-->

مركز الخبرة الطبية في مادة الاحوال الشخصية

                                             
                              
محمد الكشبور استاذ التعليم العالي، كلية الحقوق بالدار البيضاء 
تمهيد 
قد يبدو للوهلة الأولى ان هناك اختلافا جوهريا بين الطب والقانون، سواء من حيث الطبيعة  او من حيث المجال او من حيث الأهداف، وانه من الصعب جدا ان تنشا بينهما علاقة ما على ارض الواقع .
فالطب هو علم إنساني حقيقي له ضوابطه القارة الخاصة  (1)، اما القانون فهو علم اجتماعي له  ومناهجه، وهي مناهج نسبية تختلف مكانا وزمانا، شانه في ذلك شان باقي العلوم الاجتماعية الاخرى (2) .

ومن  حيث الموضوع  و المجال ، فالطب  يهتم  بجسم  الانسان  في  كل  جزئياته ، اما  القانون  فهو  يهتم  بمختلف العلاقات الإنسانية السائدة داخل المجتمع، وخصوصا ما يتصل بحل مختلف النزاعات التي تنشا في اطاره .
---------------------
1) تعرف بعض المعاجم الفرنسية الطب بانه مجموعة  من  المعارف  العلمية  ومن الوسائل المختلفة التي من شان اعمالها الوقاية من الامراض والجروح او شفائها او التخفيف من وطاتها" .
«Médecine, N.F. Ensemble des connaissances scientifiques et des moyens de tous ordres mis en œuvre pour la prévention, la guérison ou le soulagement des maladies ou infirmités.
Larousse, Dictionnaire de la médecine, 1985.
2) يتمثل القانون من حيث مفهومه العام والشامل في مجموعة القواعد الاجتماعية الملزمة التي تنظم العلاقات التي تنشا بين الافراد، فهو يبين حقوقهم ويحدد التزاماتهم بالاضافة الى انه هو الذي يحفظ بعض المراكز القانونية الخاصة بهم .
محمد الكشبور، قانون الاحوال الشخصية مع تعديلات 1993، الطبعة الثالثة، دار النجاح الجديدة، 1996، ص. 13 .
ولمزيد من الايضاح حول تعريف القانون راجع بالخصوص الكتب المتخصصة في مادة المدخل لدراسة القانون 
---------------------
ومن جهة الهدف، فبينما يهدف الطب في مختلف تخصصاته الى حماية الشخص في ذاته ووقايته من كل الامراض المحدقة به، فان القانون يهدف في عموميته الى فرض الاستقرار والامن داخل المجتمع الذي يطبق فيه، ومن ثمة تتضح خاصيته السياسية (3)، الى جانب طبيعته الاجتماعية .
وعلى الرغم من هذه الاختلافات الجوهرية الكثيرة، فان الطب قد يحتاج الى القانون في تنظيم اوجهه المختلفة، والقانون قد يحتاج الى الطب في حالات عديدة ياتي  في مقدمتها ما يرتبط بالخبرة الطبية على اختلاف مظاهرها (4)، حيث تكون احيانا هي السبيل الوحيد لفض بعض النزاعات او تقرير ببعض الحقوق او المراكز القانونية .
وعندما نتحدث عن القانون، فانما يقصد القانون في مفهومه العام والشامل، وتدخل في اطاره طبعا قواعد الفقه الاسلامي الواجبة التطبيق في حالات متعددة، يصعب حصرها في هذا المجال الضيق جدا (5) .
---------------------------
3) لذلك فالملاحظ هو ان المشرع قد يضحي بالعدل احيانا متى تعارض مع الاستقرار داخل الدولة .
4) والخبرة، حسب جانب من الفقه هي اجراء للتحقيق يعهد به القاضي الى شخص مختص ينعت بالخبير بمهمة محددة تتعلق بواقعة او وقائع مادية يستلزم بحثها او تقديرها او على العموم ابداء راي يتعلق بها، علميا او فينا لا يتوفر في الشخص العادي ليقدم له بيانا او رايا فنيا، لا يستطع القاضي الوصول اليه وحده .
محمود جمال الدين زكي، الخبرة في المواد المدنية والتجارية، مطبعة جامعة القاهرة، 1990، ص 11، وما بعدها .
وقد نظم المشرع المغربي الخبرة القضائية ضمن الفصول من 59 الى 66 من قانون المسطرة المدنية .
5) ولاحظ ان الفقه الاسلامي يعتد بالخبرة الطبية في مجالات متعددة وهو كثيرا ما يبحث تلك الخبرة ضمن حالات استعانة القضاء باهل المعرفة او البصر، انظر في هذا الصدد بالخصوص :
ابن فرحون، تبصرة الحكام في اصول الاقضية ومناهج الاحكام، المكتبة العامرية بمصر، 1031 هـ، الجزء الثاني، ص 72 وما بعدها .
وهكذا مثلا فقد جاء في الباب الثامن والخمسين من الكتاب في القضاء بقول اهل المعرفة :
" ويجب الرجوع الى قول اهل البصر والمعرفة من النخاسين في باب عيوب الرقيق من الايماء والعبيد ( فرع) وفي احكام ابن سهل قال سألت ابى عبد الله ابن عتاب هل يحكم بقول النساء فيما يشهدون فيه من عيوب الايماء انه قديم قبل تاريخ التبايع ام لا يسمع منهن في ذلك ويشهد في ذلك الحكماء او نخاسو الرقيق فقال ان عن طيبات سمع منهن والا فلا يشهد به الحكماء قال هذا هو الصحيح ( تنبيه) وطريق الحكم في ذلك ما ذكره ابن سهل رحمه الله تعالى واعترض على جماعة من الفقهاء فيما يفعلون في ذلك في باب العيوب في رجع ابتاع خادما من رجل ثم قام المشتري يريد رد الجارية وذكر ان بها اثارا يجب بها ردها لم يكن بينها البائع وقال البائع لم اعلم بها عيبا فشهد عند القاضي طبيبان ان الاثار التي بساقيها من مرة سوداء دلت على ان ذلك من قروح غليطة قديمة كانت منذ  سنة او نحوها وانه عيب يجب به الرد في علمهما وشاور الحاكم في ذلك ابن لبابة فلم يعترض في شهادة الشهود قال ابن سهل وفي قوله عن الطبيبين انهما شهدا في الشقاق وانه من مرة سوداء كانت منذ سنة وانه عيب يجب الرد به في علمهما فصارا هما المفتيين بالرد وهو خطا من العمل انما عليهما ان يشهدا بانه من داء قديم بها قبل اكد التبايع …"، م. س. ص 76 و77 .
والظاهر ان ما تقرر في النص اعلاه يساير المبادئ العامة للخبرة القضائية كما تقررها قوانين المرافعات في مختلف التشريعات المقارنة ومفادها انه لا يمكن احلال الخبير القاضي في الحكم .
وانظر حول هذه النقطة :
محمود جمال الدين زكي، الخبرة في المواد المدنية والتجارية، مطبعة جامعة القاهرة، 1990، ص 147 .
وجاء في جهة اخرى من الباب الثامن اعلاه من تبصرة الحكام في اصول الاقضية ومناهج الاحكام ما نصه :
" …. ويرجع الى اهل الطب والمعرفة بالجراح في معرفة طول الجرح وعمقه وعرضه وهم الذين يتولون القصاص فيشقون في راس الجاني او في بدنه  مثل ذلك ولا يتولى ذلك المجني عليه …..".
م. س. ص. 75 .
وبشان حصر المجالات التي يطبق فيها الفقه الاسلامي في القانون المغربي، انظر بالخصوص :
عبد الكريم، " مركز الفقه الاسلامي في القانون المغربي"، رسالة من اجل نيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص نوقشت بكلية الحقوق بمراكش سنة 1996 .
-----------------------------------------
ولعل ما يؤكد هذه القاعدة ان التقريرات الطبية عموما، والخبرة الطبية على وجه الخصوص، تحتل مركزا متميزا ضمن احكام قانون الاحوال الشخصية، وهو قانون يجد مصدره في قواعد الفقه الاسلامي .
وترمي هذه الدراسة في اساسها الى ابراز هذا الترابط وهذا التداخل على المستوى العملي  بالخصوص من خلال امثلة تشريعية وقضائية .

الفقرة الاولى
مظاهر الخبرة الطبية في مدونة الاحوال الشخصية
تهتم مدونة الاحوال الشخصية المغربية اساسا بتنظيم احكام الزواج والطلاق والولادة ونتائجها والاهلية والنيابة الشرعية والوصية والميراث، على ما يتضح من مضمون الكتب الخمسة المكونة لتلك المدونة (7) .
وللخبرة الطبية مظاهر متعددة في هذه المدونة الخاصة المتميزة بطابعها الديني، بحيث يصعب تطبيق جانب من احكامها دون الاستعانة بتلك الخبرة .
وعليه، فسوف نبحث في هذه المسالة على مستوى بعض النصوص الصريحة اولا، ثم على مستوى ما يجب ان يصار اليه عمليا في بعض الحالات الاخرى، ولو لم تشر الى ذلك ابعض النصوص بكيفية صريحة، ثانيا .

اولا : على مستوى النصوص القانونية الصريحة
هناك العديد من النصوص القانونية المضمنة في مدونة الاحوال الشخصية التي تضع الخبرة الطبية محل اعتبار خاص، ومن ذلك على سبيل المثال نذكر :
-------------------
7) ولاحظ ان المشرع المغربي لم يعرف قانون الاحوال الشخصية على الرغم من ان لهذا التعريف اهمية بالغة على مستوى تكييف بعض النزاعات وعلى مستوى طبيعة النصوص المضمنة به وعلى مستوى اجتهاد القاضي عند انعدام النص الواجبة التطبيق مثلا .
ولمزيد من الايضاح حول هذه الامور جميعها، انظر :
محمد كشبور، قانون لاحوال الشخصية، م س ص 28 وما بعدها 
-------------------
1- مسالة زواج المجنون (8) اوالمجنونة 
ينص الفصل السابع من مدونة اللاحوال الشخصية على ما يلي :
" للقاضي الاذن في زواج المجنون او المعتوه اذ ثبت بتقرير هيئة طبية من اطباء الامراض العقلية ان زواجه يفيد في علاجه واطلع الطرف الاخر على ذلك ورضي به" 
فعلى الرغم من ان اعتماد الخبرة كقاعدة تبقى من الامور التي تدخل ضمن السلطة التقديرية لمحاكم الموضوع، فحسب الفصل السابع اعلاه، هي اجراء جوهري لا يمكن الاستغناء عنه مطلقا، بحيث يستفاد من مقتضياته ان زواج المجنون او المعتوه والمجنون او المعتوهة يتوقف على شروط ثلاثة :
أ‌- ان يثبت الشكف الطبي الذي اجري على المعني بالامر، المجنون او المجنونة او المعتوه او المعتوهة بواسطة هيئة طبية متخصصة ان الزواج قد يفيد في علاجه او على الاقل التخفيف من شدة اصابته .
ب‌- ان يعلم الطرف الاخر بحقيقة الامر ويوافق على الزواج بكيفية صريحة لا لبس فيها، بحيث يجب استبعاد كل استخلاص للموافقة الضمنية في هذا المجال .
ت‌- ان يتم الزواج باذن من القضاء الذي يجب عليه قبل ان يصدر ذلك الاذن ان يتحقق من توفر الشرطين السابقين او عدم توفرهما، دفعا لكل تدليس او غش .
-----------------------------
8) الجنون حالة مرضية تصيب عقل الانسان فتفقده الوعي والادراك .
وبالنسبة للمعتوه فقد نص الفصل 233 من قانون العقوبات اللبناني على انه :
المعتوه "… هو المصاب بعاهة عقلية وراثية او مكتسبة انقصت قوى الوعي والاختيار في اعماله" .
واذا كان المشرع المغربي قد تحدث عن المجنون والمعتوه في الفصل السابع اعلاه، فانه قد اقتصر في الكتاب الرابع الخاص بالاهلية عن الحديث عن المجنون وحده، وهكذا فقد نص الفصل 134 من المدونة على ما يلي .
" لا يكون اهلا لمباشرة حقوقه المدنية من كان فاقد التمييز لصغر او السن او الجنون" .
وعليه، فلا بد من الرجوع الى الراجح او المشهور او ما جرى به العمل من مذهب الامام مالك للبحث عن احكام المعتوه تطبيقا لمقتضيات الفصل 172 من مدونة الاحوال الشخصية .
وراجع في نفس الاتجاه :
استاذنا احمد الخمليشي، التعليق على قانون الاحوال الشخصية، الجزء الاول، الزواج والطلاق، 199، مطبعة المعارف الجديدة بالرباط، ص 126، وما بعدها .
استاذنا محمد ابن معجوز، احكام الاسرة الشريعة الاسلامية وفق مدونة الاحوال الشخصية، الجزء الاول، 1994، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، ص 49 و50 .
استاذنا المرحوم صلاح الدين زكي، احكام الاسرة في الفقه الاسلامي، 1985، مطبعة النجاح الجديدة .
ولاحظ ان مسالة الجنون تطرح على مستوى جميع فروع القانون سواء اكانت مدنية ام جنائية، خاصة ام عامة، راجع في هذا الصدد عبد الصمد الزعنوني، " مفهوم المرض العقلي بين الطب والقانون"، تعليق على قرار شرعي منشور بمجلة المحاكم المغربية، العدد 67، ص. 49 وما بعدها .
------------------------------------------
فالقاعدة ان ابرام عقد الزواج يفترض في العاقد ان يكون عاقلا وبالغا، غير انه يمكن استثناء السماح بزواج المجنون او المجنونة والمعتوه او المعتوهة متى تقرر طبيا من ذوي الاختصاص ان ذلك يساعد على شفائه .

2- تحديد الاتعاب الموجبة للتطليق 
بعدما بين المشرع المغربي من خلال مقتضيات الفصل 54 من مدونة الاحوال الشخصية العيوب العقلية والبدنية التي تسمح بسماع دعوى طلب التطليق التي ترفعها الزوجة عادة ضد زوجها، وكذلك العيوب العقلية والبدنية التي تسمح للزوج برد زوجته (9)، اضاف البند الاخير من ذات الفصل :
" يستعان باهل الخبرة من الاطباء في معرفة العيب" .
فمن الملاحظ ان العيوب والامراض من اية طبيعة كانت تتطور زمانا ومكانا، سواء من حيث الكم او من حيث النوع، وبالاضافة الى ذلك، فهناك عيوب كثيرة استطاع الطب ان يتغلب عليها(10)، وخصوصا تلك التي تحتاج الى عملية جراحية بسيطة، وهناك اخرى ظهرت حديثا ولم 
--------------------------
9) ينص الفصل 54 من مدونة الاحوال الشخصية على انه :
" التطليق :
1- اذا وجدت الزوجة بزوجها عيبا مستحكما لا يمكن البرء منه او يمكن بعد زمن يزيد على سنة ولا يمكنها المقام معه الا بضرر كالجنون والجذام والبرص والسل، فلها ان تطلب من القاضي تطليقا منه سواء كان ذلك العيب بالزوج قبل العقد ولم تعلم به او حدث بعد العقد ولم ترض به ويؤجله القاضي سنة فان برئ والا طلقها عليه .
2- يستجاب لطلب المراة التطليق بدون تاجيل في عيوب الفرج التي لا يرجى برؤها .
3- اذا تزوجته عالمة بالعيب او حدث العيب بعد العقد ورضيت به صراحة او دلالة بعد علمها فليس لها طلب التطليق لاجله .
4- اذا بالزوجة عيب كالجنون والجذام والبرص والسل وداء الفرج المانع من الوطء او لذته وعلم الزوج به قبل الدخول فله الخيار ان شاء طلق ولا شيء عليه وان شاء دخل ولزمه الصداق كاملا، فان لم يعلم الا بعد الدخول ابقى عليها ان شاء وان شاء ردها واسترداد ما زاد على اقل المهر عرفا منها ان كانت هي التي غرته وان كان الغار وليها رجع عليه بما دفعه .
5- يستعان باهل الخبرة من الاطباء في معرفة العيب".
وانظر لمزيد من الايضاح حول هذا النص .
استاذنا صلاح الدين زكي، م س، ص 239 وما بعدها .
استاذنا احمد الخمليشي، م س، ص 412 وما بعدها .
استاذنا محمد ابن معجوز، م س، ص 210 وما بعدها .
محمد الكشبور، م س، ص 319 وما بعدها .
10) ونذكر هنا على سبيل المثال عيوب الفرج العائدة للزوجة وهي الرتق والقرن والعفل والافضاء، وهي التي قال بشانها ابن عاصم الغرناطي في تحفته :
والرتق داء الفرج في النساء *** كالقرن ثم العفل والافضاء
وللزيادة في الايضاح حول هذه العيوب جميعها، ما يخص الزوج وما يخص الزوجة، انظر بالخصوص :
ميارة الفاسي، شرح الامام محمد بن احمد ميارة الفاسي على تحفة الحكام، دار القلم بيروت، لبنان ( ت غ م) ج 1، 199 وما بعدها .
-------------------------------
تكن معروفة من قبل، ويبقى انه لابد من الاستعانة بالخبرة الطبية لتحديد طبيعة العيب الموجب للتطليق من عدمه، وبالتالي مدى تاثيره على الحياة الزوجية وعلى استقرارها .

3- مشكلة الريبة في الحمل (11) بعد انتهاء مدة العدة 
ينص الفصل 75 من مدونة الاحوال الشخصية على ما يلي :
" اذا ادعت المعتدة الريبة في الحمل، ونوزعت في ذلك عرضت على اهل الخبرة" .
وفي نفس الاتجاه، اضاف الفصل 76 من نفس المدونة انه :
" اقصى امد الحمل سنة من تاريخ الطلاق او الوفاة، فاذا انقضت السنة وبقيت الريبة في الحمل رفع من يهمه الامر امره الى القاضي ليستعين ببعض الخبراء من الاطباء للتوصل الى الحل الذي يفضي الى الحكم بانتهاء العدة او الى امتدادها الى اجل يراه الاطباء ضروريا لمعرفة ما في البطن هل هو علة ام حمل" .

ان احكام المدة كشرط من شروط اثبات النسب بواسطة الفراش من متعلقات النظام العام الاسلامي، وعليه، فاذا اتت الزوجة بولد بعد العقد عليها خلال اقل من الحمل وهي ستة اشهر ثبت نسب الولد المزداد من نسب هذا الولد المزداد من نسب الزوج، واذا طلقت الزوجة او توفي عنها زوجها واتت بولد خلال اقصى مدة للحمل وهي سنة، ثبت نسب هذا الولد من الزوج المطلق او المتوفى (12) .
غير انه مدة السنة - وهي اقصى مدة الحمل - قد تنقضي ثم تزعم الزوجة انها حامل، وبطبيعة الحال، فان الخبرة الطبية هي من شانها في الوقت الراهن ان تنير سبيل القاضي الذي عرض عليه 
------------------------
11) ونقصد بالريبة في الحمل الشك في وجوده .
12) ينص الفصل 84 من مدونة الاحوال الشخصية على ما يلي :
اقل مدة الحمل ستة اشهر واكثرها سنة مع مراعاة ما ورد في الفصل 76 فيما يخص الريبة" .
------------------------
النزاع عن طريق اجراء فحص على المراة التي تزعم انها حامل (13) و(14) مع العلم ان اجراء مثل هذا الفحص من طرف النساء غير متخصصات الى جانب المدد التي قال بها الفقه بخصوص اقصى مدة الحمل، هو الذي ساهم بشكل وافر في خلق فكرة الراقد، وهي مجرد فكرة خرافية .
--------------------------
13) وعلى الرغم من ذلك فللفكرة اصل معروف في الفقه الاسلامي، يقول الفقيه المالكي المغربي ميارة الفاسي، وهو بصدد شرح قول ابن عاصم الغرناطي .
وخمسة الاعوام اقصى الحمل .
"… اما كون اكثر الحمل خمسة اعوام فاعلم ان المعتدة من وفاة او طلاق اذا حصلت لها ريبة وشك في كونها حاملا اولا فان كان بسب الريبة في تاخر الحيض عن وقته تربصت تسع  اشهر استبراء ثم ثلاثة اشهر عدة هذا ان تاخر لغير سبب اما اذا تاخر لسبب كالرضاع والمرض فانها تنتظر الاقراء على المشهور وقيل تحل بمضي سنة وان كان سبب الريبة حس البطن فقال ابن الحاجب والمرتابة بحس البطن لا تنكح الا بعد اقصى امد الوضع وهو خمسة اعوام على المشهور وروي اربعة وروي سبعة ( وقال اشهب) لا تحل ابدا حتى يتبين اي براءتها من الحمل قال الحطاب في شرح قوله تربصت اي ان ارتابت به وهل خمسا او اربعا خلاف يعني فاذا مضت الخمسة او الاربعة، على القولين حلت ولو بقيت الريبة ( قال في المدونة) ولا تنكح مسترابة البطن الا بعد الريبة او بعد خمس سنين، قال ابو الحسن وان قالت انا باقية على ربتي لان خمس سنين امدها ما ينتهي عنده الحمل… قال ابن عبد السلام وسواء كان ذلك في عدة الطلاق او في عدة الوفاة … وهذا اذا كانت الريبة هل حركة ما في بطنها حركة ولد او حركة ريح اما ان تحقق وجود ولد فلا تحل ابدا قال اللخمي ونقله ابن عرفة ولفظه الخامسة يعني من المعتدات في المرتابة في الحمل بحس البطن عدتها بوضعه او مضي اقصى امد الحمل مع عدم تحققه ثم قال اللخمي ان تحقق  حملها والشك بطول المدة لم تحل ابدا … فان مات في بطنها فلا تحل الا بخروجه كلام الخطاب …" .
شرح على تحفة الاحكام، دار الفكر بيروت لبنان ( ت غ م) ص 257 .
14) واقصى مدة الحمل في التشريع المصري هي سنة طبقا للقانون رقم 25 لسنة 1929 .
وتوضيحا لذلك يقول احد الفقهاء المصريين :
" اختلفت المذاهب الاسلامية اختلافا واسع المدى الذي في تقدير اقصى مدة الحمل لعدم وجود نص من الكتاب ولا من السنة يدل على اقصى مدة الحمل، فقدره الحنفية بسنتين والامام مالك بخمس سنوات والامام الشافعي باربع سنوات وداود الظاهري بتسعة اشهر ومحمد بن عبد الحكم من فقهاء المالكية بسنة هلالية .
ويقول بان رشد في هذه المسالة، " ومن هذه المسالة مرجوع فيها الى العادة والتجربة، وقول ابن عبد الحكم والظاهرية، هو اقرب الى المعتاد، والحكم انما يجب ان يكون بالمعتاد لا بالنادر" .
وجاء في المذكرة التفسيرية للقانون رقم 25 لسنة 1929 بشان تحديد اقصى مدة الحمل سنة شمسية ما نصه :
" لما كان راي الفقهاء في ثبوت النسب مبنيا على رايهم في اقصى مدة الحمل، ولم يبين اغلبهم رايه في ذلك الا على اخبار بعض النساء بان الحمل مكث كذا سنين، والبعض الاخر كابي حنيفة بني رأيه في ذلك اثر ورد عن السيدة عائشة يتضمن ان اقصى مدة الحمل سنتان وليس في اقصى مدة الحمل كتاب ولاسنة فلم تر الوزارة مانعا من اخذ راي الاطباء في المدة التي يمكنها الحمل، فافاد التطبيب الشرعي بانه يرى عند التشريع ان يعتبر اقصى مدة الحمل 365 يوما حتى يشمل جميع الاحوال النادرة" .
وبناء على هذا الراي الذي ابداه اهل الخبرة من الاطباء، وضعت المادة 15 من القانون رقم 25 لسنة 1929 ونصها :
" لا تسمع عند الانكار دعوى النسب لولد زوجة يثبت عدم التلاقي بينها وبين زوجها من حين العقد ولا لولد زوجة اتت به بعد سنة من غيبة الزوج عنها ولان ولد المطلقة والمتوفى عنها زوجها اذا اتت به لاكثر من سنة من وقت الطلاق او الوفاة "…" .
الاستاذ عمر عبد الله، احكام الشريعة الاسلامية في الاحوال الشخصية، دار المعارف بالقاهرة، 1968 ص 573 و57.
وللمزيد من الايضاح حول هذا الموضوع، انظر :
محمد مصطفى شلبي، احكام الاسرة في الاسلام، دراسة مقارنة،  دار النهضة العربية بالقاهرة، 1977، ص 678 وما بعدها .
-------------------------------
4- ابرام عقد الزواج يتوقف على الادلاء بشهادة طبية 
من اهم الاحكام الجديدة التي جاء بها الظهير بمثابة القانون الصادر في 10 شتمبر 1993، والمعدل لبعض احكام مدونةالاحوال الشخصية، وجوب ادلاء الخطيبين للعدلين المنتصبين للاشهاد  بشهادة طبية تثبت خولهما من الامراض المعدية، قبل توثيق عقد الزواج (15) .
والظاهر ان هذا الحكم قد جاء نتيجة انتشار مرض فقدان المناعة  - السيدا - في المملكة المغربية بالاضافة الى ان العديد من التشريعات الحديثة (16) تاخذ به، والغاية بطبيعة الحال، بناء اسرة في بدايتها على اسس سليمة صحيحة، خاصة انها النواة الاولى للمجتمع، يصلح بصلاحها وقوتها ويضعف بضعفها ويتاثر سلبا بفسادها .

ثانيا : على مستوى الاحالة الضمنية 
بالاضافة الى النصوص الصريحة المضمنة في مدونة الاحوال الشخصية، هناك نصوص اخرى عديدة في نفس المدونة يقتضي اعمالها في الغالب الاعم الاستعانة بالخبرة الطبية  الضرورية، ومن ذلك على سبيل المثال نشير الى الواقع الاتية:

مرض الموت 
من اهم الحالات التي اشار اليها المشرع المغربي حالة الاقرار بالنسب (17)   - ولو في مرض الموت - ما تم النص عليه في الفصل 92 من مدونة الاحوال الشخصية ويقضي بما يلي :
-----------------
15) ينص الفصل 41 من قانون الاحوال الشخصية كما تم تعديلها بالظهير بمثابة قانون في 10 شتنبر 1993 على ما يلي :
" لا يتولى العدلان العقد الا بعد التوفر على المستندات الاتية :
شهادة لكل من الخاطب والمخطوبة تثبت خلو من الامراض المعدية" .
16) ينص الفصل الاول مثلا من القانون التونسي المؤرخ في 3 نونبر 1964 المتعلق بالشهادة الطبية السابقة للزواج انه يمتنع على ضابط الحالة المدنية او العدول ان يحرروا عقدا الزواج الا بعد ادلاء كل من الخاطب والمخطوبة بشهادة طبية لا يزيد تاريخها على الشهرين .
وقد بينت الفصول بالموالية من هذا القانون مجال الشهادة الطبية وكيفية تسليمها من طرف الطبيب المختص وكذلك ما يترتب على تخلفها من اثار .
17) الاقرار في اللغة هو الاذعان للحق والاعتراف به، حسب ما جاء في لسان العرب لصاحبه ابن منظور .
ومن الناحية الاصطلاحية، الاقرار لدى جانب من الفقه هو عبارة عن " خبر يوجب حكم صدقة على قائلة بلفظه او بلفظ نائبه"
ابن عرفة اشار اليه الفاسي،  م س ص .
والاقرار بالنسب هو ادعاء المدعى انه اب لغيره، وقد نظمه المشرع المغربي بمدونة الاحوال الشخصية وسماه بالاستحقاق ضمن الفصول من 92 من 96 .
ومصطلح الاستحقاق جاء في اللحاق الذي يطلق في كلام العرب ويقصد به الانتساب يقول النابغة يخاطب خارج بن سنان:
ان اناس لاحقون باصلنا *** فالحق باصلك خارج بن سنان
----------------------------------
" الاقرار بالبنوة ولو في مرض الموت لمجهول النسب يثبت به النسب من المقر بالشروط الاتية :
1. ان يكون المقر ذكرا .
2. ان يكون عاقلا .
3. ان يكون الولد المقر به مجهول النسب .
4. ان لا يكذب المستلحق - بكسر الحاء - عقل او عادة" .
والذي يهمنا من مقتضيات هذا النص بالخصوص، ما يتصل بمفهوم مرض الموت وتكييفه، وهي مسالة تقتضي تدخل الخبرة الطبية لاستجلائها، قبل اعمال احكامها من جانب القضاء .
ويقصد بمرض الموت عند الفقيه الحنبلي الكبير ابن قدامة المرض الذي يخاف منه الهلاك ويتصل به الموت عادة (18)، وحسب الفقيه المالكي الكبير خليل ابن اسحاق :
" المرض …. الذي حكم الطب بكثرة الموت به" (19) .

واعتقد ان الفقيه المالكي خليل بن اسحاق كان مصيبا في التعريف الذي جاء به بخصوص مرض الموت، فهو مفهوم يختلف حسب ظروف الزمان والمكان وتقدم الطب ووسائله، وهذا بخلاف بعض الفقهاء الاخرين الذين حاولوا تحديد الامراض المؤدية الى الموت على سبيل الحصر تارة وعلى سبيل المثال في اخرى .
بقي ان نشير الى ان نظرية مرض الموت هي نظرية اسلامية خالصة مستقلة باحكامها،  وهي تهيمن على مجال المعاملات برمته بحيث نجد لها تطبيقات في الزواج وفي الطلاق وفي البيع وفي 
--------------------
18) ابن قدامة المغني، الجزء السادس، دار المنار 1367 هـ، ص 85 .
19) خليل ابن اسحاق، المختصر في الفقه المالكي، دار الرشا بالدار البيضاء، ص 206 .
وبالنسبة للاحناف فحد مرض الموت ان يكون صاحب فراش قد اضناه المرض، واما من يذهب ويجيء في حوائجه فليس بمريض، وان كان يشتكي احيانا من بعض الالام .
ولمزيد من الايضاح :
السرخسي، المبسوط، الجزء السادس، دار المعرفة بيروت، لبنان 1986، ص 169 وما بعدها .
اما بالنسبة للفقه الشافعي فقد جاء في نهاية المحتاج :
" …. ومن المرض  المخوف : قيل هو كل ما يستعد بسببه للموت بالاقبال على العمل الصالح، وقيل كل ما اتصل به الموت، وقال المارودي ….: كل ما لا يتطاول يصاحبه معه الحياة ….. ونقل عن الشافعي واقره انه يشترط في كونه مخوف غلبة حصول الموت بل عدم نذرته ….." .
الرملي، نهاية المحتاج، الجزء الرابع، ص. 50، جلال الدين المحلي، شرح المنهاج، الجزء الثاني،  ص. 15 .
-------------------
الكراء وفي الهبة وهكذا (20)، ومن المعلوم ان نظرية الموت (21) ترمي بالاساس الى حماية الورثة وحقوق الدائنين في التركة.

2. السلامة من كل مرض معد كشرط للحضانة 
وضع المشرع المغربي لاستحقاق الحضانة عدة شروط، منها ان يكون الحاضن غير مصاب بمرض معد. فقد جاء ضمن مقتضيات الفصل 98 من مدونة الاحوال الشخصية، ما يلي :
" يشترط لاهلية الحضانة :
1. العقل .
2. والبلوغ .
3. والاستقامة .
-----------------------------
20) فعلى  سبيل المثال، نشير الى ان المشرع المغربي قد نص ضمن مقتضيات الفصل 479 من قانون الالتزامات والعقود على انه :
" البيع المعقود من المريض في مرض موته تطبيق عليه احكام الفصل 344، اذا اجري لاحد ورثته بقصد محاباته، كما اذا بيع له شيء بثمن يقل كثيرا عن قيمته الحقيقية، او اشترى منه شيء بثمن يجاوز قيمته .
اما البيع المعقود من المريض لغير وارث فتطبق عليه احكام الفصل 345 " .
وبالرجوع الى الفصل 344 من قانون الالتزامات والعقود المحال عليه من خلال النص اعلاه، نجد انه ينص على ما يلي :
" الابراء الحاصل من المريض في مرض موته لاحد ورثته من كل او بعض ما هو مستحق عليه لا يصح الا اذا اقره باقي الورثة" .
وبالرجوع الى الفصل 345 من قانون الالتزامات والعقود المحال عليه كذلك من خلال النص اعلاه نجده ينص على انه :
" الابراء الذي يمنحه المريض في مرض موته لغير وارث يصح في حدود ثلاث ما يبقى في تركته بعد سداد ديونه ومصروفات جنازته" .
على ان هذه المقتضيات لا تعطي فكرة شاملة وواضحة عن مرض موته ولا عن كل اثاره  ومن ثم لا مناص من الرجوع الى كتب الفقه المالكي سواء تعلق الامر بعلاقات مالية كالبيع والاجارة والهبة او تعلق الامر باحوال شخصية كالزواج والطلاق والوصية .
وعليه، وللوقوف على تعريف مرض الموت وما يلحق به وعلى كيفية اثباته وعلى تطبيقاته المختلفة وعلى شروطه وعلى اثارته على مستوى جميع المذاهب الفقهية، انظر بالخصوص :
عبد السلام احمد فيغو، " احكام تصرفات المريض مرض الموت في الفقه الاسلامي"، دراسة مقارنة بالتشريع المغربي والمقارن، اطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، نوقشت بكلية الحقوق بالدار البيضاء سنة 1992 .
21) ومن الملاحظ ان هناك من يخلط بين مرض الموت من جهة اولى وحالات المرض والحالات الاخرة المشابهة المنصوص عليها ضمن مقتضيات الفصل 54 من قانون الالتزامات والعقود من جهة ثانية علما ان الفرق كبير بين الحكمين .
فمرض الموت قد قرره الفصل الفقه الاسلامي لمصلحة الورثة الدائنين بحيث لهم وحدهم الطعن في العقد المبرم في مرض الموت، بعد وفاة المعني بالامر .
اما حالات الامرض والحالات الاخرة المشابهة المنصوص عليها في الفصل 54 ق ا ع، فتدخل ضمن عيوب الرضى بحيث يكون لمن ابرم العقد وحده، ان يطالب بابطاله متى اثبت انه ابرم ذلك العقد تحت تاثير المرض او ما شابهه .
انظر في هذا الصدد قرار المجلس الاعلى الصادر بتاريخ 13 يونيو 1988، منشور بمجلة القضاء والقانون، العدد 139، ص 101 وما بعدها، وانظر كذلك قرار المجلس الاعلى الصادر في 5 ماي 1993، منشور بمجلة المحاكم المغربية، العدد 71، ص 68 وما بعدها .
ثم ان النزاعات المتعلقة بمرض الموت تخضع للراجح او المشهور او ما جرى به العمل من مذهب الامام مالك اما النزاعات المتعلقة بحالات المرض والحالات الاخرى المشابهة، فتخضع لقانون الالتزامات والعقود .
------------------------------------
4. والقدرة على تربية المحضون 
5. والسلامة من كل مرض معد او مانع من قيام الحاضن بالواجب" .
فالظاهر من خلال قراءة متانية لهذا النص ان تطبيقه يقتضي تدخل الخبرة الطبية المتخصصة على اكثر من وجه .
فشرط العقل يقصد منه اقصاء المجنون من الحضانة وقد سبق ان راينا ان اثبات الجنون يقتضي في الظروف الراهن تدخل الطب للحسم في وجوده من عدمه .
وشرط القدرة على تربية المحضون معناه ان تتوفر في الحاصن القدرة البدنية للقيام بذلك لان العاجز بدنيا لا يستطيع القيام بشؤون نفسه، فبالاحرى بشؤون غيره، والطب هو الكفيل وحده بالحسم في شؤون القدرة البدنية .
وبخصوص " السلامة من كل مرض معد او مانع من قيام الحاضن" بواجب الحضانة، هو شرط لا يمكن الحسم فيه في حالة النزاع بشانه، الا من جانب الطب المختص .
وبالاضافة الى ذلك، فتكييف مرض ما وهل هو معد او غير معد، من الامور التي تقتضي من القاضي الاستعانة بالخبرة الطبية (22) في هذا المجال، وهو الراي الذي يقتضي المنطق القانوني السليم ويفرضه تقدم العلم الحديث .

3. الحجر بسبب الاصابة بالجنون او العته 
الاهلية ركن في التصرف القانوني حسب ما نص عليه المشرع المغربي في الفصل الثاني من قانون الالتزامات والعقود (23)، والاهلية مناطها التمييز، لان الارادة لا تصدر الا عن مميز، فمن كان كامل التمييز كان كامل الاهلية، ومن نقص تمييزه كانت اهليته ناقصة، ومن انعدام تمييزه انعدمت اهليته (24)" .
----------------------------
22) وهو ما درج عليه القضاء المغربي والمقارن مؤخرا .
23) ينص هذا الفصل على ما يلي :
" الاركان اللازمة لصحة الالتزامات الناشئة عن التعبير عن الارادة هي :
1. اهلية الالتزام .
2. تعبير صحيح عن الارادة يقع على العناصر الاساسية للالتزام .
3. شيء محقق يصلح لان يكون محلا للالتزام .
4. سبب مشروع للالتزام .
24) عبد الرزاق احمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الاول، مصادر الالتزام، دار النهضة العربية بالقاهرة، 1964، ص 289 .
-----------------------------
وحسب مدونة الاحوال الشخصية، فان الجنون من الاعراض التي تعدم الاهلية، الى جانب الصغر، فقد جاء ضمن مقتضيات الفصل 134 من نفس المدونة، ما يلي :
" لا يكون اهلا لمباشرة حقوقه المدنية من كان فاقد التمييز لصغر في السن او جنون" .
واذا كان الصغر علامة طبيعية على انعدام أهلية الفرد (25)، فان الجنون  - وخاصة بعد التقدم في السن - يقتضي اصدار حكم بذلك من جانب القضاء، على ما اكده المشرع نفسه ضمن مقتضيات الفصل 145 من مدونة الاحوال الشخصية والتي تنص على انه :
" المجنون والسفيه يحجر عليهما القاضي من وقت ثبوت حالتهما بذلك ويرفع عنهما الحجر اعتبارا من وقت زوال الجنون والسفه حسب القواعد الواردة في هذه المدونة، ويعتمد القاضي في ذلك اهل المعرفة وسائر وسائل الاثبات الشرعية (26)" .

فمن البديهي جدا ان اعمال المقتضيات اعلاه يقتضي من القاضي وفي الغالب الاعم الاستعانة بالخبرة الطبية للتقرير بشان حالة الشخص، وهل هو مجنون او معتوه (27)، وبالتالي تطبيق احكام الحجر عليه من عدمه من جانب القضاء بكيفية تؤدي الى تحقيق ارادة الشرع في هذا المجال (28) .

ثالثا : على مستوى الحالات التي لم يشر اليها المشرع مطلقا 
هناك حالات تقتضي تدخل الطب للافصاح عنها، غير ان المشرع لم يشر اليها لا من قريب ولا من بعيد، ومن هذه الحالات مثلا ما يتعلق بمشكلة الخنثى .
ان من خصائص عقد الزواج انه يبرم بين ذكر وانثى بحيث يتمنع ان يكون احدهما خنثى (29) .
فمن هو الخنثى ؟
------------------------
25) جاء في الفصل 138 من مدونة الاحوال الشخصية .
الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة من عمره يعتبر فاقد التمييز حكما" .
26) فمن الملاحظ انه، وبخلاف الصغر الذي يعد علامة طبيعية عن انعدام الاهلية، فان المجنون ويضاف اليه السفيه، لا يعتبر كذلك الا اذا صدر حكم قضائي يقضي بالحجر عليه على ما اكدته مقتضيات الفصل 145 من مدونة الاحوال الشخصية، ولنفس السبب، فان الحجر الذي تقرر بحكم قضائي لا يرفع الا بحكم قضائي .
27) وبطبيعة الحال، فالحجر على المجنون والمعتوه يقتضي بداية ان تثبت حالة الجنون والعته، وعلى الرغم من ان المشرع قد استعمل في النص مصطلحات فقهية " ويعتمد القاضي في ذلك اهل المعرفة وسائر وسائل الاثبات الشرعية، فان ذلك لا يغني من الرجوع في الظرف الراهن الى الخبرة الطبية المختصة .
28) وتتمثل ارادة المشرع اولا في حماية المجنون نفسه بعد التاكد من حالته، وتتمثل هذه الارادة ثانيا في التصدي لكل ادعاء كاذب يرمي الى الصاق صفة الجنون بشخص كامل لادراك والتمييز لاغراض دنيئة تكون وراءها غالبا اطماع مادية .
29) محمد بن محمد بن جزي، كتاب القوانين الفقهية، مكتبة الرشاد، لبنان ( ت ط غ ح) ص 146 .
استاذنا المرحوم صلاح الدين زكي، م س، 36 .
محمد الكشبور، م س، ص. 108 .
-------------------------
الخنثى من الناحية اللغوية، هو الشخص الذي له ما للرجال وما للنساء (30) في ذات الوقت .
ومن الناحية الاصطلاحية، فالخنثى هو الذي له ذكر وفرج امرة او ثقب في مكان الفرج يخرد منه البول، وينقسم الى خنثى مشكل وخنثى غير مشكل (31) .
1. الخنثى غير المشكل هو الذي تظهر فيه علامات الذكورة او علامات الانوثة فيعلم انه رجل او امراة، فهو اما رجل بخلقة زائدة او امراة بخلقة زائدة .
--------------------------
30) وللتوسع اكثر انظر : ابن منظور، لسان العرب .
31) من معجم الفقه الحنبلي مشار اليه في : 
الدكتور محمد علي الباز، خلق الانسان بين الطب والقران، الدار السعودية  للنشر والتوزيع، الطبعة السادسة 1986، ص 493 .
وقد كتب احد الباحثين المحدثين بشان هذا الموضوع :
" اذا كان التمييز بين الرجل والمراة من حيث الجنس واضحا استنادا الى المعالم الطبيعية الفزيولوجية لكل منهما، فان هناك حالة معقدة يصعب فيها على الشخص بانه ذكر او انثى وهي حالة الخنثى .
وقد وردت عدة تعاريف فقهية للخنثى، تجمع كلها على انه هو الشخص الذي لا يعرف هل هو ذكر ام انثى نظرا لعدم استقلاله بمعالم فيزيولوجية معينة واضحة تجعله ينتمي لجنس الذكور او الاناث .
وجاء في بحث علمي ان التخنث درجات :
1. التخنث الكامل : وهو الحالة التي يتوفر الشخص فيها على اعضاء الذكور كاملة النمو واعضاء الانوثة كاملة النمو كذلك، وهذا النوع ناذرا جدا ويعرف عن بعضهم انهم يمارسون الحياة الجنسية كرجال واخرى كنساء .
2. التخنث الظاهر او غير الكامل : وهي الحالة التي يكون فيها الشخص تابعا لجنس معين الا ان المظهر الخارجي لعضوه التناسلي لا يكون واضحا مما يورث الخطا في اعزائه لجنس معين عند الولادة .
وفي مقابلة اجريناها مع احد الاطباء الاختصاصين في الولادة صرح هذا الاخير بان حالات الخنثى قليلة جدا، اذ انه من بين 15000 حالة مرضية تعرض في المستشفى لا يوجد بينها سوى حالة خنثى او حالتين وعلى اية حال لا يمكن ان تتعدى نسبتهم من 5/10000 في المغرب .
وذكر انه لا يوجد تشابه بين مختلف الحالات التي تعرض على الطب، بل يشكل كل خنثى حالة خاصة ذات اوصاف ومعالم خاصة، ومع ذلك فكل الحالات تتعلق بمولود يزداد بعضو تناسلي غير واضح المعالم يحمل على الاعتقاد اولا بانه ذكر او انثى الا انه عند البلوغ تظهر عليه معالم مغايرة للجنس الذي كان قد صنف فيه واخذ اسما شخصيا متعلقا به واكتسب عادته وتصرفاته ونفسيته واندمج في محيطه وهنا يقول الاختصاصي، تحدث المفاجاة للمعني بالامر ولاهله، حيث يعتقد مثلا انه انثى ثم بعد البلوغ تظهر علامات الرجولة كاللحية والصوت الرجولي والعضلات المفتولة     … ويزيد الامر تعقيدا اذا ظهر بعد البلوغ ان الخنثى تغلب عليه معالم الانوثة بحيث يخاف عليها من عدم الزواج .
وتحدث بعد ذلك عن ان الخنثى يمكنه ممارسة الجنس، لان الجنس هو احساس وشعور اكثر مما هو تمازج عضوي الا ان امكانية الحمل او الاخصاب لا تقوم على قاعدة معينة بل قد تتوفر ام لا تبعا لكل حالة على حدة .
واضاف الاختصاصي بان هناك علاجا يقدم في هذه الحالة طبقا لاختيار الخنثى يتلخص في النقط الاتية :
يعرض على طبيب نفساني لمحاولة تغيير نفسيته واقناعه بحقيقته .
تجرى عليه عملية جراحية قصد تقويم عضوه التناسلي وجعله ملائما لتادية وظيفته الملائمة لجنسه .
تعطى له ادوية قصد تقوية الهرمونات المكونة لمعالم الجنس كاللحية بالنسبة للرجل والثديين بالنسبة للمراة .
وفي الاخير ذكر النصيحة التي يقدمها الاطباء والاختصاصيون في هذا المجال، وهي وجوب اعطاء المولود الذي يشتبه في جنسه اسما قابلا لان يكون لذكر او لانثى ( امال، احلام، عزلان) مثلا في انتظار ما تجرى عليه فحوص تشخيصية لمعرفة المعالم الغالبة فيه حتى يعامل على اساسها في اهله ووسطه .
هذا وان حال الخنثى هي - كما قال الطبيب - حالات شاذة طبيعية عارضة لا تنتج عن مؤثرات اجتماعية او بيئية او مرضية او غيرها وانما تحصل نتيجة للتكوين غير العادي للجنين في بطن امه …." .
محمد فاضل، جريمة الفساد، مطبعة الرباط، 1989،  ص. 81 وما بعدها .
----------------------------------
وحكم الخنثى غير المشكل في ارثه وباقي احكامه الاخرى في مباله، فان بال من عضو الذكورة فهو ذكر، وان بال من الفرج فهو انثى، وان بال منهما اعتبرنا اسبقهما، فان خرجا معا ولم يسبق احدهما يرث من المكان الذي فيه اكثر، وان استويا فهو حينئنذ مشكل .
الخنثى المشكل 
للخنثى المشكل انواع :
من لم يكن له من قبله مخرج ذكر ولا فرج ولكن لحمة ناتئة يرشح منها البول رشحا على الدوام .
من ليس له الا مخرج واحد بين المخرجين منه يتغوط ومنه يبول .
من ليس له مخرج اصلا لا قبل ولا دبر، ويتقيا ما ياكله .
هؤلاء جميعا في حكم الخنثى، الا انه لا يمكن اعتباره بمباله، فان لم تكن له علامة اخرى تبين حقيقته، فهو مشكل  - اي خنثى فيه مشكل - تثبت له احكام الخنثى المشكل .
ومن الناحية الطبية، فالخنثى هو الشخص الذي تكون اعضاؤه الجنسية الظاهرة غامضة، وهو في هذا المجال يقسم الى خنثى كاذبة وخنثى حقيقة .
فان كانت الغدة خصية والاعضاء التناسلية الخارجية تشبه تلك الموجودة لدى الانثى فهو خنثى ذكر كاذب، وان كانت الغدة مبيض والاعضاء التناسلية الخارجية تشبه تلك الموجودة لدى الذكر فهو خنثى انثى كاذبة، وان كانت للشخص مبيض وخصية او هما معا ملتحمتين فهو خنثى حقيقية .
ويلعب الطب دورا في الكشف عن الخنثى وفي تحديد معالمه، بل وفي علاج بعض حالاته .

الحكم الشرعي لزواج الخنثى (32) 
الخنثى كما سبق بيانه اما ان يكون مشكلا واما ان يكون غير مشكل .
فان كان الخنثى مشكلا فنكاحه باطل عند الحنابلية والشافعية .
-------------------------
32) ولم نعثر على موقف المالكية بالنسبة للموضوع لذلك سنقتصر على موقف باقي المذاهب الاخرى .
------------------------
اما الاحناف فقد انزلوا عليه حكم العنين، والعنين هو الذي ليست له القدرة على اتيان النساء .
وان كان الخنثى ظاهرا، اي غير مشكل، بعلامة قطعية او ظنية او باخباره فيترتب عليه الرد عند الحنابلة، وللشافعية في المسالة قولان :
القول الاول : انه لا خيار له في الاظهر مادام ان ما به من ثقبة او سلعة زائدة لا يفوت المقصود من الجماع .
القول الثاني : انه يثبت له الرد وذلك لنفرة الطبع من التخنث .
ويرجع احد الباحثين المعاصرين القول الاول عندما يقرر :
" ونحن نرى انه ان كان به ما يمنع الاستمتاع وتحقيق مقصود النكاح ولم يمكن ازالته عن طريق اجراء بعض الجراحات الخاصة بذلك ثبت حق الرد، اما اذا امكن ازالة ما يعوق العملية الجنسية بحيث كان من السهل تحقيق الهدف من النكاح لم يثبت الرد ….. (33)" .
----------------------
33) ولمزيد من الإيضاح حول الموضوع، انظر :
فؤاد جاد الكريم محمد، حق الزوجين في طلب التفريق بينهما بالعيوب في الشريعة الاسلامية، مكتبة مدبولي، ( ت غ م) ص 87 وما بعدها .
-----------------------
الفقرة الثانية
الخبرة الطبية في مجال اثبات النسب ونفيه
اولا : فكرة اولية عن وسائل اثبات النسب ووسائل نفيه .
اقتبس المشرع المغربي وسائل اثبات النسب ونفيه والاحكام الخاصة بتلك الوسائل من مبادئ الفقه المالكي .

1. وسائل اثبات النسب في مدونة الاحوال الشخصية 
ينص الفصل 89 من مدونة الاحوال الشخصية على ما يلي :
" يثبت النسب بالفراش او باقرار الاب بشهادة عدلين او ببينة السماع بانه ابنه ولد على فراشه من زوجته" .
وقد نظم المشرع المغربي مسالة اثبات النسب عن طريق الفراش (34) في الفصول من 84 الى 89 من مدونة الاحوال الشخصية، ونظم مسالة اثبات النسب بواسطة الاقرار او الاستلحاق ضمن مقتضيات الفصول من 92 الى 96 من ذات القانون. وقد سكت عن تنظيم مسالة اثبات النسب بشهادة عدلين او ببينة السماع حيث لا مناص في مثل هذه الحالة من الاستعانة باحكام الراجح او المشهور او ما جرى به العمل من مذهب الامام مالك .
----------------------
34) يقصد بالفراش من الناحية الاصطلاحية الزوجية القائمة بين الرجل والمراة، او كون المراة معدة للانجاب من رجل معين، ولا يكون بذلك عادة الا بالزواج الصحيح او ما ألحقه به الشرع استثناء، كالنحاح الفاسد والوطء عن طريق الشبهة .
وعليه، فمتى ولدت المراة بعد زواجها وفقا للشروط المحددة شرعا في هذا الصدد، ثبت نسبه في ذلك الزوج، دون حاجة الى إقرار منه او بنية تقيمها الزوجة على ذلك، تطبيقا لحديث رسول الله (ص) : " الولد للفراش ….." رواه الجماعة الا ابو داوود .
والسبب في ثبوت النسب بالفراش،  دون التوقف على اقرار او بينة، هو ان الزواج الصحيح يبيح الاتصال الجنسي بين الزوجين، ويجعل الزوجة مختصة بزوجها، ويستمتع بها وحده، وليس ابدا لغيره ان يشاركه في ذلك الاستمتاع، بل ولا الاختلاء بها خلوة محرمة، فاذا جاءت بحمل او ولد، فهو من الزوج، واحتمال بانه من غيره احتمال مرفوض، اذ الاصل حمل الناس على الصلاح الى ان يثبت العكس .
وحول شروط الولد للفراش، ولمزيد من الايضاح حول هذا الموضوع الشائك، انظر :
محمد كشبور، قانون الاحوال الشخصية، م س، ص 358 وما بعدها .
استاذنا احمد الخمليشي، م س، الجزء الثاني، ص ؟
---------------------
وقد جرى العمل في المغرب في هذا الصدد ومنذ القديم باعتماد اللفيف كوسيلة للاثبات عوض شهادة عدلين (35) او بينة السماع (36) .
واللفيف في فقه العمليات عبارة عن شهادة اثنى عشر رجلا تؤدى امام العدلين المنتصبين للاشهاد حيث يحرران بشانها رسما يستعمل فيما بعد كحجة امام القضاء الذي يبقى من حقه ان يستفسر شهود اللفيف(37)، وخاصة متى طلبه الخصم الذي يحتج به ضده .
والسؤال الذي نود ان نبحث له عن جواب هو، هل وسائل إثبات النسب المنصوص عليها ضمن مقتضيات الفصل 89 اعلاه، وردت على سبيل المثال ام على سبيل الحصر ؟
---------------------
35) تعتبر شهادة اللفيف من اهم احكام التي خالف فيها فقهاء المذهب المالكي الاصول الشرعية، اعتمادا على المبادئ العامة لفقه العمليات .
وشهادة اللفيف هي شهادة عدد كبير من الناس ليس من المفروض ان يتوفر فيهم شرط العدالة المطلوب شرعا في الشاهد، وانما يحصل بها العلم على سبيل التواتر، وحسب البعض فقد سميت باللفيف لاجتماع من يصلح فيها ومن لا يصلح وكانهم قد لف بعضهم الى بعض .
ولم يتفق الفقهاء على تاريخ بداية العمل باللفيف، وان كان الاجماع منعقدا على انها ظهرت بالاندلس اولا قبل ان تنتقل منه الى المغرب الاقصى .
وصورة اللفيف ان ياتى طالب الشهادة باثنى عشر رجلا الى عدل منتصب للشهادة فيؤدون شهادة عنده، فيكتب رسم الاسترعاء على حسب شهاداتهم، ويضع اسماؤهم عقب تاريخه، ثم يكتب رسما اخر اسفل الرسم نفسه ثم ؤيضع عدلان امضاءهما في اسفل الرسم الثاني .
وقد تضاربت مواقف الفقهاء بشان شهادة اللفيف، فمنهم من رفضها بدعوى مخالفتها لاحكام الشهادة في الفقه الاسلامي وان كان اغلبهم قد قبلها للضرورة تماما كشهادة الصبيان بعضهم على بعض وشهادة النساء ان لم يكن بينهم رجال .
ولقد تطورت شهادة اللفيف تطورا منقطع النظير قبل ان تستقر على وضعها الحالي، ففي بعض الفترات لم يعمل بشهادة اللفيف الا في حقل الاموال وحده قبل ان تنتقل الى مجالات اخرى غير مالية .
وبعدما كان عدد اللفيف غير منضبط، فقد استقر في نهاية المطاف على اثنى عشر نفرا .
وفي الوقت الراهن، فان الاثبات في مجال الاحوال الشخصية كثيرا ما يتم بواسطة اللفيف .
ولمزيد من الايضاح حول هذا الموضوع انظر :
المرحوم عمر بن عبد الكريم الجيدي، "العرف والعمل في المذهب المالكي". اطروحة من دار الحديث الحسنية، مطبعة فضالة 1984، ص 432 وما بعدها .
محمد كشبور، م س، ص 42 وما يليها .
36) يقول ابن عاصم الغرناطي في تحفته :
واعملت شهادة السماع *** في الحمل والنحاح والرضاع 
واذا كانت شهادة السماع حجة كافية لاثبات النسب، فقد اشترط الفقه المالكي لصحتها عدة شروط اولها الاستفاضة وثانيها السلامة من الريبة وثالثها اداء اليمين ورابعها اخيرا طول الزمن .
انظر لمزيد من الايضاح :
ميارة الفاسي، م س، ص 87 وما بعدها .
التسولي، البهجة شرح التحفة، الجزء الاول، دار الفكر، لبنان، ص 133 وما بعدها .
وراجع قرار المجلس الاعلى الصادر في 28 يناير 1986، منشور بمجلة قضاء المجلس الاعلى، العددان 42 و43 ص 159 وما يليها. 
37) الاستفسار، ويقصد به اعادة شهادة الشهود امام القاضي غالبا، لابد منه اذا طلبه الخصم قائم مقام التزكية ولو لم يكن في الرسم اجمال ولا احتمال، وان كان فيه اجمال لابد منه مطلقا، لا فرق بين لفيف وغيره الا اذا كان الشهود من اهل العلم .
التاودي، شرح الشيخ التاودي على لامية الزقاق، المطبعة الحجرية 1334 هـ، ص 210 و211 و212 ومن الناحية القضائية .
راجع قرار المجلس الاعلى الصادر بتاريخ 9 فبراير 1988 ( رقم 215 في الملف الشرعي عدد 83/84 ( قرار غير منشور).
-------------------------
نقول مبدئيا ان هذه الوسائل قد جاءت على سبيل الحصر وليس على سبيل المثال، وان كان ذلك لا ينفي ان المشرع قد توسع كثيرا في مفهوم الفراش الصحيح فألحق به النكاح الفاسد والوطء بشبهة (38) على اعتبار ان المشرع متشوق للحوق الانتساب .

2. وسائل نفس النسب في مدونة الاحوال الشخصية 
ينفي النسب عادة بوسيلة اصلية وحيدة هي اللعان، وقد ينفى بوسيلة ثانية تتمثل في اختلال احد الشروط الخاصة بالفراش، كما نظمتها متقضيات الفصل 85 من مدونة الاحوال الشخصية (39) .
فاللعان - وهو نظام اسلامي خالص - فيه قاعدة سماوية صريحة طبقا رسول الله (ص) في واقعة جد مشهورة وفيه اجتهادات فقهية يصعب حصرها في هذا المجال الضيق .
اما اختلال احد الشروط الفراش فهي مسالة بديهية بحيث ينفي النسب عن الزوج في هذه الحالة الاخيرة بكيفية تلقائية، وشروط الفراش - مبدئيا - هي ثلاثة :
أ‌- وجود عقد زواج صحيح او عقد زواج فاسد او على الاقل وطء بشبهة .
ب‌- ان تمر اقل مدة الحمل وهي ستة  اشهر او اكثرها وهي سنة .
ت‌- امكانية الاتصال .
ونكتفي بهذه الاشارة العابرة ولمن اراد الزيادة في الايضاح ان يرجع الى الكتب المتخصصة في الموضوع .

ثانيا : هل يمكن ان يثبت النسب بواسطة الخبرة الطبية ؟
يقول استاذنا الجليل الدكتور احمد الخمليشي في هذا الصدد بالذات :
" اذا كان كل من فراش الزوجية، والاقرار والشبهة سببا او قرينة لثبوت النسب، وليس اي منها متوقفا على الخبرة الطبية او في حاجة الى تاييدها فان قبول هذه الخبرة في مجال اثبات النسب يمكن حصره  في حالات وجود  شك في الام او بين فرش وشبهة، او المنازعة في العلاقة الزوجية" .
-----------------
38) انظر حول هذه النقطة :
استاذنا احمد الخمليشي، م س، الجزء الاول، ص 186 وما بعدها .
عمر بن عبد الكريم الجيدي، م س، بنفس الموضع .
39) ينص هذا الفصل على ما يلي :
" الولد للفراش ان مضى على عقد الزواج اقل مدة الحمل وامكن الاتصال وإلا فالولد المسند لهذا العقد غير لاحق" .
-----------------

1. الشك في الام 
يمكن ان يحدث هذا وضع امراتين في مكان واحد كمستشفى الولادة مثلا فيختلط المولودان ويتعذر تعين الوليد الذي وضعته كل منهما سواء كانتا متزوجتين او احداهما مرتبطة بعلاقة زواج والاخرى غير متزوجة .
وفي هذه الحالة يقتصر دور الخبرة على تحديد ام الوليد المعني بالامر، اما نسبه فيثبت بفراش الزوجية بحكم التبعية لتعيين الام .

2. الشك بين فراش وشبهة .
الشبهة في حد ذاتها ناذرة، وبالاحرى حدوث شك بينها وبين الفراش في ثبوت النسب، ومع ذلك يمكن ان يحدث شك او تنازع بينهما كما اذا تزوجت المراة وهي ما تزال في عصمة الزوج الاول او في عدة طلاق او وفاة ثم ظهر بها حمل او وضعت في وقت يصلح ان ينسب فيه الولد الى الزوج الاول او الى الثاني حسن النية كما لو كانت الولادة  داخل سنة من انتهاء معاشرتها مع الاول وبعد ستة  اشهر من دخول الثاني بها .
واذا كان الفقه يقول بالحاق الولد الثاني متى كان ازدياده بعد ستة اشهر من الدخول، فان من الفقهاء من يقيد بان تفصل حيضة بين انتهاء معاشرة الزوج الاول ودخول الثاني وهو ما يعني ضرورة وجود قرينة مؤيدة للانتساب الى الثاني دون الاول، ويبدوا الان ان الالتجاء الى الخبرة الطبية اقرب الى القبول لرفع الاحتمال الناجم عن تداخل فترتي الحمل القصوى والاقل .

3. المنازعة حول العلاقة الزوجية 
ونضيف الى الحالتين السابقتين حالة ثالثة لا تكون الدعوى فيها منصبة على النسب وانما على اثبات العلاقة الزوجية التي تكون فيها المراة غالبا هي المدعية .
وبصرف النظر عن التفسير القضائي لمصطلح "البينة" والوارد في م. 5 فقرة 4 من المدونة فاننا نرى ان الخبرة الطبية يمكن ان يكون لها دور في هذه الدعاوي وذلك في حالة وجود ولد او اولاد تدعي المراة ازديادهم من الزواج الذي لم يوثق عند انشائه .
فاذا اثبت التحليل انحدار الاولاد من المدعى عليه، ثبت بذلك الزواج، وبالتالي نسب الاولاد الى ابيهم، ان هذا الاخير اما ان يكون قد انكر العلاقة نهائيا بالمدعية او يدعي انها علاقة خذانة لا علاقة زواج .
في الصورة الاولى يكون ما اثبته التحليل الطبي مكذبا لادعائه فلا يقبل منه بعد ذلك الزعم بان العلاقة كانت غير شرعية مثلا .
وفي الصورة الثانية تكون العلاقة ثابتة باقراره ويدعي هو عدم شرعيتها بينما تدعي الام انها علاقة الزواج، وتصدق هي لشهادة الاصل لها، اذ لا ينكر احد ان الزواج هو الظاهرة المالوفة والغالبة في المجتمع المغربي لمعاشرة الرجل والمراة ولاسيما ازدياد الاولاد من هذه المعاشرة .
ان اعتماد الخبرة الطبية في هذه الدعاوي ليس فيه مخالفة للفقرة الرابعة من م 5 ولا للاحكام الشرعية، وعلى العكس من ذلك يحقق حماية اكيدة لاولئك الاطفال الابرياء الذين يكونون في كل الاحوال ضحية لطيش الابوين معا، او لسفه الاب وتملصه من المسؤولية وانعدام وازع الضمير والدين لديه" .
ومع تقديرنا لموقف استاذنا الجليل اعلاه، فاننا سنعقب على كلامه ببعض الملاحظات :
1. فالبنسة للحالة الاولى - وهي حالة الشك في الام - فلا نزاع اصلا بين الزوجين بشان ثبوت النسب او عدم ثبوته من الزوج، انما هنالك التباس بسبب اختلاط وقع بين الاولاد داخل المستشفى، وهو ما لاحظه استاذنا الجليل نفسه عندما قرر ان دور الخبرة الطبية في هذه الحالة انما يقتصر على تحديد ام الولد المعني بالامر، اما نسبه الحقيقي فقد ثبت يقينا بوسطة الفراش .
2. وبالنسبة للحالة الثانية - وهي حالة الشك بين فراش وشبهة - فمما تجب ملاحظته ان الزواج الثاني هو زواج باطل من الناحية الشرعية، لا يرتب مبدئيا اي اثر اللهم التفريق بين الزوجين رضاء والاقتضاء وترتيب حرمة مؤبدة بين الزوجين، ولم نقف في كتب الفقه المالكي على من يدخل هذه الحالة ضمن الوطء بشبهة .
اما بخصوص النسب، فلا بد من التمييز بين فرضيتين :
أ‌- اذا ولدت المطلقة داخل اقصى مدة الحمل، وهي سنة، فمعنى ذلك انها ودلت داخل عدتها من مطلقها حيث يثبت النسب شرعا اليه، ويبقى له ان يتخلص من ذلك النسب عن طريق اعمال قواعد اللعان متى تحققت شروطه .
ب‌- اذا ولدت المطلقة بعد انقضاء اقصى مدة الحمل، فالفرض ان الولد من العلاقة الجنسية الثانية، ومن البديهي ان ثبوت النسب يتوقف على طبيعة تلك العلاقة من الناحية الشرعية .
ومن الناحية القانونية، فان هذه القواعد تجب نتائج الخبرة الطبية :
3. وبخصوص الحالة الثالثة - وهي حالة المنازعة حول العلاقة الزوجية - فقد قرر المشرع المغربي ومنذ سنة 1957 ان الزواج لا يثبت الا بالكتابة المنجزة من عدلين منتصبين للاشهاد، والاعتبارات اجتماعية تتصل بالوضعية التي كانت عليها البلاد في ذلك التاريخ، جاء في الفقرة الرابعة من الفصل الخامس من مدونة الاحوال الشخصية ما يلي :
" يجوز للقاضي بصفة استثنائية سماع دعوى الزوجية واعتماد البينة الشرعية في اثباتها" .
صحيح ان حالة اثبات الزواج بواسطة البينة الشرعية لا تطرح بحدة امام القضاء الا عندما تكون المراة المدعي التي يعوزها الدليل الكتابي قد ولدت من المدعى عليه، وهو ناكر لكل رابطة زواج مع المعنية بالامر.
والمراة غالبا ما تكتفي هنا برفع دعوى النفقة مصحوبة بلفيف لاثبات الزوجية دون رفع دعوى النسب بكيفية مباشرة، وان كان في ربحها للدعوى الاولى اقرار قضائي بالنسب لا تحتاج معه لرفع دعوى ثانية .
وغني عن البيان ان مصير الدعوى مرتبط بصحة الزواج، اي بقبول البينة الشرعية في فرضيتنا هذه، ولا دخل للخبرة الطبية في هذا الصدد، لاننا بشان اثبات العلاقة الزوجية التي تجعل الزوجة عادة فراشا لزوجها، ويترتب عليها ان الولد للفراش وليس كون ان الولد هو من ماء المدعىعليه فقط، وهذا اقصى ما يمكن ان تبينه الخبرة الطبية .

ثالثا : هل يمكن نفي النسب عن طريق اثبات عقم الزوج بواسطة الخبرة الطبية ؟
لعل من اهم النزاعات التي طرحت امام القضاء المغربي بكل درجاته بخصوص نفي النسب بواسطة شهادة طبية تثبت عقم الزوج، نزاع نجمل وقائعه بالكيفية الاتية :
بتاريخ 17 يوليوز1979 ادعت السيدة فاطمة بنت محمد على مفارقها السيد عبد الله بو السلام انه فارقها بتاريخ 22 ابريل 1979، وهي حامل، طالبة الحكم عليه باداء نفقة الحمل، واجاب المدعى عليه مع تقديم مقال مضاد ذاكرا بانه طلق المدعية وهي غير حامل طالبا الغاء طلبها والحكم بنفي الحمل لانه عقيم لا يلد، وقد تم الحكم وفق الطلب، وايدت محكمة الاستئناف باكادير الحكم الابتدائي على اساس ان التحليلات الطبية التي تثبت العقم لا يعتمد عليها من الناحية الشرعية لنفي النسب .
وجاء في الطعن الذي وفعه المدعى عليه امام المجلس الاعلى :
" وحيث يطعن طالب النقض في الحكم المذكور بعدم الارتكاز على اساس وعدم التعليل لانه لم يورد النص الشرعي الذي الغى الخبرات الطبية في الموضوع، وانه على العكس من ذلك، فان النصوص الشرعية تاخذ بعين الاعتبار ما قد يصل اليه الاطباء في تحليلاتهم فيما يخص الحمل وذلك ما نصت عليه مدونة الاحوال الشخصية مثلا في الفصل 76 من المدونة اذ جعلت للقاضي وهو ينظر في مادة النزاع ان يستعين ببعض الخبراء من الاطباء للتوصل الى الحل يفضي الى الحكم …" .
وقد رفض المجلس الاعلى هذا الطعن بناء على ما يلي :
" … ان ما قضى به الحكم المطعون فيه يجد اساسه في الفصل 91 من مدونة الاحوال الشخصية الذي ينص على ان القاضي يعتمد في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفس النسب، وليس من بين هاته الوسائل وسلية التحليل الطبي، وان ما نص عليه الفصل 76 من المدونة خاص بما اذا بقيت الريبة في الحمل بعد انقضاء سنة من تاريخ الطلاق او الوفاة لمعرفة ما في البطن هل علة ام حمل، وبذلك تكون الوسيلة غير مبنية على اساس ….." (40) .
---------------------
40) القرار منشور بمجلة قضاء المجلس الاعلى، العدد 30، الصفحة 95 .
ونشير الى المجلس الاعلى قد عاد ثانية فاكد نفس القاعدة قائلا :
" …. حيث ان قاعدة الولد للفراش لا يجوز دحضها الا بالوسائل المقررة شرعا لنفي النسب وانه اذا كان الشرع والقانون يعتدان براي الخبرة من الاطباء في عدة مسائل فانهما لم يعتدا برايهم فيما يرجع لنفي النسب استنادا الى عجم قابلية الزواج للاخصاب مادام في وسع ذلك لزوج نفي النسب عن طريق اللعان …" .
قرار صادر بتاريخ 9 فبراير 1982، منشور بمجلة المحاكم المغربية، العدد 37، ص. 90 وما يليها .
على انه، اذا كان الفقه الاسلامي لم يتطرق الى العقم كسبب او وسيلة لنفي النسب فانه قد ناقشه كعيب في الرجل او في المراة يسمح بوضع حد للعلاقة لزوجية، يقول احد الباحثين :
" العقم هو عدم قدرة الجهاز الخاص بالانجاب لكل من الزوج والزوجة على القيام باداء ما انيط به من مهام .
وهذا العيب قديم قدم الانسان، وهو عيب مشترك بين الرجل والمراة .
فاذا تبين ان احد الزوجين عقيم، فهل يحق لزوج الاخر طلب التفريق بذلك ؟
1. يرى الامام احمد رحمه الله ان يتبين امره، وقال عسى امراته تريد الولد، وهذا في ابتداء النكاح .
اما ادا تم النكاح، فان العقم لا يفسخ به النكاح لانه لو ثبت في ذلك لثبت في الاية، ولان ذلك لا يعلم .
ولان رجالا يولد لهم وهم شيوخ، فلا يتحقق ذلك منها وغير ذلك لا يثبت به فسخ .
بيما يرى فريق من المالكية ثبوت الخيار للزوج الاخر اذا وجده عقيما .
ونحن نرى ان ما ذهب اليه الامام احمد رحمه الله تعالى هو الصواب، لان الشواهد تدل عليه وتؤديه، فقد اتى الولد وابوه قاربا نهاية الاجل، وخير شاهد على ذلك ما جاء في القران الكريم حيث قال تعالى : { فاوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فاقبلت امراته  في ضرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم} الايات 28 و29 و30 من سورة الذريات .
فؤاد جاد الكريم محمد، حق الزوجين في طلب التفريق بينهما بالعيوب في الشريعة الاسلامية وقانون الاحوال الشخصية، م س، ص 90 .
-----------------------------------

الفقرة الثالثة
إثبات النسب ونفيه عن طريق فحص الدم
طلعت علينا مجلة الحقوق الكويتية مؤخرا وبالضبط في عدد مارس 1996 ببحث قيم جدا لصاحبه فضيلة الدكتور محمد محمد ابو زيد تحت عنوان " دور التقدم البيولوجي في اثبات النسب" (41) .
وقد كان هذا البحث الهام المنبع الاساسي للهذه الفقرة، وبالخصوص في جوانبه الخاصة باثبات النسب وفيه بواسطة اجراء فحوصات طبية تجرى على الدم عادة داخل المخبر .
ونشير في البداية الى ان البحث العلمي في هذا الصدد قد مر بمرحلتين متميزتين نوجز فيها  كلامنا عنهما فيما سياتي بيانه .

أولا : المرحلة الاولى : دلائل فحص الدم سبب نفي النسب فقط .
لقد اثبتت الابحاث العلمية، ومنذ مدة ليست بالقصيرة ان دم افراد بني البشر يتنوع الى عدة فصائل، وان لكل فصيلة دموية خصائصها المحددة علميا، وعن طريق فحص الفصيلة التي ينتسب اليها دم الزوجة  والزوج والولد، امكن التوصل علميا الى احدى الفرضيتين التاليتين :
الفرضية الاولى : وتتمثل في ظهور فصيلة دم موافقة لمقتضيات تناسل فصيلتي الزوجين، وهذا يفيد بالتاكد ان الزوج ليس هو الاب الحقيقي لذلك الولد .
الفرضية الثانية : وتتمثل في ظهور فصيلة دم الولد الموافقة لمقتضيات تناسل فصيلتي دم الزوجين معا، وهذا معناه ان الزوج قد يكون الاب الحقيقي للولد وقد لا يكون ابا له، والسبب في هذا الاستنتاج ان الفصيلة الدموية الواحدة قد يشترك فيها اناس كثيرون يحتمل جدا ان يكون الزوج المدعى عليه من بينهم .
وفي ضوء هذه المعطيات العلمية المتاحة علميا انذاك تبين ان بحث فصائل الدم تفيد في الحصول الى دليل نفي قاطع، ولكنها لا تفيد مطلقا في الحصول على دليل اثبات مؤكد، بل انها مجرد قرينة بسيطة  تقبل اثبات العكس (42) بحجة معاكسة .
----------------------------
41) مجلة الحقوق، السنة العشرون، مارس 1996، العدد الاول، ص. 223 وما بعدها .
42) وللمزيد من الايضاح حول الموضوع، انظر بالخصوص :
محمد محمد ابو زيد، م س .
بدر الخليفة، الادلة المعملية الجنائية، جامعة الكويت 1994، ص. 6 وما يليها .
M. Michel Godfryd, Expertises médicales, PUF p 45, et suiv.
---------------------------
وقد صدرت عن القضاء الفرنسي في هذا الصدد العديد من الاحكام والقرارات التي تمس هذا الموضوع الخطير (43) .

ثانيا : المرحلة الثانية : دلائل فحص الدم سبب لاثبات ونفي النسب 
" على اثر اكتشاف حمض معين في جسم الانسان، امكن اكتشاف جزء معين في تركيب هذا الحمض، ويتميز هذا الجزء بانه يحمل الصفات الوراثية الخاصة بكل فرد والتي تبقى ملازمة له طيلة حياته : ولقد سميت هذه الصفات البصمة الوراثية لانه لا يتشابه فيها انسان مع  اخر، فلكل انسان على وجه الارض بصمته الوراثية الخاصة به .
ومعرفة البصمة الوراثية لشخص ما يتم عن طريق فحص الحمض النووي لاحد المواد السائلة في جسمه ( كالدم والمني واللعاب) او لاحد انسجة الجسم ( اللحم او الجلد ) او مواد اخرى ( كالشعر والعظام) .
وهكذا امكن الاستفادة من هذا الكشف العلمي في التوصل الى ما اذا كان الاثر الادمي الخاضع للفحص يخص شيئا معينا ام لا. وبمعنى اخر امكن اعتبار هذا الفحص دليل نفي او اثبات بطريقة اكيدة، في كثير من المجالات .
ولقد وجد هذا الكشف تطبيقاته السريعة والقوية في مجال علم الجريمة، حيث البحث عن الفاعل الحقيقي للجريمة عن طريق الربط بين بصمة الحمض النووي للمتهم وبين بصمة الحمض النووي الموجود في اثر الادمي المتروك مكان الجريمة .
---------------------
43) Civ, 25 juin 1949, D. 1949, 585 notes de Carbonnier, J.C.P, 1919.  J 520.
Paris, 12 avril 1957, D. 1957, 436, s 1957, 342.
Civ. 1er, 13 janvier 1959, J.C.P, 1959, II notes de Holleaux, R.T.D.C, 1959, 303, obs. Des bois 
Paris 13 mars 1961, D. 1961.
ونشير الى انه قد سبق للدائرة الجنائية بمحكمة النقض المصرية ان تبنت القاعدة الطبية اعلاه المشار اليها في المثن والذي تبناها القضاء الفرنسي بدوره :
" … متى كانت الحقائق العلمية المسلم بها في الطب الشرعي الحديث تفيد ان تحليل فصائل الدماء قد تقطع نتيجته في نفي النسب الطفل عند المنازعة فيه، وان كان غير اللازم ان تقطع في ثبوته واتحاد الفصائل او اختلافها بين الاصول والفروع ايا كان الراي العلمي فيه هو اعتبار عام لا ينهض في وجه ما تمسك به الطاعن في خصوص دعواه من ان الطفل لا يمكن نسبته اليه ولو بدليل محتمل، محتكما الى الخبرة الفنية البحثة التي لا تستطيع المحكمة ان تشق طريقها فيها الا بمعونة ذويها لما كان ذلك، وكان لا يعرف حاصل ما كان ينتهي اليه راى المحكمة لو ثبت لها بيقين من تحليل الفصائل ان الطفل لا يمكن ان يعزى الى المتهم، وكان رد الدفاع يحدث في وجدان القاضي ما يحدثه دليل الثبوت، لما كان ما تقدم، فقد كان متعينا على المحكمة ان تحقق هذا الدفاع الجوهري عن طريق المختص فنيا وهو الطبيب الشرعي، واما وهي لم تفعل اكتفاء بما قالته من انه ليس من اللازم ان تتحدد دماء الفصول والفروع، فانها تكون بذلك قد احلت نفسها محل الخبير الفني في مسالة فنية، ومن ثم يكون حكمها معيبا بالاخلال بحق الدفاع مما يتعين معه نقضه والاحالة دون حاجة الى التعرض لسائر الطعن ….." .
نقض جنائي، طعن رقم 1217 لسنة 38 ق. ( قرار 21 اكتوبر1968 ) .
------------------------
وفي مجال النسب، فلقد اتاحت دراسة توفق الصفات المميزة الموجودة في الحمض النووي للام وتلك الموجودة في الحمض النووي للطفل الى تخريج تركيبة لا توجد الا عند شخص، واحد فقط هذا الشخص هو الاب الحقيقي او البيولوجي للطفل، وعليه، اذا وجدت هذه التركيبة عند المدعى عليه، بانه الاب فهذا يعني - بشبه يقين - انه الاب الذي كان منه الطفل .
وهكذا، لم يعد فحص الدم قاصرا على دوره التقليدي وهو كونه دليلا مؤكدا على نفس البنوة وانما اصبح له دور حديث حيث صار دليلا على اثبات البنوة وبطريقة لا تقبل الشك .
ولاهمية هذا الفحص الحديث سواء في مجال النسب او غيره، ولخطورته في نفس الوقت فلقد اوصت اللجنة القومية للاخلاقيات في فرنسا بقصر استخدامه على بعض المعامل المتخصصة والمعتمدة رسميا، كما اوصت بالا يجري هذا الفحص الا بناء على امر او حكم قضائي، واوصت اخيرا بالا يندب في هذه المسائل كخبراء لدى المحاكم سوى المختبرات المتعددة رسميا والمتخصصة في هذا المجال .
والحق ان الاعتماد على هذا الدليل العلمي لحسم كثير من مشكلات النسب ملمح بارز للقضاء الفرنسي …" (44) .

ثالثا : موقف القضاء الفرنسي من نتائج فحص الدم في مجال دعاوي النسب .
ان النتائج التي توصل اليها العلم الحديث من خلال التقريرات السابقة قد وجدت لها صدى متقطع النظير من الناحية القانونية حيث ايدها الفقه ورحب بها القضاء، وفيما يلي نقف عند نماذج للقضاء الفرنسي في هذا المجال بالخصوص :
--------------------------
44) محمد محمد ابو زيد، م س .
ولمزيد من الايضاح حول هذا الموضوع، انظر :
بدر الخليفة، م س، ص 15 وما بعدها .
C. La brusse et G.Cornu Droit de la filiation et progrès scientifique, éd. Economica, Paris 1982
M. Clément, Sciences légales et police scientifique éd. Masson 1987.
A. Miras, M. Mali et D. Malicier, L'identification en médecine légale, Lyon 1991.
وتاكيدا لما قرره الاستاذ محمد محمد ابو زيد، يقول احد المهتمين الفرنسيين :
« … La toute nouvelle technique des empreintes génétiques est bien plus performante, car sa fiabilité est quasiment de L'ordre de 100%. Son principe repose sur le fait que des polymorphismes de l'ADN (support des caractères héréditaires ) ont récemment été mis en évidence. Il s'agit de séquence de l 'ADN qui comprennent un nombre variable de petites séries répétitives. Ces séquences variables se transmettent selon les lois mendéliennes de l'hérédité. Des sondes moléculaires permettent de détecter ces variations produisant la réalisation des empreintes de restriction qui donne un profil ressemblant aux  codes à barres utilisés dans le commerce. Cette technique qui n'est donc pas spécifique des action en recherche de partenté (ou de maternité), peuvent être pratiquées sur n'importe quel échantillon humain, sang, sperme, cheveu ».
M. Goldfryd, op. Cit. P. 45 et 46.
---------------------------

1. في دعوى التنازع حول النسب بين زوجين 
في نزاع تتلخص وقائعه في ان سيدة تزوجت وانجبت طفلا اسند نسبه رسميا الى الزوج .
طلقت هذه السيدة ثم تزوجت برجل اخر .
بعد ذلك، رفعت هذه السيدة دعوى امام المحكمة تطلب من هذه الاخيرة الحكم بنفي نسب الولد من الزوج المطلق واسناده الى الزوج الثاني .
اصدرت محكمة الاستئناف بباريس في 11 دجنبر 1975 حكما تمهيديا عينت من خلاله خبيرا حددت مهمته في اجراء اختبارات تتعلق بالوراثة بالنسبة للاطراف المعنية الاربعة وهي الام والزوج المطلق والطفل بغرض اثبات اي من الزوجين يجب ان يستبعد من النسب، وفي حالة الاستبعاد هذه على الخبير ان يبين للمحكمة 
درجة  احتمال الابوة .
وقد وضع الخبير تقريره في 3 مارس 1976 ومن خلاله تم استبعاد الزوج الاول، اي المطلق واعتبار الزوج الثاني هو الاب الحقيقي للطفل على وجه يقترب من اليقين حيث قدرت احتمالات الابوة بدرجة تصل الى 99,84 % .
وفي 16 دجنبر 1976 اصدرت المحكمة قرار يقضي بالمصادقة على ما جاء في تقرير الخبير جملة وتفصيلا (45) .

2. في دعوى إثبات البنوة الطبيعية 
عرضت على محكمة النقض الفرنسية في هذا الصدد، فميا بعد، قضيتان لاحقتان لقرار محكمة الاستيناف بباريس، السالف ذكره .
القضية الاولى : في هذه القضية ايدت محكمة النقض الفرنسية موقف محكمة الاستيناف فيما ذهبت اليه من ثبوت البنوة الطبيعية لطفل من المدعى عليه بعدما كشف فحص الدم الذي اجري بامر من المحكمة انه من المستحيل استبعاده كاب، بل لقد ذهبت محكمة النقض بعيدا في هذا الصدد عندما ايدت محكمة الموضوع التي رفضت طلب خبرة جديدة مكملة للخبرة الاولى التي اطمانت اليها تلك المحكمة كل الاطمئنان (46) .
-----------------------------
45) Paris 16 décembre 1976, D. 1977, J. 133, note Massip .
46) Civ. 17 Novembre 1982, in R. Nerson et J. Rubellin, Devichi, les Preuves scientifiques, RTDC, 1983. P. 725.
-----------------------------
القضية الثانية : وفي قضية اخرى ثانية ايدت محكمة النقض الفرنسية محكمة الاستيناف فيما جنحت اليه، عندما قضت بنسب طفل للاب المدعى عليه بعدما تبين لها ان فحص الدم قد قطع في عدم استبعاده كاب وان ترجيح ذلك يكاد ان يلامس حد اليقين، وفي هذه القضية - وكما في القضية اعلاه - ايدت محكمة النقض محكمة الموضوع الفرنسية  التي رفضت اللجوء الى خبرة تكميلية (47) .

3. في دعوى النفقة 
" دعوى النفقة هي دعوى تقوم - وفقا لاحكام القانون الفرنسي - على اساس توافرما يثير الى ان الطفل يمكن ان ينسب للشخص المدعى عليه - ولو بدليل محتمل، فهي اذن دعاوي لا تستند الى وجود دليل مؤكد بان المدعى عليه هو الحقيقي، وهي تثار غالبا في الحالات التي تثبت فيها ان ام الطفل علىعلاقة بعدد من الرجال اثناء فترة الحمل، وعندئذ وبشروط معينة تسمح احكام القانون الفرنسي بتوزيع عبء النفقة المطلوبة على من يثبت تحليل الدم انه من المحتمل ان يكون الاب، هذا في ظل المعطيات العلمية التي لم تكن تسمح بتقديم دليل مؤكد في اثبات النسب اما اليوم وفي ظل النتائج الحديثة لفحص الدم فان القضاة يلجاون لهذا الدليل العلمي لمعرفة من بين هؤلاء الذين كانوا على صلة بام الطفل، يمكن ان ينسب اليه الطفل بطريقة مؤكدة، وهذا ما يتضح من موقف محكمة باريس الجزئية حيث قضت في 29 نوفمبر 1982 بتكليف خبير تكون مهمته اجراء فحص الدم للاشخاص الذين كانوا على صلة بام الطفل موضوع النزاع، لمعرفة ايهما هو الذي تفيد النتائج بانه الاب الحقيقي او البيولوجي، كانت المفاجاة امام محكمة باريس في حكمها الصادر في 6 دسمبر 1983 حيث جاء بتقرير الخبير ان نتائج تحليل الدم تفيد ان ايا من الرجلين الذين اقتسما العلاقة مع ام الطفل في احدى الليالي، لا يمكن ان يكون هو الاب، ويقول احد المعلقين على هذا الحكم في شيء من الشفقة الممزوجة بالسخرية انه يجب على الام ان تبحث عن رجل ثالث لتحصل منه على 
-------------------------------
47) Civ. 1er février 1983, D. 1983, p. 397
ولمزيد من الإيضاح انظر :
محمد محمد ابو زيد م س .
------------------------------
التعويض، ويشعر المعلق بارتياح حيث يساعد الدليل العلمي الحديث على القضاء على حالات الابتزاز والتشهير الذنيئة (48) .

4. في دعوى اثبات البنوة الشرعية 
نشير في هذا الصدد الى حكم صادر عن المحكمة الجزئية لمدينة باريس، وتتمثل وقائعه في ان احد الازواج رفع دعوى يطلب فيها من المحكمة ان تتيقن عن طريق الخبرة الخاصة بفحص الدم من ادعائه انه ليس ابا للطفل الذي ولد على فراشه، وقد استجابت المحكمة لطلب الزوج رغم تاكدها من خلال وقائع النزاع انه كان يقضي ليله في غالبية الاحيان صحبة زوجته، وعلى الرغم ايضا من ثبوت انه كان قد اصطحبها عند الاطباء لاخضاعها لعملية اجهاض .
وعلى الرغم من قيام هذه الادلة الظاهرية التي تقوم قرينة على ان المدعي هو الاب الحقيقي للطفل، الا ان المحكمة قد استجابت للطلب حيث اثبتت الخبرة  الطبية انه لا يمكن مطلقا ان يكون المدعي هو الاب الحقيقي للطفل محل النزاع (49).
وبالاضافة الى ما تم ذكره، فقد اسارت محكمة الاستيناف بباريس من خلال قرارين لاحقين في نفس الاتجاه اعلاه في نزاعين جد متشابهين (50) .

خامسا : الوسائل العلمية الخاصة باثبات النسب ونفيه واحكام الشريعة الاسلامية 
نشير في البداية الى اننا ابرزنا الاحكام اعلاه ومواقف القضاء الفرنسي منها، لا لكي ياخذ بها قضاؤنا المقيد بالقواعد المضمنة في مدونة الاحوال الشخصية والمستمدة اساسا من مبادئ 
----------------------
48) محمد محمد ابو زيد 
ومن القرارات القضائية المتعمدة في هذا المجال انظر :
Paris, 29 novembre 1982, D. 1983 IR 329, note D. Huetrvellier 
Paris 6 décembre 1983, rev, trim. Du sant. Et doc. 1983, p. 641 
وانظر كذلك :
R. Nerson, les preuves scientifiques, op. Cit.  p. 729
49) ( note illisible) 
50) Paris 4 juillet 1978, D. 1978. I.R. 401
ولمزيد من الايضاح حول هذا الموضوع :
محمد محمد ابو زيد م س .
---------------------
الفقه الاسلامي، ولكن لكي يكون على بينة منها اولا واخيرا، يستعملها متى دعت الضرورة الى ذلك ما لم يمنعه من ذلك نص قطعي الثبوت والدلالة .
وعلى الرغم من كل ذلك، فان الطب  قد يقدم للقانون، وان كانت قواعده مستمدة من الفقه الاسلامي كما هو الحال بالنسبة لمدونة الاحوال الشخصية، خدمة لا تقدر بثمن في بعض النزاعات، ومن ذلك على سبيل المثال ما يتصل كما يلي:

1. اللعان 
اللعان (51) حسب الفقيه المالكي ابن عرفة هو :
" …. حلف الزوج على زنا زوجته او نفي حملها اللازم له وحلفها على تكذيبه، او اوجب نكولها حدها بحكم خاص …." (52) .
وعليه، وحسب هذا التعريف، فاللعان يقتضي استصدار حكم من القضاء بناء على طلب الزوج في حالتين اثنتين هما :
أ‌- ان يدعي انه راى زوجته تزني .
ب‌- ان ينفي حملها منه (53) .
--------------------
51) اللعان في اللغة يعني البعد، يقال عادة لعنة الله، اي ابعده عنه، فهو لعين وملعون ولعن نفسه، اذا قال ابتداء عليه لعنة الله، ولاعن الزوج زوجته اذا قذفها بالفجور .
عمر ابن عبد  الكريم الجيدي، "العرف والعمل في المذهب المالكي"، اطروحة من دار الحديث الحسنية، مطعبة فضالة، 1984، ص 445 .
52) اورده العلامة التسولي في كتابه البهجة شرح التحفة، دار الفكر، الجزء الاول، ص. 330 .
53) ولهاتين الحالتين يشير ابن عاصم الغرناطي في تحفته :
وانه للزوجين ان يلتعنا *** لنفي حمل او لرؤية الزنا 
وحول شرح هذا البيت انظر :
التسولي، م س، بنفس الموضوع .
ميارة الفاسي، شرح على تحفة الحكام، الجزء الاول، دار الفكر، ص 213 وما بعدها .
انظر كذلك :
ابن رشد الغزطي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، الجزء الثاني، دار الفكر، ص. 86 وما بعدها .
---------------------
وعلى القاضي الذي رفعت امامه دعوى اللعان ان يستدعي  الطرفين  المتنازعين في اطار القواعد القانونية التي يتضمنها قانون المسطرة المدنية بالخصوص، وبعد تحققه من شروط دعوى اللعان (54) يطبق فيهما قول الله عز وجل :
{ والذين يرمون ازواجهم ولم يكن لهم شهداء الا انفسهم فشهادة احدهم  اربع  شهادات بالله انه لمن الصادقين والخامسة ان لعنة الله عليه ان كان من الكاذبين ويدرا عنها العذاب ان تشهد اربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين والخامسة ان غضب الله عليها ان كان من الصادقين } (55) .
واذا تمت وانتهت اجراءات اللعان داخل المحكمة، فرق القاضي بين الزوجين واثبت ذلك في حكمه .
وقد اختلف جمهور الفقهاء حول طبيعة هذه الفرقة، وهل هي طلاق ام فسخ، والراجح عند اغلبهم انها فرقة مؤبدة، وقد تبنت مدونة الاحوال الشخصية هذا الموقف الاخير على اساس انه الحكم المتعمد في الفقه المالكي استنادا الى الحديث الذي رواه الدارقطني عن الرسول ( ص) : " المتلاعنان اذا تفرقا لا يجتمعان ابدا" 
واهم ما يترتب على اللعان بالنسبة للموضوع الذي نحن بصدده، سقوط النسب على الزوج الملاعن (56) .
---------------------
54) وحول هذه الشروط عموما وموقف القضاء المغربي من اعمالها، انظر :
استاذنا احمد الخمليشي، التعليق على قانون الاحوال الشخصية، م س، الجزء الثاني ص .
محمد الكشبور، قانون الاحوال الشخصية، م س، ص 409 وما بعدها .
55) الاية 6 و7 و8 من سورة النور .
ويوجز ابن عاصم الغرناطي المسطرة المنبثقة عن الايات الثلاث اعلاه بالكيفية الاتية :
ويــبدا الـــزوج بالالتعــــان  ***  لــدفع اربع من الايمان 
اثبـاتــا او نفيــا مــــا وجبـا  ***  مخمســـا بلعنة ان كاذبا 
وتحلف الزوجة بعد اربعــا  ***   لتدرأ الحد بنفي ما ادعا 
تخميسها بغصب وان صدفا ***  ثم اذا تـم اللعـــان افترقا
فالقاعدة على ما يتضح من الابيات الاربعة اعلاه ان الزوج هو الذي يبدا الملاعنة، عادة غير ان الفقهاء المالكيين قد اختلفوا في الموضوع، فبالنسبة لابن القاسم مثلا اذا بدات المراة فاللعان لا يعاد وقد خالفه اشهب في ذلك .
ميارة الفاسي، م س، ص 215 .
56) انظر لمزيد الايضاح حول الموضوع :
الحطاب، كتاب مواهب الخليل لشرح مختصر خليل، المجلد الرابع، دار الفكر، ص 132 وما بعدها .
الزرقاني، شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل، الجزء الثاني، دار الفكر، ص. 187 و وما بعدها .
---------------------
والحقيقة ان اللعان انما شرع لدرء الحد ولنفي النسب معا وفي ذات الوقت، نظرا للشك الذي يشوش على معرفة من من المتلاعنين على صدق في حلفه ومن منهما على كذب فيه اذ الاصل ان الحكم يكون بالظاهر والله يتولى السرائر .
واعتقد انه متى استطاع الطب ان يزيل ذلك الشك بكيفية يقينية، فيجب ان نرحب به ولو تعلق الامر بمجال يحكمه نص من القران الكريم او من السنة بالنبوية الصحيحة (57) .

2. نفي النسب بإثبات العقم 
راينا سابقا ان القضاء المغربي في عمومه قد استبعد الشهادة الطبية التي تثبت عقم الزوج كوسيلة لنفي النسب، معللا موقفه بان مقتضيات الفصل 91 من مدونة الاحوال الشخصية تحيل في هذه الصدد على احكام الفقه الاسلامي، وان هذا الفقه الاخير لا يعتمد الشهادة الطبية كوسيلة لذلك النفي .
وقد سبق لنا ان كتبنا تعليقا حول الموضوع، نجمل خطوطه الرئيسية فيما يلي :
ان القاضي يختص عادة بتوزيع العدالة بين افراد المجتمع، وليس من المفروض فيه ان يكون مختصصا في غير علوم القانون والتي لا تمت الى تخصصه الاصلي بصلة كالهندسة والزراعة 
------------------------
57) وفي هذا الصدد بالذات يقول الدكتور محمد محمد ابو زيد :
" والواقع ان علة الولد المنتفى نسبه، بطريق اللعان كابن بالنسبة للزوج الملاعن في خصوص سائر الاحكام الشرعية عدا النفقة والميراث، هوا ن هذا الولد قد وضعته امه وهي مفترقة بالزوج بمقتضى زواج صحيح، وخلال المدة المحددة شرعا للحمل، ومن ثم فالحكم ينفي النسب باللعان لا يدل بصفة يقينية على ان الولد ليس ابنا للزوج فقد يكون ابنه حقيقة وكنه كذب بايمانه امام القاضي حتى ينفي نسبه منه ولهذا يجب الاحتياط في الاحكام فيعامل والد هنا معاملة الابن .
واذ يتضح لنا ان نفي النسب اكثر اللعان يقوم على الظن لا على اليقين، فانه يكون من العدل ان يعطى للزوجة الحق في طلب اجراء فحص الدم للتوصل الى ما يفيد في كشف حقيقة النسب بطريقة لا تقبل الشك .
واذا لم تكن الاستجابة لطلب الزوجة في الماضي امرا مقبولا حيث لم تكن المعطيات العلمية تسمح الا بتقديم الدليل المؤكد على انتقاء النسب فانه يصبح امرا ملحا في ظل المعطيات الحديثة التي تسمح بتقديم الدليل المؤكد وهو اذ يصبح امرا ملحا حيث يكشف الحقيقة فانه يعد ايضا امرا مرغوبا فيه شرعا وقانونا .
فمن جهة اولى اذا تعارض ظاهران ان في ثبوت النسب قدم المثبت له لوجوب الاحيتياط في النسب، حتى انه يثبت بالايماء مع القدرة على النطق بخلاف سائر التصرفات، واذا كان الامر كذلك، فما بالنا ولدينا دليل ظاهر ينفي النسب ودليل مؤكد يثبت النسب ؟
ومن جهة ثانية، فانه من الواضح ان استخدام فحص الدم سيمنع من اختلاط الانساب وضياع الاولاد، وصون الاعراض، اننا نرى فيه حالة افادة ان الولد بنسب الزوج تدعيما وتقوية لقاعدة الولد للفراش التي كاد ان يقوضها مجرد اتهام الزوج لزوجته وطلب توجيه اللعان، واذا كان تقويضها في الماضي كاثر للعان امرا لا مفر منه حيث لا توجد وسيلة اخرى ترد هذا الاتهام، فانه لا يكون مقبولا شرعا او قانونا، ان تستمر على هذا الحال والعلوم الحديثة تقدم لنا دليلا مؤكدا يرد هذا الاتهام، ولاسيما انه دليل لا يتعارض، كما راينا - مع اجراء اللعان للتفريق بين الزوجين كما لا يتعارض  - على ما سوف نرى - مع مبادئ الشريعة الاسلامية …". م س .
--------------------------------
والميكانيك والطب، وعليه، فمتى عرض عليه نزاع ما يستلزم الفصل فيه الاعتماد على خبرة خاصة، جاز له ان يستعين باهل المهنة المتخصصين للادلاء برايهم في صورة تقرير يقدمونه الى المحكمة .
وقد نظم المشرع المغربي اجراءات الخبرة ضمن اجراءات التحقيق وتحديدا بالفصول من 59 الى 66 من قانون المسطرة المدنية، بحيث بين كيفية تعيين الخبير واسباب تجريحه والمسطرة التي يجب عليه اتباعها اثناء قيامه بمهمته، ومن الناحية المبدئية، فالخبرة قد قررت من اجل الاستئناس بها فقط، فهي لا تلزم القاضي والا احللنا الخبير مكانه (58)، يفصل في المنازعات بين الافراد .
وفي مجال نفي النسب، لم نعثر على اي حكم يعتمد على الخبرة الطبية في ذلك النفي، بل وعلىالعكس من ذلك لم نقف سوى على الاحكام التي تستبعدها، القرران اللذان سبقت الاشارة اليهما خير دليل على ذلك .
واذا انتقلنا الى احكام الفقه الاسلامي، وعلى مستوى كل المذاهب، نجد انها، لم تعتمد ابدا على الخبرة الطبية كوسيلة لنفس النسب، بل الاكثر من ذلك - وحسب مطالعتنا المتواضعة -  لم نقف على اي فقيه داخل احدى المذاهب السنية المعروفة يتطرق الى هذا الاشكال، هذا مع العلم ان الفقه الاسلامي ياخذ بالخبرة الطبية في مجال الجراحات والعيوب .
ونعتقد ان للفقه الاسلامي عذره في ذلك اذ الملاحظ انه عند نزول القران الكريم وتكوين السنة النبوية، وحتى في العهد الذي بدا فيه تدوين هذا الفقه وازدهاره، لم تكن للطب مكانة ذات شان في المجال الذي نبحث فيه بالخصوص .
فالمشرع القراني وهو الله عز وجل، ورغم انه اعتبر الدين الاسلامي خاتمة الاديان السماوية، ومحمد خاتم الانبياء والرسل، لم يخاطب العرب عهدئذ الا بقدر ما تستوعبه عقولهم، ومن هذا المنطلق، واعتمادا على ما كان عليه الطب من الضعف، لم نجد للخبرة المتصلة به اثرا ضمن مصادر الفقه الاسلامي .
-----------------------
58) ينص الفصل 66 من قانون المسطرة المدنية في فقرته الاخيرة على ما يلي :
" لا يلزم القاضي في أي حال من الاحوال بالاخذ براي الخبير" .
ولمزيد من الايضاح، انظر :
ابراهيم زعيم، نظام الخبرة في القانون المغربي، تينمل للطباعة والنشر، مراكش 1993، ص. 61 وما بعدها .
محمود جمال الدين زكي، الخبرة في المواد المدنية والتجارية، مطبعة جامعة القاهرة، 1993، ص 148 .
علي الحديدي، الخبرة في المسائل المدنية والتجارية، دار النهضة العربية، المنصورة 1993، ص 302 .
مصطفى مجدي هرغة، ندب الخبراء في المجالين الجنائي والمدني، دار محمود للنشر والتوزيع، 1995، ص 115 .
------------------------
ورغم ان العرب قد قطعوا فيما بعد اشواطا بعيدة المدى في الدراسات الطبية وفي الممارسة المرتبطة بها حيث اعتبروا الرواد الاوائل الذين مهدوا للثورة التي يعرفها الطب الحديث، فانه ظل عهدئذ وحتى وقت ازدهار الفقه الاسلامي، مبنيا في جل استنتاجاته على الاحتمال والترجيح، وذلك فان اصحاب المذاهب السنية الكبرى المعروفة وتابعيهم ولم ياخذوا بالخبرة الطبية في مجال جد خطير، وهو مجال النسب .
اما اليوم، وقد اصبح الطب في العديد من اموره مبنيا على اليقين، حيث احرز تقدما منقطع النظير في العديد من المجالات، فان استبعاده من طرف القضاء قد يدعو غير المهتمين غالبا الى الدهشة والى الاستغراب .
والذي نحبذه هو انه يجب على المشرع، متى اتيحت له فرصة اعادة النظر في بعض احكام مدونة الاحوال الشخصية، ان يتصل بالمهتمين بالميدان الطبي، وان يستصدر فتوى من هيئة متخصصة في الفقه وفي الطب لكي توضح لنا هل الخبرة في ميدان النسب اثباتا ونفيا، هي مسالة مبنية على اليقين او على مجرد الاحتمال، بحيث ناخذ بها ونقننها في الحالة الاولى ونستبعدها في الحالةالثانية، ذلك ان تجاهل ما حققه الطب من معجزات في القرن الذي نعيش فيه هو خطا لا يغتفر ابدا .
وان وظيفة القاضي تتمثل اساس في فضه للنزاعات بين الخصوم بكيفية عادلة، ولن يتاتى ذلك الا بوقوفه على حقيقة ما يدعيه كل خصم اولا وقبل كل شيء اخر في اطار ما يصطلح على تسميته باستخلاص الوقائع، ومتى ظهرت وسيلة جديدة تعيننا على الوصول الى الحقيقة، وهي مناط العدالة لما صح لنا تجاهلنا اعتمادا على ان الفقه الاسلامي، واغلبه اراء اجتهادية - لم يسبق له ان اخذ بها لان موقفا كهذا يضر كثيرا بهذا الفقه ولا يخدمه في شيء .
الدار البيضاء في 6 ابريل 1997 



* مجلة المحاكم المغربية، عدد 77-78، ص 13 .
Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : أبحاث قانونية مغربية