-->

لأسرة المغربية .. أية حماية .. ؟

ا
النقيب عبد الله درميش

يسعد هيئة المحامين بالدار البيضاء ويشرفها ان تستقبلكم  في  ناديها  لافتتاح  ندوة (الأسرة المغربية اية حماية ..؟)  التي  تنظمها  الجمعية  المغربية لمساعدة الطفل والأسرة بالتشارك والتعاون مع جامعة الحسن الثاني بالمحمدية، وهيئة المحامين بالدار البيضاء .

كما تفخر هيئتنا بان تشارك بما لها من مكانة بين عناصر المجتمع  المدني،  وخبرة  قانونية  عملية،  بجانب  جامعة الحسن الثاني  بالمحمدية بأطرها الاكاديمية الرفيعة المستوى في هذه الندوة التي تنظمها جمعيتنا العتيدة التي تأسست لهذا الغرض النبيل، انطلاقا من شعار التعاون على البر والتقوى، المقرر بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، والمؤكد بالتوجيهات الملكية السامية.

ان مشاركة هيئة المحامين بالدار البيضاء في هذه الندوة بالاستضافة والمساهمة في أشغالها ومحاورها تتيح لها فرصة ثمينة لتقديم خبراتها القانونية العملية في هذا الموضوع الهام، الذي يحتاج فعلا الى تضافر الجهود من كل عناصر المجتمع المدني، بكل فئاته ومكوناته لان مشاكل الأسرة والطفولة كثيرة ومتعددة، ولأنها تتعلق بالخلية الأولى في المجتمع لكونها بمثابة القلب النابض الذي إذا صلح صلح الجسد كله، واذا فسد فسد الجسد كله.

ومما لا ريب فيه بالاستناد الى ما هو مشاهد بالمعاينة المباشرة والمراصد النظرية، المتجلية في الدراسات والإحصاءات، ان الأسرة في المغرب بل في العالم كله، تعاني من أزمات مادية ومعنوية قاسية، تهددها  في  وجودها  وكيانها  وقيامها  واستمرارها،  وغير ذلك  من  الضروريات  التي لا بد منها لاستقرارها، وتمتين ذلك التماسك والدوام الذي اشتهرت به في بلادنا  الإسلامية،   بفضل   تقاليدنا  الدينية  العريقة،  فكانت  الأسرة  عندنا  دائما أحد العناصر الحضارية الجديرة بالتنويه والافتخار.

* الكلمة التي ألقاها النقيب بمناسبة الندوة العلمية التي نظمتها الجمعية المغربية لمساعدة الطفل والأسرة بتعاون مع جامعة الحسن الثاني بالمحمدية وهيئة المحامين بالدار البيضاء ايام 6 و7 و8 يوليوز2001.

ومما  لا ريب فيه كذلك، ان الضحية الأولى لهذه الازمات وكل الأمراض الناتجة عنها، هي الطفولة  - اطفالنا، اكبادنا تمشي على الارض - أي اجيال المستقبل ورجال الغد المعول عليهم لبناء المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وعلميا .

ومعنى هذا ان أمراض الأسرة إذا لم تعالج بما يجب، وكما يجب، فان النتيجة هي ان تكون الأجيال القادمة لخلافة من سبقها في تحمل الامانة الاجتماعية، فاقدة للأهلية الضرورية لتكوين الأمة برجالها ونسائها وآبائها وامهاتها، واطرها التي تحكم وتدبر وتقرر وتنتج وتقدم للجميع خلفا جديدا يستمر به وجوده.

وبذلك فان من الواجبات المؤكدة ان نهتم بمشاكل الأسرة ونعالجها بدقة وعناية، نراعي اولا التشخيص السليم لامراضها، لان  هذا التشخيص ضروري للاهتداء الى العلاج، الذي لا بد لنجاعته من ان يكون مسبوقا بالتشخيص الصائب بالقطع والتاكيد، لان  كل خطا فيه ولو كان هينا من شانه ان يكلفنا غاليا .

وهذا يحتم علينا، ونحن نبحث عن العلاج الناجع، ان ننظر بإنصاف الى ثراتنا الديني الإسلامي لنهتدي به ونستنير به وناخذ منه التعاليم والتوجيهات الضرورية، لان ذلك سيساعدنا كثيرا على معرفة الخلل ومكامن الداء، ويساعدنا على الاستفادة من الأدوات والاليات التي يقدمها لنا العصر بما انتجه من خبرات علمية حول الأسرة ومشاكلها والتخطيط لاصلاحها.

وهنا سنجد ان التحلل والانحلال الذي اصاب الأسرة عندنا، واصاب الطفولة تبعا لذلك مرض طارئ، جاءنا عن طريق العدوى، منذ بدا احتكاكنا بالحضارة الاوروبية، وبعد ان اخذنا نقترب من الغربيين الذين تعتبر هذه الأمراض من صناعتهم وانتاجهم وتصديرهم .

ان هذا التمييز مهم للوصول الى التشخيص السليم الصحيح، ألانه سيهدينا أولا الى مصدر الداء ويضع أمامنا عدة معطيات مفيدة، تساعد على ان نعالج أمراضنا باعتدال وبحكمة بعيدا عن كل تهور، وعن كل  تفريط او افراط .

فاذا كنا قد شبهنا الأسرة بالقلب النابض الذي يعطي الحياة والصلاح للجسم كله، واذا كان التطبيب المتعلق بأمراض القلب معروفا بدقته وخطورة الأخطاء التي يمكن الوقوع فيها لانها دائما قاتلة، فان هذا ما يجب ان نستحضره أمامنا ونحن بصدد بحث مشاكل الأسرة والطفولة لعلاجها.

إذا رجعنا الى تراثنا الديني نجد انه يعطي الأولوية في ميدان الأسرة للمعنويات ويقدمها على الماديات، وانه يجعل تماسك الأسرة ودوام ارتباط طرفيها هدفا أساسيا يجب التضحية لأجله بعدة أشياء.
ومن هنا جاءت تلك الضوابط التي تبدو لنا اليوم وكأنها قيود قاسية تحد من الحرية وتحرم الناس من بعض المباحات، ولكننا إذا ربطناها بأهدافها البعيدة وغاياتها السامية، القائمة على حفظ الأسرة في كيانها، كانت مبررة ومقبولة، لان من المعلوم انه كلما كان الشيء ثمينا ونفيسا، كانت وسائل حفظه وصيانته كثيرة ومتعددة.

وبالتأمل في هذه القيود والغايات المقصودة منها، وهي تماسك الأسرة واستقرارها، نجد أنها تهدف في الأخير الى خدمة الطفل بتوفير بيئة سليمة، تعطيه العش او المحضن السوي، الذي يتحقق إلا بوجود أبوة وأمومة تتمثل في رجل وامرأة وزوج وزوجة، لديهما من الرشد الاجتماعي ما يجعلهما مؤهلين لان يحققا هذه الغاية السامية، ويضحيا لاجل ذلك بالغالي والنفيس من الاعتبارات الشخصية التي يجب ان تكون ثانوية.

وهذا لان الغاية البعيدة من الأسرة هي تكوين أجيال سوية مؤهلة لان تخلف من سبق لتسير بالمجتمع الى الأمام عن طريق إصلاح ما يمكن لقد اخطأ فيه الأولون وابتكار الأحسن فيما كان حسنا من عملهم .
ولكي تكون الأجيال المولودة صحيحة عقلا وجسما، يجب ان تنشا في طفولة سوية وفي بيت سليم يقوم اولا على وجود نسب صحيح ووجود أب وأم راشدين اجتماعيا، يعرفان هذه الغاية ويقدرانها وينسيان لاجلها حب الذات، ويلتزمان بالصبر والتضحية، إزاء كل المشاكل العارضة مهما كانت.

ويتضح هذا ويتأكد من مراجعة تراثنا الديني، حيث نجد القواعد المنظمة لعقد الزواج آمرة في اغلبها أي غير متروكة لارادة الأطراف، وذلك بغاية تحصينه من أي تهافت او تهاون، وهذه قاعدة عامة معروفة حتى في التشريعات الوضعية الحديثة، مثل ما نراه في عقد الكراء وعقد العمل اللذين تدخل فيهما المشرع بقوة وألغى فيهما إرادة الأفراد او قلصها، وجعل منطقة النظام العام فيهما واسعة لغايات اجتماعية واقتصادية معروفة، تعتبر الغايات المتعلقة بحماية الأسرة اعظم منها قطعا أولى بالاعتبار .

ونجد في السنة النبوية تعاليم جديرة بالذكر تجسم هذا، والغاية البعيدة للزواج وهي تكوين الأجيال الضامنة لإنشاء المجتمع وامتداده، ومن ذلك مثلا ذلك التوجه النبوي الذي ينصح ويحض عند الاختيار للزواج، على المرأة ذات الدين ويفضها على ذات الجمال والمال وغير ذلك، والمقصود من هذه النصيحة او التوجه، هو اختيار المرأة ذات الرشد الديني، الذي إذا تحقق للمرأة تحققت لها كل أنواع الرشد الأخرى، من عقل وكفاءة وأمانة وعفة، لتكون حريصة على ان تكون أما صالحة تعطي للمجتمع أجيالا صالحة تبني ولا تهدم، وتطور المجتمع كله الى الأحسن بما يتاح لها من تربية طبيعية تجري في كنف والدة أمينة حكيمة تضمن لأولادها النشأة المادية والمعنوية السوية، على أساس ان البيت هو المدرسة الأولى، وان الأستاذ الأول لهذه المدرسة هي الام كما سبقا ان عبر عن ذلك الشاعر الذي قال :
الام مدرســــة إذا أعــددتهـــا        أعـــددت شعبـــا طيـب الأعـــراق
ومن المؤكد ان عصرنا الحديث وما فيه من معطيات علمية نظرية وعملية ستعطينا المنهج السليم لان نتقدم في تحسين الأسرة ومعالجة مشاكلها بشكل افضل وأقوى، وكذا في العناية بالطفولة ورعاية شؤونها، وحماية الأجيال الصاعدة وهي في المهد والمدرسة والشارع .

ومن قبيل هذا أيضا ذلك الحديث الذي ينصح به بالابتعاد عند اللجوء الى الزواج عن الأقارب مثل بنت العم وبنت الخال وما شابه ذلك، لاسباب طبية او بيولوجية ترجع الى ان الأولاد الذين ينشان في كنف هذا الزواج أيكون فيهم ضعف في البنية ويكونون معرضين لان يرثوا بعض الأمراض الخلقية والخلقية التي تكون في أصول الأسرة، وهذا شيء ثابت علميا .

إننا في كل هذا نرى اهتماما قويا بالأسرة والطفولة الناتجة عنها تراعي البدايات الأولى لنشاتها والأسس الأولية لتكوينها، وهي عناية من شانها ان تحملنا على الثقة بتراثنا وما فيه من وسائل مفيدة لا يمكن إهمالها.
ومن الوسائل التي تميز عصرنا بلا شك التعليم والسعي لئلا ينشا أي طفل محروما من العلم المدرسي والجامعي، ويعتبر ذلك حقا من حقوقه، وباعتباره أيضا واجبا اجتماعيا وأداة ضرورية، لينشا الطفل إنسانا سويا قادرا على المشاركة بيده وعقله في الشؤون العامة والخاصة. ومنها ان يكون هو بدوره مؤهلا لإنشاء عينة سوية على نحو ما ذكر، فطفل اليوم هو رجل او امراة الغد، ومن الوسائل كذلك استغلال العمل الجمعوي او التجمعي لتكوين فئة من المجتمع المدني تهتم وتختص بهذا الجانب وحده وتتفرغ دون غيره وتبدع فيه وتبتكر وتخاطب المسؤولين بما يجب القيام به .

والجمعية المغربية لمساعدة الطفل والأسرة هي بلا شك من هذه الأدوات التي نشات لتعمل بجد لخدمة هذا الهدف الاجتماعي العظيم، وتنظيم هذه الندوة بالتشارك مع جامعة الحسن الثاني بالمحمدية وهيئة المحامين بالدار البيضاء دليل قوي على جديتها في عملها الذي ظهرت الى الوجود من اجله.

ونظرة على برنامج هذه الندوة بمحاوره وعناوينه الأصلية والفرعية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية، تؤكد ان الجمعية المغربية لمساعدة الطفل والأسرة أولت الموضوع عناية فائقة ودرست مشاكله وشخصتها تشخيصا علميا سليما، يحدد، مكامن الأخطار والأولويات التي يجب التركيز عليها من كل الجوانب الاجتماعية والقانونية وغيرها، كما يتجلى ذلك في العناوين المسطرة بالبرنامج ابتداء من النهوض الاقتصادي للعائلة، الى العلاقات الأسرية من خلال المدونة الى الأسرة المغربية في المهجر، وما تعانيه، الى دور القانون الجنائي في حماية الأسرة الى غير ذلك من العناوين الأصلية والفرعية الكثيرة التي لا يتسع المجال لايرادها كلها.

انه برنامج لابد ان تنتج عنه عدة دراسات اجتماعية واقتصادية وقانونية جدية تقوم بإعدادها أطر اجتماعية مختصة وتضع أمامنا جميعا آباء ومربين حاكمين ومحكومين، زادا عظيما من المعارف والخبرات، ستزيد في إغناء وتقوية الحملة التي تقوم بها بلادنا بل العالم كله، لحماية الطفولة وانقادها، وتكوين أجيال تحقق لنا ذلك العالم المثالي الخالي من الفقر والبؤس والجهل والمرض والظلم والطغيان.

ونعود مرة أخرى لنقول ان لدينا تراثا نافعا مفيدا نجده في مصادر التشريع من قرآن كريم وسنة شريفة، وفي تراثنا الفقهي، حتى في أدبنا وتراثنا الشعبي، لا يجوز تجاهله في هذا المجال، ويجب ان نلتفت إليه بجد لنكون به مع وضعه العصر أمامنا من وسائل جديدة، امام منهج متكامل يجمع بين الاصالة والمعاصرة لانه لا معاصرة بدون اصالة فبين الاصالة والمعاصرة ما بين البناء واساسه، فكما انه لا بناء بدون أساس فانه لا معاصرة بدون اصالة.

ولذا فان كل ما يمكن ان نتوصل اليه من توصيات وحلول واقتراحات وبرامج وتخطيطات، وتستند الى معطيات وعلومه، يجب ان تقوم على مبادئنا الدينية التراثية الاساسية ومنها التمسك بقدسية الاسس واحترام الوالدين، والولاية الابوية وحرمتها، والاعتراف بسلطة رب الأسرة ودورها الكبير في تكون الطفل السوي والمواطن الصالح، لان الطفل إذا لم ينضبط منزليا بالبرور التقليدي والحياء الفطري، فانه يستحيل ان ينضبط في المدرسة والشارع، وان ينضبط بعد الرشد والتخرج فيما سيتحمله من امانات في المجتمع.

ان ندوة " الأسرة المغربية … اية حماية …"؟ تفتح امام المجتمع المدني مناسبة مهمة لدراسة الأسرة وازماتها ومشاكلها بمناهج علمية تستند على الخبرة النظرية والعلمية، ومن شانها ان تقدم لنا حلولا ناجعة مفيدة بالنظر الى الكفاءات القانونية التي اجتمعت لتؤطرها وتنشطها.

فهناك الجامعة باطرها الاجتماعية والاقتصادية والقانونية ذات الكفاءات المتخصصة، وهناك هيئة المحامين بالدار البيضاء بوزنها، وما تتميز به من معلومات نظرية وخبرات وتجارب عملية في تطبيق القانون امام القضاء في المنازعات التي تصل الى المحاكم .

وهناك الجمعية المغربية لمساعدة الطفل والأسرة، صاحبة الفكرة والمشكورة الأولى في الاعداد لهذه الندوة واخراجها الى حيز العمل بما لها من مقاصد حسنة، واستعداد جيد لخدمة المجتمع في لبنته الأولى واعضاء مرافقه الحيوية التي هي المهد الأول لكل امراة وكل رجل، والقلب الذي يعطي الحياة والصلاح للمجتمع كله.
وفي الختام اتمنى لشعاركم كامل التوفيق والنجاح .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .

                                 
 النقيب عبد الله درميش، الدار البيضاء في 06/07/2001.
* مجلة المحاكم المغربية، عدد 90، ص 13.

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم :