ الكراء في دار كانت عند ابرام كرائها تتكون من غرفتين، ثم غيرها المكتري الى ثلاث غرف والنتيجة هي حصول المحذور الذي توخى المشرع دفعه، وهو تبعيض الفسخ، وصدور حكم يقضي بافراغ بعض العين لا كلها.

* * *
وعلى كل فقد جاء الفرج، ولكن بعد شدة دامت ست سنوات عقام، تعطل فيها حق الفسخ، وكان هذا حين اصدر المجلس الاعلى قراره المشهور بتاريخ 24 ابريل85 تحت عدد 989، الذي نطق فيه بقبول الطعن، بان المشرع لا يقصد ذكر محتويات العين على سبيل العد والاحصاء، مبينا بصراحة ان مقصود المشرع في الفصل 9، هو ضمان المحافظة على وحدة عقد الكراء. ولهذا يجب ان يراعي في تفسير هذا النص، ما يحقق غاية المشرع، دون التوسع فيه، الى احد احراج المتقاضين، بالاشارة الى ضرورة افراغ كل اجزاء المحل الواحد (1). كان هذا القرار حاسما ومفيدا حقا، ولكن هل كان من الضروري ان يتدخل المجلس الاعلى ليقول ان السماء فوقنا؟!

لقد ادى الاجتهاد الغريب الذي قطعه المجلس الاعلى، الى كثير من التعقيد والاضطراب. بل ادى احيانا الى عبث مضحك، حين يلجا المدعى عليه، مثلا، الى الدفع بان الاشعار باطل، لمجرد خلوه من النص، ضمن محتويات المحل، على مرفق النظافة، الذي اغفل المدعى ذكره، سهوا او حياء ؟

وبطبيعة الحال، فانه لا مفر للمحكمة من ان تسمع هذا الدفع، وتنقاد الى الحكم ببطلان الاشعار، مدفوعة بان الاجتهاد مستقر، على ان ذكر محتويات المحل بعددها، شرط لصحة الاشعار في صيغته ! 

واظن ان هذا الاجتهاد لو استمر، لتولدت عنه عواقب اخرى، اغرب واخطر، تؤدي الى تعطيل تنفيذ احكام الافراغ، لان من المتوقع ان يعمد بعض المحكوم عليهم بالافراغ، عندما يصبح الحكم نهائيا، الى احداث غرفة زائدة، في مكان ما بالمحل، ليتمسك بانه لا يمكن تنفيذه، فيما زاد على الغرف المرافق المذكورة بالاشعار، الذي كان موضوعا للدعوى، والحكم الصادر فيها ! .

واذا رفع الاشكال الى المحكمة، ولا بد من ذلك، فان القاضي سيجد نفسه، اذا اراد ان يخلص للاجتهاد القار، ملزما بان يأمر بوقف التنفيذ، لوجود اشكال يجب على المحكوم له، ان يقوم برفعه، باستصدار حكم لاحق، يقضي له بافراغ الغرفة الزائدة، او يامر بافراغ جزئي للمحل، ليبقى المحكوم عليه معتصما بالغرفة الزائدة، ولا يخفى ما في هذه الافتراضات، من تعقيد واشكال وشذوذ !

وهنا نعاين ما ينتج عن التشدد في تفسير النصوص القانونية وتطبيقها من مضاعف ومتاعب ومشاكل، لا تؤدي الا الى التعسير وتضييع الحقوق !

* * *
الا ان هناك امرا اخر، لا يمكن السكوت عنه، وهو ان الخطا او الخلل بدا من المشرع نفسه، لان لم يكن موضوع ولا فائدة، من اشتراط شمول الاشعار لمجموع المحلات والمرافق  !
--------------------------
1) انظر القرار في قضاء المجلس الاعلى 37-38 ص 37.
-------------------------

فاذا كان المجلس الاعلى في قراره المشار اليه، قد علل ورد هذا الشرط، برغبة المشرع في الحفاظ على وحدة عقد الكراء، تلافيا للفسخ الجزئي، فان هذا المحذور مستبعد عمليا، في اغلب حالات الفسخ، وحتى اذا وقع، فانه يمكن ان يكون نافعا، ولهذا كان يجب ان يجيء الفصل التاسع، خاليا من هذا الشرط المشكل، الذي لا نفع منه ولا فائدة .

لقد رجعت الى مداولات مجلس النواب حول الظهير، راجيا ان اجد فيما تبادلوه من كلام، ما يكشف لي عن مغزى هذا الشرط، والمصلحة التي تستدعيه، ولكني وجدت السادة النواب، على كثرة ما تكلموا يمرون على الفصل وصيغته مرور الكرام، حيث لا يحسن الكرم،  فصوتوا عليه كما هو، باستثناء تعديل يتعلق بالاجل .

ولكم كنت أتمنى، ان يتفضل احدهم فيوجه استفسارا، للوزارة التي وضعت مسودة القانون، لمعرفة هذه المصلحة الخطيرة، التي استدعت إقحام هذا الشرط المحير. ولو وقع ما ذكر، لانكشف ان هذا الشرط لا نفع منه ولا فائدة، وان حذفه انفع لطرفي عقد الكراء، وللمكتري بالذات ! 

فمن جانب اول، فان احتمال ان يقوم المكري بالفسخ الجزئي، مستبعد جدا، كما سلف. اذ يكاد يكون من المستحيل، ان يقوم المكري بطلب فسخ العقد، في بعض من العين دون البعض، ليطلب الافراغ، في نصفها او ربعها دون الباقي فالفسخ الجزئي الذي توخى المشرع دفعه، مدفوع طبعا وعملا .

ومن جانب ثان، فان الفسخ الجزئي، قد يكون نافعا، فيكون طلبه او الحكم به مفيدا، لنفرض ان ملاكا اكرى دارا من طبقتين، ثم احتاج الى السكنى، وكان جزء منها يكفيه، الا يكون الاصلح، ان نفسح له المجال، ليطلب الفسخ في طبقة من الدار دون الباقي، واذا لم يفعل هذا، الا يكون من القضاء السليم الذي يرفع الضرر والضرار، ان نفسح المجال للقاضي، ليقضي به ويحكم بالفسخ الجزئي، والزام المكتري بالتخلي للمالك، عن احدى طبقتي الدار ليتقاسماها، لا سيما في وقتنا الحاضر، الذي اشتهر باشتداد ازمة السكنى وازمانها ؟  هنا نرى انه كان من الاحسن، ان يخلو الفصل 9 مما يمنع الفسخ الجزئي، الذي قد يكون له نفع وفائدة.

اعتقد ان الفصل التاسع، لو تعرض عند وضعه، لفحص وبحث جدي، لانكشفت هذه الحقائق فورا، ولوجد الجميع، ان من الضروري حذف هذا الشرط النشاز ليخرج الفصل سليما، من الاشكال الذي فتن القضاء، وحير المتقاضين زمنا طويلا .

الخلط بين شروط قبول
الدعوى وقواعد الإثبات
( حالة الفصل 32 من ق م م
والفصل 32 من ظهير 24 ماي
واثبات واقعة الاحتلال)
تستند بعض الاحكام الصادرة بعدم قبول الدعوى، الى مقتضيات الفصل 32 من ق م م، الذي يحدد البيانات التي يجب ان يحتوي عليها المقال، وينص  على وجب ارفاقه، بالحجج المنوي استعمالها، وذلك في الحالة التي يكون فيها مقال الدعوى، غير مرفق بالحجج على اساس ان هذا يعد اخلالا،  بمقتضيات الفصل المذكور المتعلقة بشروط قبول الدعوى !

والحقيقة ان إرفاق المقال بالحجج، بعد ثبوت اركان الدعوى، لا علاقة له باركان الدعوى وشروط قبولها، بل يرتبط بقواعد الاثبات، المنظمة بمقتضيات الفصول 399 وما بعدها من ق ع ل، والمعتبرة شرطا لصحتها موضوعا ووجوب الحكم بالمطلوب فيها. وذلك فان جزاء الاخلال بها، جزاء موضوعي يوجب النطق برفض الطلب، وليس عدم قبوله.

وهذا يعني ان المدعى، لا يكون ملزما بتقديم الحجة على دعواه، الا اذا تحداه المدعى عليه بالانكار، وعلى قدر هذا الانكار ومداه، فاذا اجاب المدعى عليه بانكار الدعوى كليا، تحرر المدعى عليه من الاثبات بناء على ان الاقرار يعفى المدعى من اقامة الحجة، واذا كان الاقرار جزئيا، كان الواجب على المدعى هو اثبات ما بقي فيه الانكار .

ويقاس على هذا سكوت المدعى عليه، الذي يجب ان يعتبر اقرارا ضمنيا، اذا اقترن بما يؤيد ذلك، بمعنى ان القاضي لا يبادر الى الزام المدعى بالاثبات تلقائيا، اذا لم يجب المدعى عليه بالانكار، لان قواعد الاثبات لا تتعلق بالنظام العام .
واذا تعينت الحجة على المدعى بالانكار، كان الواجب جزاء لعدم اقامتها، هو رفض الطلب موضوعا، وليس الحكم بعدم قبولها شكلا، باستثناء الاحوال التي تتعين فيها الحجة لاثبات ركن او شرط لقبول الدعوى.

هناك اذن فرق بين اركان الدعوى، المتعلقة ببيان المدعى والمدعى عليه والمدعى فيه وغير ذلك من الشروط الضرورية لهذا التعيين، وبين قواعد اثباتها، واقامة الحجة على صحتها موضوعا، واستحقاق المطلوب فيها وهذا الفرق يستدعي، بطبيعة الحال ان يكون هناك فرق اخر، في الجزاء القانوني، الذي يجب ان ينطق به القاضي، عند الاخلال ببيان الاركان، او اثبات الدعوى.

وحرص المشرع على الاستطراد، الى ذكر الالزام بتقديم الحجج، ضمن محتويات المقال، لا ينفي هذا الفرق، ولا ينبغي ان يؤدي الى أي التباس، يجر الى الخلط بين شروط قبول الدعوى وقواعد الاثبات، وما بينهما من فروق جوهرية.

فغاية المشرع من النص في الفصل 32 من ق م م على ارفاق الوثائق هي حث المدعى على ان يكون مقال دعواه نموذجيا جامعا لما يجب في كل الاحوال، وما لا يجب الا في احوال خاصة، بحيث لا ينقصه شيء يوجب تاخير الدعوى، وبحيث تكون صالحة للبت فيها، شكلا وموضوعا، بجلستها الاولى، من غير تاجيل ولذلك حصر على الالزام بالاثبات الذي لا يتعلق بالنظام العام، بجانب الالزام ببيان اركان الدعوى التي يثيرها القاضي تلقائيا، على اساس ان يقوم القاضي، عند التطبيق، بالتمييز بين ما هو ضروري لقبول الدعوى، وما هو واجب لاثباتها عند الانكار، والتمييز بين الجزاء الذي يجب ان ينطق به، حسب كل حالة .

الإلزام بالإدلاء بإنذار الافراغ :
ومن الامثلة المشهورة لهذا الاجتهاد المخطئ، ان المحاكم دأبت على الحكم بعدم قبول الدعوى، التي يرفعها المكتري، بناء على مقتضيات الفصل 32 من ظهير 24 ماي 1955 لطلب الحكم ببطلان انذار الافراغ، اذا اغفل ارفاق المقال بالانذار او بأصله، حتى في الحالة التي لا يكون فيها نزاع، من المدعى عليه في وجوده وصيغته.

وذلك تاسيسا على ان المدعى لم يرفق مقاله بالحجج، التي يجب الادلاء بها، او التي ينوي استعمالها، حسب مقتضيات الفصل 32، من غير مراعاة لكون الفصل المذكور، لا يمكن تطبيقه في هذا الجانب، الا على مقتضى قواعد الاثبات كما سلف .
وقد وصلت نازلة من هذا النوع الى المجلس الاعلى ، فلم يتردد في تخطئة اجتهاد المحكمة، التي ذهبت الى اعتبار غياب الانذار موجبا لعدم قبول الدعوى، والحال ان المدعى عليه، لم ينازع في وجوده وفي محتواه.

كان هذا في قراره الصادر بتاريخ 11/12/85 تحت عدد 2862، الذي جاء فيه انه لا يعتبر الادلاء بالانذار، في حالة عدم المنازعة لا في توجيهه، ولا في توفره على البيانات المطلوبة، شرطا لقبول دعوى الفصل 32 من ظهير 24 ماي 1955 (2).
-----------------------
1) رابطة القضاة ع 18- 19 ص 53.
-----------------------

الإلزام بإثبات واقعة الاحتلال :
ومن الامثلة المشهورة ايضا وهو كذلك مثال للتشدد والالزام بما لا يلزم، الزام مدعى الغصب او الاحتلال بدون سند، باثبات واقعة الاحتلال، أي الوجود الفعلي للمدعى عليه، بالمكان المطلوب اخراجه منه. ويحدث هذا حتى في الحالة يكون فيها حاصلا، بعدم المنازعة والاقرار الصريح او الضمني، وصار المدعى ملزما زيادة على اقامة الحجة على ملكيته او حيازته القانونية، بالادلاء بمعاينة تسجل ان المدعى موجود فعلا بالمدعى فيه  ! 
ولا يخفى ما في هذا من تشدد، يؤدي الى خرق قواعد الاثبات، والالزام بما لا يلزم، قانونيا ومنطقيا كذلك، لانه داخل فيما يسميه المناطقة تحصيل الحاصل .

فالغالب في دعوى الغصب، ان المدعى عليه يستدعى على عنوان المكان المدعى فيه نفسه، فيكون توصله قرينة قوية، على وجوده الفعلي بالمكان، وتكون واقعة الاحتلال ثابتة حاصلة، بمجرد حضور المدعى عليه بالجلسة .
وهنا يكون الاحتلال، واقعا مفروغا من ثبوته، ويظل مفترضا، حتى لو نازع فيه المدعى عليه، الذي لا يمكن ان يصدق في انكاره له، الا اذا قدم للمحكمة، حلا للغز حضوره امام القاضي، بعد توصله بعين المكان .

ويكون الاحتلال في وجوده مفترضا كذلك، بالاولى عندما يدفع المدعى عليه بالملك او الكراء، او غير ذلك ما ينفي صفة الغصب والتعدي، اذ ان هذا يفيد بداهة بدلالة الالتزام، ان المدعى عليه موجود بالمكان، ومتشبث بوجوده فيه ليظل حائزا له على الدوام.

ويبدو ان هذا الاجتهاد، يستند هنا ايضا الى مقتضيات الفصل 32 من ق م م على اساس ان محضر معاينة الاحتلال، من الوثائق التي يجب ارفاقها بالمقال، لاثبات وقائعه وكما هو واضح، فان الفصل 32 اذا كان يوجب بيان الوقائع، او المدعى فيه، فان اثبات ذلك تحكمه قواعد الاثبات، ولا تتعين الحجة على المدعى، الا بالانكار الجدي وعلى قدره، كما سبق بيانه بتفصيل .

* * *
وقد ترتب عن الخطا في فهم مقتضيات الفصل 32 من ق م م على هذا النحو، تعطيل قواعد الاثبات من جانبين :
اولهما ان القاضي، اصبح يتدخل لالزام المدعى باقامة الحجة، حين لا تجب عليه، وذلك عندما يكون هناك اقرار صريح، او ضمني من المدعى عليه، يعفى من اثبات الواقعة او التصرف، الذي يتذرع به المدعى سببا لدعواه.
وثانيهما ان القاضي، اصبح يحكم بعدم قبول الدعوى شكلا، حيث يجب ان يحكم برفض الطلب، لان الجزاء القانوني لعدم الادلاء بالحجة، المتعلقة بموضوع الدعوى عند الانكار، هو حكم برفض الطلب.

وللمجلس الاعلى عدة قرارات، توضح هذا وتؤكد انه لا محل للإلزام بالاثبات، الا عند الانكار وعلى قدره، وان عدم منازعة المدعى عليه في الواقعة او التصرف، يوجب قبول الدعوى شكلا، واعتبارها ثابتة موضوعا.
فمن ذلك قضاؤه بان المدعى الذي يقدم دعواه على اساس الفصل 88 من ق ع ل لا يكون، ملزما بتقديم محضر الحادثة، ما دام المدعى عليه، يعترف بمادية الحادثة (3).
ومن ذلك ايضا قضاؤه بان ادعاء المشتري شراء ارض النزاع من المدعى طالب التخلي يعفى هذا الاخير من اثبات ملكية ارض النزاع (4).
ومن ذلك ايضا، قضاؤه بان  دفع المدعى عليه في الشفعة، بان الشفيع قد اجرى القسمة مع الشركاء، يتضمن اقراره له ملكيته على الشياع، ولا يكلف باثبات هذا الشرط (5).

في هذه القرارات كلها، نرى قضايا تتعلق بحقوق عينية وشخصية كبيرة، اعتبرها المجلس الاعلى مقبولة وثابتة، دون ان يؤيدها المدعى بحجة يرفقها بالمقال، او يدلي بها لاحقا، عملا وتطبيقا لقواعد الاثبات، التي منها انها لا تتعلق بالنظام العام، ومنها القاعدة التي يعبر عنها فقهاء القانون، بان الاقرار يعفى من الاثبات، وعبر عنها فقهاء الشريعة الاسلامية قديما بقولهم، اقرار الخصم اقوى من اقامة الحجة عليه.

الا انه يجب التنبيه والانتباه، الى ان هناك دعاوى قليلة، يعتبر الادلاء فيها بالحجة، شرطا لسماعها وقبولها، بصرف النظر عن جواب المدعى عليه فيها. ومنها دعوى الزوجية التي لا بد لسماعها، من اثباتها برسم الزوج العدلي، الموصوف في الفصل الخامس من م ح ش او بديله الاستثنائي، حين يجوز ذلك، ولا تثبت بمجرد الاقرار الا بشروط خاصة.
------------------
2) قرار المجلس الاعلى الصادر بتاريخ 10/7/80 تحت عدد 431 رابطة القضاة ع. 2 -3 ص 185.
3) قرار المجلس الاعلى الصادر بتاريخ 31/12/88 تحت عدد 1616 رابطة القضاة ع.20-21 ص 119.
4) قرار المجلس الاعلى الصادر بتاريخ 21/10/86 تحت عدد 1318 مجلة القضاء والقانون ع. 138. 221.
------------------
هنا يكون الجزاء على عدم اثبات المدعى لدعواه بالادلاء برسم الزواج، هو النطق بعدم سماع الدعوى وقبولها، وهنا يتدخل القاضي تلقائيا، لالزام المدعى بالادلاء بالحجة، بصرف النظر عن جواب المدعى عليه.
والسبب هو ان اشتراط التوثيق الرسمي لوجود الزواج، يجعل انعدام رسمه العدلي مؤديا الى انعدام واقعة الزواج نفسها، بناء على ان المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، فيصبح المدعى فيه غير حاضر امام القاضي، وتكون الدعوى فاقدة لاحد اركانها، وهنا يكون الجزاء المناسب هو عدم القبول .

* * *
الخطأ في معنى الصفة وتطبيق
الفصل الاول من ق م م
( الخلط بين صفة المالك
وصفة المكري وحالة المعاينات)

معنى مصطلح الصفة وكيف نطبق الفصل الاول من ق م م 
تكاد تكون كل الاحكام الصادرة بعدم قبول الطلب، معللة بانعدام الصفة ويحدث هذا حتى في الحالة التي تثبت فيها الدعوى، بثبوت الواقعة، او السند الذي يثبت سببها، كعقد الكراء في الدعاوي الكرائية وهذا يدل على ان هناك خطا في تطبيق الفصل الاول من ق م م وفهم المعنى القانوني للصفة، ومداها في التطبيق العملي.

وهذا ما هو حاصل فعلا،  لانه يتجلى من حيثيات التي تستند اليها الاحكام، ان المحاكم تعطي للصفة، معنى تجريديا بعيدا عن الفاظ النص، ووقائع الدعوى، ومقصود المشرع في المصطلح، كما يتضح ذلك من مراجعة ما كتبه الشراح، في فقه المسطرة .

ان الصفة كما يعرفها الفقهاء، هي ان يكون رافع الدعوى هو صاحب الحق المطلوب او نائبا عن صاحبه، وعندما يطلب المدعى الحق لنفسه شخصيا، فان صفته تكون مندرجة في وقائع الدعوى، وسندها المثبت لسببها، وتثبت حتما بمجرد ثبوت سبب الدعاوي، بادلائه بالحجة، او جواب المدعى عليه بالاقرار، المعفى من اقامة الحجة .

ويدل على هذا ان بعض التشريعات، تكتفي باشتراط المصلحة المباشرة، دون النص على الصفة، ويذكر الشراح تفسيرا لذلك، انه لما كان من شروط المصلحة ان تكون شخصية ومباشرة، فان الصفة لا تعدو ان تكون وجها ثانيا للمصلحة، بمعنى انهما لا تنفكان، وان ثبوت المصلحة المباشرة، يستلزم ثبوت الصفة.
غير ان هذا الاتجاه متروك، لان هناك دواعي عملية، توجب افراد الصفة بالذكر، دفعا البعض الاشكالات التي تقع عمليا، عندما يكون رافع الدعوى نائبا عن صاحب الحق.

فالملاحظ عمليا ان الصفة تاخذ في التميز عن المصلحة، واكتساب كيان مستقل، عندما يكون رافع الدعوى، نائبا عن صاحبها. وهذا ما استلزم تخصيصها بالذكر باستقلال عن المصلحة المباشرة. وفي هذه الحالة، يحتاج ثبوت الصفة الى سند خاص، زيادة على الحجج الخاصة بسبب الدعوى .

وباعتبار اخر وعبارة اخرى، فان الاصل ان يكون المدعى اصيلا عن نفسه، بمعنى ان من يرفع الدعوى ليطلب الحق لنفسه، يصدق في نسبة الحق لنفسه، الى ان يثبت العكس من كلامه، او من حججه او حجج خصمه .
الا ان هناك دعاوي تقتضي طبيعتها، الا ترفع الا عن طريق وكيل او نائب، منها دعاوي الاشخاص المعنوية العامة والخاصة، مثل الدولة والبلديات والجماعات والجمعيات، التي لابد ان تكون بواسطة نائب معين، بنص القانون، او بالتكليف الاتفاقي، ومنها دعاوي المحاجير، التي لابد ان تكون بوساطة الوصي او المقدم، المعين من القاضي وباذنه.

في هذه الاحوال، يكون هناك موضوع لان يفترض القاضي انعدام الصفة في رافع الدعوى، ويطالبه قبل الدخول لموضوع النزاع، بالادلاء بسند مثبت لنيابته او وكالته، مع ملاحظة ان هذا ليس عاما من غير استثناء، لان هناك حالات، لا يكون فيها النائب ملزما باثبات صفة النيابة.
فاذا كان المقدم او الوصي، ملزما بالادلاء بالسند الذي يجير له النيابة عن المحجور الذي يتكلم باسمه، فان الاب الذي يرفع الدعوى باسم ولده القاصر، لا يكون ملزما باي سند، لان ولايته قانونية، تثبت له بمجرد كونه ابا، من غير حاجة لتعيين من احد.

واذا كان المفروض مسطريا، ان يتقاضى الشخص المعنوي عن طريق نائبه المعين، الذي يجب ان يثبت صفته، فان الواقع العام، بالنسبة للاشخاص المعنوية العامة، كالدولة والبلديات والمؤسسات العمومية، في حالة تقاضيها بوساطة محاميها، كما هو الغالب، ان دعاويها تقبل، من غير ضرورة لاثبات صفة  الشخص الطبيعي الذي يمثلها.

وهذه هي الحال في دعاوي الدولة، التي ترفع باسم الوزير الاول، الوزير الذي يدخل النزاع بنوعه في اختصاص وزارته، او الادارة المتفرعة عن الوزارة احيانا، ففي هذه الحال وما شابهها، يكفي لصحة الدعوى، مجرد بيان ان الدعوى مرفوعة باسم النائب القانوني المعين لذلك، من غير حاجة لتسميته والادلاء بصك تعيينه.

بل ان هذا واقع كذلك بالنسبة للاشخاص المعنوية الخاصة، كالشركات الخاصة التي يكفي ايضا لصحة دعاويها، حين تتقاضى بوساطة المحامي، كما هو الغالب، بيان ان الدعوى مرفوعة باسم المدير او التصرف، من غير حاجة لتعيينه بالاسم ومن غير حاجة للادلاء بصك انتدابه لذلك.

ولا يبقى الا الحالة التي يتقاضى فيها الشخص المعنوي، بوساطة شخص طبيعي غير محام ففي هذه الحالة، يكون من الضروري لسلامة الاجراءات، والاطمئنان الى جدية الخصومة، ان يتاكد القاضي من هوية الشخص الحاضر امامه لمواجهة الدعوى، وكونه الشخص الطبيعي المعين للتقاضي باسم الشخص المعنوي، او وكيله المنتدب لذلك.

* * *
وانطلاقا من هذا نستنتج قاعدة يجب ان يكون لها اعتبار، هي ان القاضي يفترض وجود الصفة، كلما صرح المدعى بطلب الحق  لنفسه، معولا على ان الصفة تثبت حتما، بما تثبت به الدعوى من الحجج، التي لابد لكي تكون منتجة في الدعوى، من ان تنسب الحق لمدعيه.

ويظل هذا الافتراض قائما، الى ان ينتقض بثبوت عكسه، بمنازعة ومحاجة من المدعى عليه، او اكتشاف تلقائي من القاضي، وذلك مثل ان يتبين من وقائع الدعوى نفسها، ان الحق المطلوب ليس للمدعي، بل لوالده او ولده او زوجته، هنا يبادر تلقائيا الى الحكم بعدم قبول الدعوى، لكون وقائعها تفيد ان الحق ليس لرافع الدعوى، الذي يطلب حق غيره باسم نفسه" وكذا الحال عندما يتفطن القاضي، الى ان الحجج التي ادلى بها المدعى تنسب الحق لغيره (6).

ويقوم القاضي بالبحث عن وجود الصفة، والحكم بعدم القبول على هذا النحو، من غير انتظار لاثارته من المدعى عليه، لان الصفة من النظام العام، وعلى هذا النحو يجب فهم ما نص عليه الفصل الاول من ق م م من ان القاضي يثير وجود الصفة تلقائيا، فالمقصود ان القاضي يجب عليه، حين يكتشف ان الحق منسوب لغير مدعيه، ان يحكم بعدم قبول الدعوى، ولو سكت المدعى عليه عن المنازعة بذلك، فالنص اذن يخص حالات معينة قليلة، يدور معها وحدها ولا يتعداها.
---------------------------
5) قد يجوز ان يحكم القاضي في هذه الحال، برفض الطلب موضوعا، استنادا الى كون الحجة غير منتجة، لانها تنسب الحق لغير مدعيه، الا ان الارجح والادق، هو المبادرة الى النطق بعدم القبول، نظرا لاسبقية الشكل على الموضوع، ولكون الصفة من النظام العام.
--------------------------
وانطلاقا من هذا وتفريعا عنه، نستطيع ان نخرج بقاعدة اخرى، متكاملة مع الاولى، هي ان القاضي ينطلق من افتراض ان الصفة منعدمة وتحتاج الى اثبات، كلما صرح رافع الدعوى بانه ينوب عن غيره، الى ان يثبت العكس، غير ان المستثنيات التي بيناها تفصيلا فيما سلف تكاد، تستغرق هذه القاعدة، لان الواقع العملي، يؤكد ان اغلب الدعاوي المرفوعة من الاشخاص المعنويين، الخاصين والعامين، لا تحتاج الى تسمية واثبات صفة ممثليها القانونيين او الاتفاقيين، ولانه حتى في دعاوي المحاجير، فان الولي القانوني (الاب) لا يكلف باثبات نيابته عن ولده، لانها ثابتة بقوة القانون.

ولا يبقى مجال للتشدد في تطبيق هذه القاعدة عمليا، الا عند رفع الدعوى، من وكيل 6ينوب عن شخص طبيعي او معنوي، لان القاضي هنا يجب ان يتاكد من الوكالة وقوعها ومداها، ليتاكد من كون الوكيل مؤهلا حسب مقتضيات الفصل 894 من ق ل ع (7) والا عند رفع الدعوى عن المحجور، من الوصي ان المقدم، للتاكد من وجود الوصاية او التقديم، حسب مقتضيات الفصول 147 وما بعده من م ح ش.

وحال الصفة هنا، كحال الاهلية التي تعتبر مفترضة الى ان يظهر العكس، والا كان واجبا على المدعى ان يرفق مقاله بصك ميلاده، لاثبات انه بلغ الرشد، وتقرير طبي لاثبات انه غير مجنون، وتقرير من السجل العدلي، لاثبات براءته من الجرائم السالبة للاهلية الخ !  !   
وقد قضى المجلس الاعلى فعلا، بانه اذا كانت الاهلية شرطا لصحة الدعوى، فان وجوب اثارتها تلقائيا، من طرف المحكمة، رهن بان يكون بالملف، ما يمكنها من ان تقف بنفسها، على ما يفيد انعدام، او نقص الاهلية (8).

بقيت حالة تثير الاشكال، لابد من الالمام بها، وان كانت تحتاج الى بحث مستقل شامل، هي التي يطلب فيها المدعى الحق، باعتباره وارثا، فهل يكون ملزما بالادلاء بالاراثة، لاثبات صفته، في جميع الاحوال، وهل يسقط عنه هذا الالزام، بعدم منازعة المدعى عليه، او غير ذلك ؟
-----------------------
6) ينص الفصل 894 من ق ع ل على انه " لا يجوز للوكيل أيا ما كان مدى صلاحياته بغير اذن صريح من الموكل توجيه اليمين الحاسمة ولا اجراء الاقرار ولا قبول الحكم او التنازل عنه ولا قبول التحكيم او اجراء صلح ولا لابراء من الدين ….."
7) قرار المجلس الاعلى عدد 815 الصادر بتاريخ 3 ابريل85 المنشور بقضاء المجلس الاعلى عدد 37-38 ص 35.
-----------------------
اذ يفهم من بعض احكام المجلس الاعلى، انه مازال يلزم بالقاعدة المسطرية " الشرعية"، التي توجب على من يدعي حقا لميت، ان يدلي باراثته، المثبتة للموت والارث على اطلاقها، الا ان هذا الاجتهاد منتقد فقها، لان في القوانين المدونة، وخصوصا قانون التحفيظ وقانون المسطرة المدنية، ما يغني عنها من احوال كثيرة (9).

هنا نصل الى الغاية من هذا العرض، الذي لا يخلو من إطناب مقصود، وهي ان الصفة، في اغلب حالات التقاضي، تعتبر مفترضة، في وجودها وثبوتها، لانها مفترضة في الدعاوي المرفوعة بالاصالة كلها، وحتى في قسط كبير، من الدعاوي المرفوعة باسم الغير.

والمقصود الاهم، هو انه في اغلب حالات التقاضي، لا يكون هناك موجب للازام بالادلاء بما يثبت الصفة، لان ذلك حاصل بافتراض اصلي قانوني، او افتراض عملي، على النحو الذي بينه المجلس الاعلى بالنسبة للاهلية. وهنا ينكشف لنا، وجود خطا في فهم المقصود بمصطلح الصفة، وفهم معنى الفصل الاول من ق م م ادى الى الاسراف في الالتزام باثبات الصفة والتشدد في تطبيق الفصل المذكور .

* * *
الخلط بين صفة المالك وصفة المكري
ثم ان الصفة تتنوع وتختلف، حسب نوع الدعوى، وسببها، ونوع الحق المطلوب فيها، فمدعى الاستحقاق، ملزم باثبات صفة المالك، التي تثبت بما يثبت به الملك، ومدعى الكراء ملزم باثبات صفة المكري، التي تثبت بما يثبت به الكراء، وليس ملزما باثبات صفة المالك، التي لا موضوع لها .
هنا نصل الى المعضلة، التي بهظت طائفة كبيرة من المدعين في دعاوي الكراء، وهي الخلط بين صفة الملاك، وصفة المكري، وما نتج عنها، من افتراض ان كل مكر، لا بد ان يكون مالكا مطالبا باثبات ملكيته، والا كانت صفته منتفية منعدمة ! 

اذ لا يخفى انه لا تلازم، بين صفة المالك وصفة المكري، لان الشيء قد يكريه غير مالكة، كالحال في المكتري، الذي يعود الى كراء العين للغير، بل ان القانون يعترف بكراء ملك الغير، ولو على وجه الفصول او التعدي، حسب المستفاد من الفصل 632 من ق ع ل، المحيل على الفصل 485، المتعلق ببيع ملك الغير .
-----------------------
8) انظر مقال اثبات صفة الادعاء بالاراثة للمستشار الاستاذ الاجراوي المنشور بمجلة القضاء والقانون ع. 140-141. ص 36.

فلو فرضنا ان غاصبا لعقار، عمد الى اكرائه للغير، ثم رفع دعوى للمطالبة باداء الكراء او فسخه، فان المكتري لا يستطيع ان يدفع، بكون المكري غاصبا، ولو اقام الحجة على ان العقار مملوك للغير، لان هذا الكراء صحيح بين طرفين، ملزم لها، الى ان يتكلم المالك، الذي له وحده الحق في نقضه وابطاله، ما لم يكن قد اجازه صراحة او ضمنا .

وللمجلس الاعلى قضاء صريح في هذا يقرر ان " للمكري بهذه الصفة وبقطع النظر عن صفة المالك ان يمارس الحقوق المترتبة على عقد الكراء بما فيه مراجعة وجيبة الكراء …."(10) وذلك ردا ورفضا للطعن، بان المكري لم يكن مالكا، حسب المدون بالرسم العقاري.
وعلى هذا، فان المطلوب اثباته من المدعى في دعوى الكراء، هو صفة المكري التي تثبت بما تثبت به العلاقة الكرائية، ويكون الزامه بالملكية خارجا عن موضوع الدعوى، بل يكون غير جائز وخارقا لقواعد الاثبات .

فاذا حضر المدعى عليه وانكر، او تغيب وتعين الاثبات على المدعى، فان ادلاءه بملكيته لا يعتبر حجة كافية لاستحقاق الكراء، واسترداد العين في حالة الفسخ، لان المستحق لذلك، هو من ابرم عقد الكراء، لا من كان مالكا للعين كما سلف .
فاذا قضت المحكمة بالكراء والافراغ، لمن ادلى بملكية العين، فان من الممكن ان يؤدى هذا، الى الحكم بالحق لغير صاحبه، لاحتمال ان يكون عاقد الكراء غير مالك ؟

ولا يكون للالزام بالملكية وجه، الا في الحالة التي يطلب فيها المدعى الفسخ والافراغ، بعلة الاحتياج للسكنى، لان القانون يشترط لقبول الفسخ في هذه الحالة، حسب نص الفصل 14 من ظ 25 ديسمبر1980، ان يكون المحل المطلوب افراغه، مملوكا للمكري منذ ثلاث سنوات على الاقل .

وقد صدرت احكام كثيرة، في دعاوي الكراء، بعدم قبول الطلب، معللة بعدم ادلاء المدعى بما يثبت صفة المالك، والاغرب ان هذا يحدث احيانا حتى عند ما يحضر المدعى عليه، ويجب بالاقرار بالعلاقة الكرائية، صراحة او ضمنا، بل يحدث في دعاوي الزيادة في المشاهرة، المطلوب فيها اجراء خبرة، حسب مقتضيات الفصل الثالث من ظ 25 ديسمبر1980، على الرغم من ان هذه الدعاوي، يجوز الحكم فيها لفائدة المدعى، عند غياب المدعى عليه مثلا، بدون حجة تثبت العلاقة، تعويلا على ان الخبير الذي ستعينه المحكمة، لابد من ان يعاين المحل، ويستمع الى المكتري، ويسجل اقواله، ويكون تقريره مرجعا لاثبات الصفة وزيادة. 
--------------------------
9) قرار المجلس الاعلى عدد 661  بتاريخ 30 مارس 87 مجلة القضاء والقانون عدد 138، ص 179.
-------------------------
وقد أرهق هذا القضاء، طائفة من صغار الملاك القدماء، الذين لهم عقارات في بعض الاحياء العتيقة، قد لا يملكون فيها الا الزينة، او يملكونها بالارث من غير وثائق، او بالشركة مع ورثة اخرين، وقد يكون المحفظ منها ما زال في اسم الهالك، فلا يستطيعون لهذه الاسباب ان ينفذوا تكليف المحكمة، بالادلاء بما يثبت صفة المالك.

وقد اطلعت على نازلة، كانت فيها المدعية تملك زينة دار، في احد الاحياء العتيقة بالارث من زوجها المتوفى، منذ عشرات السنين. وعندما رفعت الدعوى على المكتري الذي امتنع من الاداء، كلفتها المحكمة بالادلاء بملكيتها للعين، وخاضت لاجل انجاز المطلوب منها مغامرة شاقة ربما استغرقت مصاريفها، ما كانت تطلبه من ربع كرائي بخس !

ومثل هذه الدعاوي، لا تحتاج الى كل هذا التشدد المعنت، لان الحل قريب، يتوقف على جواب المدعى عليه، الذي لابد ان يجيب بالاقرار، او يقدم اذا اختار الانكار، سببا قانونيا لحيازته للمحل.
واذا تغيب المدعى عليه، وكانت الدعوى تتعلق بالزيادة في الكراء، فان القاضي يستطيع ان يحكم تمهيديا بالخبرة المطلوبة، من غير حاجة لاي حجة، لان تقرير الخبير المعين، سيكون فيه ما يكفي ويغني .

ولا يحصل الاشكال، الا اذا تغيب المدعى عليه، وكان المطلوب، هو الاداء والافراغ معا. هنا يجب مراعاة "مقتضى الحال". لان المدعى عليه، قد تغيب عمدا، لانه ليس لديه ما يقوله، او كيدا لعلمه بان غيابه، سيكون انفع له، لما يؤدى اليه، من إعنات دائنه، فاذا توصل المكتري شخصيا، وكانت شهادة التسليم سليمة شكلا، فان من الممكن اصدار حكم غيابي، بالاستناد الى ما في الغياب من اقرار ضمني، استئناسا بمقتضيات الفصل 406 من ق ع ل، الذي ينص على انه " يمكن ان ينتج الاقرار القضائي، عن سكوت الخصم، عندما يدعوه القاضي صراحة، الى الاجابة فيلوذ بالصمت .."

كما ان بامكان القاضي ان يتطلب بعض القرائن، التي تؤدي الى تحصيل الاقتناع بحسن نية المدعي، وهنا تعتبر وثائق الضريبة، قرينة قوية يمكن الاطمئنان اليها، فاذا ادلى المدعى بما يثبت انه يؤدي فعلا الضريبة العقارية عن المحل، فان هذا يجعلنا امام دليل يكفي لتحصيل الاقتناع، بان رافع الدعوى، له بالفعل الصفة القانونية، لمخاصمة المدعى عليه .

وان قيل اعتراضا، ان قواعد الاثبات، تمنع الاستناد الى القرائن في دعوى الكراء، فانه يجب الانتباه الى ان الملكية نفسها ( على جلالة قدرها)، لا يمكن الاستناد اليها، لاثبات دعوى الكراء، الا باعتبارها قرينة، لان احتمال الا يكون المالك هو المكري، يجعلها معيبة بالاحتمال المانع من الاستدلال ( ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال). وظني ان اداء ضريبة العقار، ادل على المراد من الملكية، لانه اذا كان الغالب ان يكون المالك هو المكري، فان الاغلب الا يؤدي ضريبة العقار ويلتزم بها، الا من كان يقبض ربع كرائه .

وكما هو واضح، فان الانتقاد هنا، منصب على الالتزام بالادلاء بالملكية، باعتبارها شرطا ضروريا، قبول الدعوى والبت فيها. واما ان يطلبها القاضي، عند امكانها، لتحصيل الاطمئنان على سلامة الحكم، لاسيما اذا جنح للحكم بالاداء والافراغ معا، فانه اجتهاد مقبول .

وهذا يدفعنا الى اقتراح الاستناد الى وثائق الضرائب، باعتبارها قرينة نافعة في الموضوع، فاذا تعينت الحجة على مدعى الكراء، ولم يكن هناك عقد، وارتاى القاضي الاستناد الى قرينة الملكية وتعذرت، فانه يمكنه بالاولى، ان يستند الى وثائق الضرائب، مثل توصيل ادائها، او التصريح بالالتزام بادائها، لاسيما انها اسهل من الملكية، التي تدفع بعض المدعين الى خوض معركة " اللفيف"، بكل ما يحيط به من ريب وقوادح، تنزل به الى مادون القرينة نفسها !

* * *
حالة المعاينات واثبات الحالة 
وكان من النتائج السلبية، لاساءة تطبيق الفصل الاول من ق م م ( وكذا الفصل 32 منه)، الزام المستعملين لمسطرة الفصل 148 من ق م م، الخاصة بالاوامر الوقتية او المكتبية او الفورية(11)، بقصد اجراء معاينة او اثبات حالة، بارفاق مقالهم، بالحجة المثبتة لصفتهم، والا كان طلبهم غير مقبول، على الرغم من ان طبيعة الطلب، لا تستدعي ذلك، وليس في قواعد المسطرة الشكلية، ولا في قواعد الاثبات الموضوعية ما يوجبه .

فمن الجانب المتعلق بالصفة، فان طالب المعاينة، يكون احيانا في حالة يستحيل عليه فيها، الادلاء بما يثبت، ان له صفة المالك، او الحائز او غير ذلك لان المعاينة او اثبات الحالة، يكون القصد منها في الغالب، هو تهيئ الدليل، بتوثيق اقوال او افعال، لاستعمالها عند رفع الدعوى .
-----------------------
10) هذه كلها عبارات : تصلح بديلا لعبارة"الاوامر الصادرة بناء على الطلب"، البعيدة عن الايجار وعن الدقة ايضا، الا انه يمكن، بل يحسن، استعمال " الاذن" بدلا من الامر لانه اكثر مطابقة للواقع، لان الرئيس، او نائبه، انما ياذن بالاجراء المطلوب وبهذا يبقى "الامر" خاصا بالاوامر الاستعجالية، الصادرة بمسطرة الفصل 149. وهكذا يجتمع لدينا اصطلاحات ثلاثة، الاذن لمسطرة الفصل 148، والامر المسطرة الفصل 149، والقرار لاحكام الاستئناف والنقض، مع بقاء الحكم خاصا، بالحكم البات في الموضوع الذي تصدره المحاكم الابتدائية).
-----------------------
فالطالب لا يكون له الا صفة او مصلحة احتمالية، وفقه المسطرة يفيد جواز الاستناد الى المصلحة الاحتمالية، في بعض الاحوال، فمن المعلوم ان فقهاء المسطرة، وان كانوا يشترطون ان تكون المصلحة حالة، فانهم اجازوا استثناء، الاستناد الى المصلحة المحتملة، في احوال خاصة، ومنها الاستيثاق لحق يخشى زوال دليله، عند نشوء النزاع، ورفع الدعوى لطلب الحكم به (12).

فقياسا على جواز الاستناد الى المصلحة المحتملة، ونظرا لان الصفة ليست الا وجها ثانيا، للمصلحة الشخصية المباشرة، كما سلف، فانه يمكن ان نقول، بغير حرج، بجواز الاستناد الى المصلحة المحتملة، كأن يطلب الانسان، اجراء معاينة على عقار، يرجو ان يتملكه مستقبلا، لتوثيق واقعة، يخشى زوالها اذا تملكه، وفي هذه الحال لا معنى لرد الطلب، بعلة انعدام الصفة، طبقا للفصل الاول من ق م م .

ومن جانب اخر، فان طلب المعاينة، ليس دعوى، بالمعنى الكامل للكلمة، لانه لا يرمي الى نشر خصومة، للبت فيها بحكم يقر الحق ويلزم المحكوم عليه، باداء او فعل، ولان الاذن لصادر بها، ليست له قوة تنفيذية، لان بامكان المتضرر منها، ان يمتنع من تنفيذ منطوقها او يساعد على ذلك، فيكفيه ان يغلق بابه في وجه المكلف، او يصرح برفض المطلوب منه،  ليتوقف كل اثر، وينتهي الاجراء بتحرير محضر، يتضمن استحالة القيام بالمطلوب.

أليس من التعسير الذي لا مبرر له، ان نلزم ذلك الشخص الذي يسابق الزمن، لاثبات واقعة قبل ان تفوت، بان يتجهز لهذا الاجراء، كما يتجهز للدعوى الخصامية، الرامية الى اصدار سند تنفيذي، والحال ان غرضه ووظيفة المسطرة التي استعملها، هي تحصيل الحجة، وبتوثيق واقعة او قول لاستعمالها عند رفع الدعوى ؟!.

لنفرض ان شخصا اراد ان يشتري عقارا تحت حيازة الغير، ويقول البائع انه محتل بدون سند، ويريد المشتري ان يتاكد من ذلك باجراء معاينة، ليعرف الحائز هل هو فرد ام اسرة وهل يدعى على العقار حقا عينا، او حقا من حقوق التي لا تنقضي بالتفويت، وهل له سند وغير ذلك من الاعتبارات.

هنا نجد شخصا لا يملك ولكنه يسعى الى التملك، أي ان له صفة ومصلحة احتمالية تبرر ان ناذن له بالاجراء، الذي يوصله الى اكتساب الصفة، والمصلحة الحالة القارة وهنا نعاين الحكمة والضرورة الاجتماعية، التي تحتم عدم تطبيق شرط المصلحة وقواعد الاثبات عند استعمال مسطرة الفصل 148 من ق م م .
----------------------------
11) اصول المرافعات للدكتور احمد مسلم ظهير 1962 ص 811.
---------------------------
ان هذا التشدد، كان لابد ان يؤدي الى اغلاق مسطرة الفصل 148 في وجه مستعمليها، لان طالب اثبات الحالة، يكون في كثير من الاحيان، في وضع يستحيل عليه، ان يفي بشروط القبول المفروضة عليه، وقد وقع !

* * *
ثمة اذن خطل ادى الى خلل، ترتب عنه ظهور داء  التضخم النقدي، في الاحكام القضائية، وصدور احكام شكلية،  بدون منطوق يحسم النزاع، ويعطي المتقاضين راي المحكمة، فيما يختصون فيه !
لابد اذن من علاج يقوم الاعوجاج، وهو حاضر قريب، ليس بيننا وبينه الا إتقان فن تطبيق القانون، الذي يستدعي من القاضي احيانا، ان يعارك بعض نصوصه ليروضها كما تروض الدابة الجموح !

لقد تاكد من العرض السابق ان هناك تشددا في التمسك بحرفية النصوص، الى الحد الذي يؤدي احيانا الى الزام المتقاضين، بما لم يلزم، والحال ان المشرع يبث في كثير من الاحيان، داخل النصوص، حتى الامرة منها عبارات تفتح للقاضي ابوبا واسعة لليانة  والتيسير لتمكينه من توقى الاسراف او التوسع الممنوع .

فاذا كان المشرع، مثلا، قد نص في الفصل الاول من ق م م على انه  لا يصح التقاضي الا لمن له الصفة، وان القاضي يثير انعدام الصفة تلقائيا، فانه اضاف " ان كل ذلك ضروريا" لافهام القاضي ان لاوامر المشرع حدودا تقف عندها، وان القاضي يجب حين يجنح الى الالزام بها، ان يراعي الاحوال الخاصة، والا  يسرف في الحكم بعدم القبول. واذا كان الفصل 32 من ق م م، ينص على انه ترفق بالطلب المستندات التي ينوي المدعى استعمالها، فانه اضاف : " عند الاقتضاء" لينبه الى ان الادلاء بالحجج تضبطه قواعد الاثبات، وان الحال قد تقتضي الحكم للمدعى بطلبه، من غير ان يؤيد طلبه باية حجة .

وكأن المشرع لم يطمئن الى كفاية هذا التلميح، فعمد الى الصراحة في الفصل 49 من ق م م الذي يفيد صراحة، ان الاوامر المسطرية ليست على اطلاقها، وان القاضي لا يقضي بالبطلان، جزاء على الاخلال بها، الا بمقدار وحكمة، عند  المنازعة القبلية، وبشرط الضرر.

وفي القضاء نماذج كثيرة، تقنع بان النصوص المسطرية، التي وضعت اساسا لحماية حقوق المتقاضين، لا يمكن ولا يجوز، ان تصبح وسيلة لتضييعها، وان البداهة هادية الى ان القاضي ملزم، بان يلطف من حدة الاوامر المسطرية، اذا وجد انها تقوده الى عكس مراد المشرع منها .

لنفرض ان حقا لقاصر، تعرض للضياع، من وليه او نائبه القانوني، ولنأخذ مثال الابن الذي يرفض ابوه ان ينفق عليه، ويريد ان يخاصمه لاستصدار سند تنفيذي يلزمه بذلك، فماذا يكون مصير الدعوى التي يرفعها، هذا الابن على ابيه ؟!

اذا رجعنا الى النصوص القانونية والمسطرية، بمعناها الحرفي، كان الواجب هو الحكم بعدم قبول الطلب لانعدام الاهلية تتعلق بالنظام العام الخ، ولكننا نجد القضاء يضحي هنا بالاهلية ( على جلالة قدرها) ويقر قبول الدعوى وجوازها، بعلة سليمة مستمدة من الاصول العامة، هي ان الدعوى هنا، ترمي الى جلب منفعة.
وفي هذا يقرر المجلس الاعلى صراحة، ان للقاصر اهلية اقامة الدعوى، ضد وليه بالنفقة لانها من باب جلب المنفعة التي له حق اكتسابها بدون مساعدة الاب او الوصي المقدم (13).

ومن هذا ايضا، ان الاجتهاد مستقر في القضاء المستعجل، على قبول الدعوى المرفوعة من القاصر شخصيا، على أي مكان، مراعاة للاستعجال اولا، ونظرا لكون الاوامر الاستعجالية، لا تقضي الا بالاجراءات الوقتية الرامية الى الحفاظ المؤقت على الحقوق .

* * *
ان العلاقة بين القاضي والمشرع، هي علاقة الاستاذ بالتلميذ، وللتوضيح فان القاضي هنا، هو الاستاذ وليس العكس، حتى قيل ان القاضي سلطة تشريعية خفية، وهذا قول لا مبالغة فيه، لان القاضي هو الذي يمتحن نصوص المشرع، ويجيزها على مقتضى ما ينظر فيه من النوازل، وكثيرا ما يكشف هذا الامتحان عن خطل وزلل، وكثيرا ما يسترد المشرع نصوصه لتعديلها وتنقيحها او نسخها، على هدى هذا الامتحان، فما بال أقوام، يزهدون في هذا التشريع ؟!

ان قواعد المنطق فوق قواعد القانون لان الاولى اصل للثانية، ولان الاصل هو الذي يحكم الفرع، وليس العكس، ولذلك فانه لا محل بداهة، للالزام باجراء مسطري، اذا كان سيؤدي الى عكس المراد منه، ومن الممكن ان نقول ان المشرع يحب من القاضي، ان يعامله بالمثل المشهور : اذا كان المتكلم أحمق فليكن السامع عاقلا.
------------------------
12) قرار المجلس الاعلى عدد 394 بتاريخ 26/9/79 قضاء المجلس الاعلى ع . 26 ص 131.
------------------------
وكما راينا، فان النصوص كثيرا ما تتضمن عبارات، تعتبر إيعازا وإيحاء بهذا، دلالة على ان المشرع، فتح للقاضي مخارج للترخيص والاغاثة، وعلى ان النصوص اذا كانت احيانا أقفالا، فان فيها مفاتيحها التي تجلب التيسير.

* * *
وختامه مع المجلس الأعلى
مازال الكلام لم ينته لان فيه بقية تخص المجلس الاعلى، وكان يجب ان نبدا به لانه رب الدار!
اذ يلاحظ ان المجلس، جنح في السنوات الاخيرة بافراط الى التشدد في قبول طعون النقض، وجاء لذلك بقيود لم تكن معهودة من قبل، اخذ يرد الطعون شكلا بالاستناد اليها، وادى هذا الى فتح مصدر اخر للاحكام المريضة بالتضخم، زاد في ذلك الكم الهائل الذي يصدر من المحاكم الدنيا، وزاد في العواقب السيئة لذلك.

فقد داب المجلس، منذ سنوات على القضاء بعدم قبول النقض، استنادا الى كون نسخة القرار المرفقة بمقال النقض، طبقا للفصل 355 من ق م م لا تتضمن شهادة كاتب الضبط، بانها مطابقة للاصل.
وهذا اجتهاد جديد غير سديد، لم يكن به عهد للمجلس فيما سبق، وهو قابل للنقد " والنقض" من عدة جوانب.
اولها ان النسخة اذا كانت لا تحمل الشهادة الصريحة بالمطابقة لاصلها، فانها تكون حاملة لختم المحكمة، وتوقيع كاتب الضبط .
ومن الصعب جدا ان يقال، ان النسخة في هذه الحالة، خالية مما يثبتن مطابقتها لاصلها، لان توقيع الكاتب، وختم المحكمة، وكونها متعلقة بالدعوى واطرافها، قرائن قوية على المطابقة المطلوبة .

وثانيا فان المجلس دأب فيما يرجع لمرفقات مقال النقض الواجبة حسب نص الفصل 355 من ق م م، على دعوة رافع الطلب، الى استدراك ما ينقص مقاله، من هذه المرفقات، وهذا هو الواقع بالنسبة لعدد نسخ المقال، المعادل للطرف المطلوب حيث نعرف ان المجلس مطرد على تنبيه الطالب، الى الادلاء بالنسخ الكافية اذا كان المرفق منها بالمقال، غير معادل لعدد الطرف المطلوب .

وهذا الاجراء اوجب واولى، بالنسبة لنسخة الحكم المطعون فيه، اذا راعينا ان الطالب، يرفق مقاله في الغالب بالنسخة التبليغية التي تلقاها من كتابة الضبط، وان الفصل 349 من ق م م الناص على اجراءات التبليغ، يوجب ان تكون النسخة المبلغة، مشهودا فيها بمطابقتها لاصلها المحفوظ، وان خلوها من ذلك، يجعل اجراءات التبليغ باطلة بقوة القانون بحيث يكون اجل النقض مازال مفتوحا ويكون من حق طالبه ان يستدرك كل ما ينقصه من شروط القبول، التي لم ينص قانون المسطرة، على القيام بها، داخل اجل معين.

فاذا كان المجلس قد دأب على دعوة رافع النقض الى استدراك الادلاء بعدد النسخ الكافي، في جميع الاحوال، وكان الفصل 349، يوجب ان تكون النسخة التبليغية مشهودا فيها بالمطابقة للاصل، وكان الفصل 355 لا ينص على ان تقديم مرفقات المقال، يجب ان يكون مزامنا لتقديم المقال، كما فعل الفصل 357 بالنسبة للوجيبة القضائية، فان طالب النقض الذي يدلي بالنسخة، كما توصل بها من قسم التبليغ يكون أولى بان يحظى بهذا الاجراء لتمكينه من الادلاء بالنسخة التي يراها المجلس ضرورية بدلا من مفاجاته برد طلبه شكلا لنقص لا يمنع القانون استدراكه.

ومن جانب ثالث، فان الفصل 355 من ق م م، اذا كان ينص على انه يجب ان يرفق بالمقال، تحت طائلة عدم القبول بنسخة من الحكم النهائي، فان العبارة لم تبرز بالصراحة الضرورية، ان الحكم الواجب ارفاقه، يتحتم ان يكون محتويا على خطاب كاتب الضبط، بكون النسخة مطابقة للاصل، ولا يجوز، ان يقال ان هذا مفترض، لانه في مجال النصوص المقررة لسقوط الحق، لا يمكن زيادة معنى افتراض، لا تدل عليه عبارات النص، بمنطوقها او مفهومها. وهذا لان النصوص الاستثنائية، لا يجوز التوسع في تفسيرها، كما هو معلوم من قواعد تفسير النصوص، استنادا لهذا، لا يجوز الحكم بسقوط حق، الا بناء على نص صريح، وفي حدود المعاني الصريحة، المستفادة من الفاظ النص .

ومن جانب رابع، فان عدم الخطاب على النسخة، بالمطابقة للاصل، خطا تتحمله كتابة الضبط، المأمورة بذلك، حسب نص الفصل 349 من ق م م ولا يجوز لذلك الزام طالب النقض، بعواقب هذا التقصير،  ومؤاخذته عليه، والحال انه يدلي في الغالب بالنسخة التبليغية التي تلقاها من كتابة الضبط التي يجب ان تتحمل وحدها مسؤولية تقصيرها.

ربما جاز ان يقال، ان المجلس تجاوز عن هذا، على اساس ان طالب النقض الذي يرى انه متضرر من عدم قبول طلبه، يمكنه ان يلجا الى مقاضاة كتابة الضبط والدولة المسؤولة عنها، حسب مقتضيات الفصل 79 او 80، عملا بقواعد المسؤولية الادارية، فهل كان هذا داخلا في اعتبار المجلس، حين اختار ان يسلك هذا الاجتهاد التعسيري ؟!

ان كثيرا من الطعون التي بادر المجلس الى عدم قبولها، كانت تتعلق بقضايا كبيرة القيمة، صدرت فيها احكام معيبة جديرة بالنقض، منها دعاوي عقارية، تقدر قيمتها بمئات الملايين، رفعها اصحابها الى المجلس الاعلى، أملين ان يبادر الى نقضها واحالتها، لاعادة البت فيها بوجه سليم، واستدراك ما فات، فاذا بهم يفاجئون بالمجلس، يرفض البت في موضوعها، لمجرد ان كتابة الضبط، اغفلت الخطاب على النسخة بالمطابقة للاصل!

ترى ماذا سيكون راي المجلس عندما تصله دعاوي التعويض المرفوعة على كتاب الضبط والدولة المسؤولة عنهم، حين يجد انها تفرعت، عن تشدده في قبول النقض، بالاستناد الى خلو النسخة المدلى بها من الشهادة بمطابقتها لاصلها ؟! الراجح ان الواقع سيقنع الجميع بان الاولى كان هو الحرص على قبول النقض في هذه النوازل، لياخذ طالبه حقه من المدين به، تلافيا لان يتشعب الخصام على هذا النحو، حتى تصير الدولة مطالبة بالتعويض، وسيتجلى حينئذ، ان هذا التشدد من شانه ان يزيد في عدد القضايا الواصلة الى المجلس، وليس العكس.

* * *
الا ان هناك ما هو اغرب وابعد، وهو ان المجلس افرط في هذا الاجتهاد ومدده، حتى صار لا يقبل صورة الحكم المشهود بمطابقتها للاصل، على اساس ان رئيس المجلس البلدي او الجماعة الذي يشهد بمطابقة الصورة لاصلها المصورة منه، غير مختص، لكون المصلحة المختصة هي كتابة الضبط. 
فبالاستناد الى هذا اصدر المجلس عدة قرارات، قضى فيها، بعدم القبول، بناء على مقتضيات الفصل 355 من ق م م معتبرا ان الصورة المدلى بها، لا تقوم مقام النسخة المنصوص عليها في الفصل المذكور (14).

ولا ريب ان هذا الاجتهاد،  مفرط في التشدد والشذوذ، لان من المقرر حسب نص الفصل 440 من  ع ل ان الاستنساخ بالتصوير جائز، وان النسخ الماخوذة عن الأصول، بالتصوير الفوتوغرافي، لها نفس قوة الاثبات التي لاصولها، اذا شهد بمطابقتها لها، الموظفون الرسميون المختصون بذلك.
------------------------
13) انظر على سبيل المثال قرار المجلس الاعلى عدد 1245 الصادر بتاريخ 2/12/88 المنشور بمجلة الاشعاع ع الثاني ص 93.
------------------------
وحين ياخذ شخص نسخة الحكم الصادرة عن المحكمة والحاملة لخطاب كاتب الضبط بمطابقتها للأصل، ليصورها ويقدمها للبلدية او الجماعة، ليخاطب عليها الموظف المختص بالمطابقة لاصلها المصورة عنه، فاننا نكون امام شهادة موظف رسمي مختص، بمطابقة الصورة للنسخة الصحيحة، الحاملة لخطاب كاتب الضبط، بمطابقتها لاصلها المحفوظ بالمحكمة .

وهذا يعني ان هناك توثيقا رسميا متسلسلا، ينتهي الى نتيجة حتمية لا تقبل أي اجتهاد مخالف، هي ان الصورة مطابقة لاصل الحكم، بشهادة موظف رسمي مختص عن موظف رسمي مختص، أي " بعنعة" رسمية، ان جاز استعمال اصطلاح محدثين، فهل في نصوص القانون ما يمنع هذا الفهم ؟!
اذ ان المصادقة الثانية، ناقلة للمصادقة الاولى، وهذا يؤدي بداهة، الى ان تكون النسخة الصحيحة، الصادرة من كتابة الضبط، حاضرة بحضور صورتها، المشهود بمطابقتها للاصل، المصور منه.

وعلى أي فانه لا موضوع لان يقال، ان الرئيس البلدي او الجماعي غير مختص، لان مصادقته لا تمتد الى اصل الحكم، المحفوظ بالمحكمة،  بل الى نسخته المصورة، وهذا يكفي بالاستناد الى مقتضيات الفصل 440 الذي يجيز الاستنتاج بالتصوير، اخشى ان اقول ان هذا من البديهيات، التي يزري بها التوضيح، لا يزيدها الا خفاء انه يكاد يشبه " التحيز للجرم" الذي يذكره المناطقة، مثلا للعلم الضروري الذي لا يحتاج الى نظر وتفكير.

* * *
وليست هذه الامثلة المتعلقة بنسخة الحكم، وتطبيق الفصل 355 من ق م م هي وحدها التي ظهر فيها التشدد المفرط للمجلس، في قبول النقض، لان هناك قرار ذهب فيه، الى عدم قبول النقض، بعلة قائمة بغير طالبه، وهذا اجتهاد يتجاوز في غرابته كلما سلف، لانه يؤدي الى مؤاخذة المتقاضي بخطأ غيره !

لنتأمل هذه النازلة، صدر قرار جنحي مختلف الاوصاف، فكان غيابيا على المتهم، وحضوريا على شركة التامين، التي بادرت الى الطعن فيه بالنقض، داخل الاجل المحسوب، من تاريخ النطق بالحكم.
وعندما وصل الطعن الى المجلس الاعلى، بادر الى القضاء بعدم قبوله، بعلة ان عدم حضور المتهم، يوجب ان يكون الحكم غيابيا، وانه يستفاد من الفصل 571 من ق م ج ان الاحكام التي مازالت قابلة للطعن بالطرق العادية، كالاستئناف والتعرض، لا يمكن ان يطع فيها بالنقض، من أي طرف كان، وان الطعن المرفوع من شركة التامين، ويكون غير مقبول، لتسلطه على قرار غيابي، مازال قابلا للمراجعة، بطريق التعرض (15).

ولا حاجة لبيان، ما في هذا القضاء من شذوذ، عن النصوص والقواعد العامة، لان القرار اذا كان غيابيا على المتهم، فانه حضوري على شركة التامين، التي لا يمكنها ارجاء التصريح بالنقض، الى ما بعد تبليغ القرار، للمحكوم عليه غيابيا، لانها بالبداهة، مقيدة بالاجل المسقط، المحسوب من تاريخ النطق بالحكم .

وليس في الفاظ الفصل 571، ما يفيد التفسير الذي ذهب فيه المجلس، الى ان  القرار المختلف الاوصاف، لا يجوز طلب نقضه، ممن صدر عليه نهائيا، حين يكون غيابيا، على بعض المحكوم عليه، بل يجب ان نقول ان الفاظ الفصل، لو كانت تدل على هذا حقيقة، لكان خطا  فادحا من المشرع، يجب على القضاء ان يستدركه، بتفسير مخالف، لما يؤدي اليه، من مؤاخذة احد المتقاضين، باخلال قائم بغيره، واسقاط حقه في الطعن، بمسقط لم يصدر منه.

وهذا جور لا يجوز ان ينص عليه القانون !
وليس هذا الذي نقوله، ببعيد عن ادراك المجلس، بل من علمه نقتبس، اذ سبق ان قضى به واستقر عليه، في نوازل مماثلة، قضى فيها بما يجب، ويحفظ لطالب النقض حقه، ولم يبادر الى الحكم بعدم القبول ولذلك كان المجلس محجوجا في هذا بسوابقه (16).
وبهذا كان هذا القضاء، مفرطا في التشدد والأغراب فيه، دالا مع ما قبله من النماذج، على ان هناك جنوحا من المجلس الاعلى نفسه، الى ما نعيناه على المحاكم الدنيا !
      
 الأستاذ احمد باكو 
المحامي بهيئة الدار البيضاء
----------------------------
14) انظر قرار المجلس الاعلى عدد 1559 الصادر بتاريخ 2/12/82 المنشور ( بقضاء المجلس الاعلى ع. 35-36) ص 187.
15) انظر تفصيل ذلك في تعليق الاستاذ حمو مستور المنشور مع القرار المشار اليه المرجع قبله .
----------------------------

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 63، ص 45. 

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : أبحاث قانونية مغربية