-->

الأيمان الشرعية وقانون المسطرة المدنية


 عبد القادر الرافعي 
المستشار بالمجلس الاعلى

تمهيد:                
صدر أخيرا بمجلة قضاء المجلس الاعلى في عددها 47 في الصفحة 338 قرار المجلس الاعلى تحت عدد 1032 صدر بتاريخ 15/3/1995 في 
الملف المدني عدد 5601/90 والذي قضى " بعدم قبول الطعن بالنقض الموجه ضد قرار محكمة الاستئناف بتازة القاضي بإلغاء دعوى المدعين الرامية الى استحقاق ثلاثة خدامة من قطعة تلوان من يد المدعى عليهم مع يمين هؤلاء الآخرين على ان المدعى فيه حوزهم وملكهم مع مراعاة قاعدة النكول" وجاء في حيثيات قرار المجلس الاعلى : " ان الحكم المذكور يعد حكما تمهيديا وان القضاء بالاستحقاق أو عدمه متوقف على اليمين المحكوم بها أداءا او نكولا وباعتبار القرار تمهيديا فهو غير قابل للطعن بالنقض عملا بمقتضيات الفصل 353 من ق.م.م" وقد تم التعليق على هذا القرار تاييدا له من طرف رئيس الغرفة الأستاذ المحترم أبو مسلم الحطاب، وقد جاء في تعليق الأستاذ المذكور ان أحكام اليمين بخصوص القرار المعلق عليه وهو يتعلق بعقار غير محفظ يطبق عليها ق.ل. ع في الموضوع والفصول 55 و85 الى 88 من قانون المسطرة المدنية في الشكل ومن تم فان اعتبار الحكم الفاصل في الموضوع مع أداء الطرف لليمين حكما قطعيا معلقا على شرط لا ينسجم مع المقتضيات التشريعية في ق.م.م ولا يعدو ان يكون أثرا من أثار المسطرة الفقهية التي هي عبارة عن قواعد إجرائية دونها علماء الفقه الإسلامي في منظوماتهم والتي كانت تطبق أمام محاكم القضاة ولم يعد العمل جاريا بها بعد ان حل محلها ق.م.م

ونظرا لكون الحل المعتمد في هذا القرار وكذا التعليق يعتبر توجها جديدا خلاف ما سار عليه المجلس سابقا فانه يستحق فتح باب المناقشة، ورغبة مني في إثراء هذا النقاش سأحاول ان أتناول هذا الموضوع من خلال أربعة محاور، اخصص الاول للوضع التشريعي الحالي الذي يحكم  وسائل الإثبات ومنها اليمين موضوعا ومسطرة والثاني للإشكالية موضوع القرار والثالث لمدى قانونية الحل المتخذ من طرف المجلس الاعلى في القرار موضوع التعليق والرابع للأحكام المعلقة على شرط أداء اليمين وفي البداية سأبين الوضع القانوني المقارن لوسائل الإثبات لأختم البحث بخاتمة تتضمن توجهات عامة.

المقدمة :
خصصت بعد التشريعات لوسائل الإثبات قانونا مستقلا ثم جمع الجانب الموضوعي فيه وكذا الجانب الشكلي: كالقانون المصري ونظرائه السوري والإنجليزي والأمريكي، والبعض منها نظم قواعد الإثبات كلها في قانون المرافعات كالقانونين اللبناني والألماني في حين سلك البعض الآخر مسلكا مغايرا، إذ تم تنظيم القواعد الموضوعية لتلك الوسائل في القانون المدني والقواعد الإجرائية لها في قانون المرافعات كالقانون الفرنسي وقانون الالتزامات والعقود المغربي، إلا ان كتب الشريعة الإسلامية نحت منحى أخر إذ جمعت جميع القواعد المتعلقة بالإثبات سواء تعلق الأمر بالموضوع أو بالشكل في مكان واحد ضمن الأبواب التي تناولت مجموع القواعد المنظمة للمعاملات. ثم انه من القواعد العامة في القانون المقارن ان التسليم بوجود حقوق ما هو تسليم بالضرورة بوجود قواعد لإثبات تلك الحقوق ومنها القواعد الشكلية التي تبين وتحدد كيفية استعمال تلك الوسائل، وانه من القواعد العامة كذلك ان قوانين المرافعات إذا كانت قاصرة عن استيعاب القواعد المسطرية لاستعمال وسائل الإثبات، فانه يتعين الرجوع الى قوانين الموضوع او الشريعة العامة (1). وعليه فما هي القوانين التي تنظم وسائل الإثبات في المواد المدنية ؟

أولا- القوانين المطبقة على وسائل الإثبات في المادة المدنية بمفهومها الواسع:
لابد للجواب على التساؤل المذكور أعلاه من إعطاء نظرة تاريخية عن الوضع التشريعي الذي كان مطبقا قبل سنة  1965 أولا ثم دراسة الفترة الممتدة من 1965 الى الآن.

نظرة تاريخية:
كان الوضع التشريعي بالمغرب قبل الحماية هو تطبيق الشريعة الإسلامية على جميع مناحي الحياة الخاصة والعامة وبعد دخول عقد الحماية حيز التنفيذ أصبحنا أمام ثلاثة أوضاع قانونية مختلفة. فهناك قوانين البلد المستعمر المطبقة لدى محاكمه، ثم العرف المطبق لدى المحاكم العرفية بالمناطق البربرية، لينحصر دور الشريعة الإسلامية على المحاكم الشرعية في جميع القضايا المعروضة عليها والمحاكم المخزنية في القضايا المدنية فقط، وبعد الاستقلال ظل الوضع على ما هو عليه باستثناء إلغاء المحاكم العرفية لتحل محلها المحاكم الشرعية التي سميت محاكم القضاة، وتسمية محاكم المستعمر التي سميت بالمحاكم العصرية، وصدور ظهير16/12/1957 الذي اصبح بمثابة قانون المرافعات لدى محاكم القضاة.
----------------------
1- الفصايلي : التنظيم القضائي في المغرب، الصفحة 1.
----------------------

1) الفترة الممتدة من سنة  1965 الى الان:
تبتدئ هذه الفترة بصدور قانون 26/1/1965 المعروف بقانون التوحيد والمغربة وتعريب القضاء وقد نص الفصل الثالث منه على ما يلي : "ان النصوص الشرعية والعبرية وكذلك القوانين المدنية والجنائية الجاري بها العمل حاليا تصبح الى ان تتم مراجعتها مطبقة لدى المحاكم المذكورة في الفصل الاول ... ان القضايا الشرعية والعبرية تصبح في الدرجة الاولى من اختصاص محاكم السدد وفي الدرجة الثانية من اختصاص المحاكم الاقليمية".

ويعتبر هذا الفصل بحق السند التشريعي الامر بالاستمرار في تطبيق النصوص الشرعية التي هي المدونة وفقه الامام مالك(2). فقد جاء  في قرار للمجلس الاعلى تحت عدد 1725 بتاريخ 23/11/1983 ما يلي : " ومن جهة ثالثة فان عقد المغارسة ينعقد بشروط كما نص عليه الشيخ التسولي في باب الاغتراس ليس من بينها تحديد المدة"(3).
كما جاء في قرار اخر تحت عدد 932 وتاريخ 14/6/1983 ما يلي " ان المحكمة اعرضت عن مقتضيات الفقه في الموضوع النزاع يتعلق برفع ضرر ناشئ عن نخلتين في ارض الجار مالتا من فوق ودخلتا ملك المدعي وقد اثار هذا الاخير تطبيق الفصل 92 من ق.ل.ع المتعلق بمضار الجوار - وهي فاصلة وواضحة، ويجب الاحتكام اليها ولا يجوز استبعادها والتيه مع العادات وكان لزاما على المحكمة ان تتحقق من وجود الضرر ونوعه ومدته، وتصدر بعد ذلك حكمها وفق قواعد الفقه"(4).
واثناء تطبيق هذا القانون الذي كرس ازدواجية التشريع في المادة المدنية بمفهومها الواسع اي تطبيق الفقه الاسلامي المقنن وغير المقنن بخصوص القضايا الشرعية من جهة والقوانين المدنية بخصوص باقي النزاعات من جهة اخرى برزت في السنوات الاولى من هذا التطبيق اشكاليتان تتعلق الاولى بحدود تطبيق كل من النصوص الشرعية والقوانين المدنية، فلم  يسلم الوضع من تداخل وانحسار ومد وجزر، ويمكن القوال باختصار بان النصوص الشرعية تشمل مدونة الاحوال الشخصية بجميع كتبها، كما تشمل المقتضيات المتعلقة بالحقوق العينية الواردة على المنقول وتلك الواردة على عقار غير محفظ وكذا التبرعات وبعض العقود، وهكذا ورد في قرار المجلس الاعلى تحت عدد 294 صدر بتاريخ 11/6/1969 ما يلي: (5)


---------------------
1- احمد الخمليشي: كيف نقرا ظهير الالتزامات والعقود ؟ المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية، عدد 7 ص 1.
2- منشور بقضاء المجلس الاعلى، عدد 36-35 الصفحة 16.
3- منشور بقضاء المجلس الاعلى، عدد 33-34 الصفحة 1.
4- منشور بقضاء المجلس الاعلى، عدد 2 صفحة 4.
---------------------
" ان القضايا الشرعية المنصوص عليها في الفصل الثالث من مرسوم 26/1/1965 تشمل بالاضافة الى قضايا الاحوال الشخصية والمواريث القضايا المتعلقة بالعقار غير المحفظ"، كما تضمن مشروع قانون الاموال المقدم لوزير العدل لسنة 1959 من طرف لجنة تدوين الفقه المؤسسة بمقتضى ظهير 19/8/1957 تسعة وستون فصلا قانونيا، وساتناول هذا الموضوع في بحث اخر انشاء الله، واما الاشكالية الثانية فهي : هل الازدواجية التشريعية التي كرسها قانون التوحيد تشمل حتى قوانين المرافعات ام انها لا تطبق الا على قوانين الموضوع ؟ 
مع العلم ان الوضع السائد قبل صدور قانون التوحيد بخصوص مادة المرافعات هو : ان القضايا الشرعية كان يطبق عليها ظهير 16/12/1957 المتضمن لقانون المرافعات الشرعية، كما كانت تطبق على باقي القضايا المدنية لدى المحاكم العصرية المسطرة المدنية لسنة 1913.
للجواب على هذه الاشكالية لابد من التفريق بين مرحلتين الاولى امتدت من سنة 1965 الى 1970 والثانية امتدت بعد ذلك الى الآن.

ا- المرحلة الاولى:
بعد تطبيق ظهير التوحيد والمغربة انقسم القضاء في تحديد مدى مبدا الازدواجية التشريعية هذا إذ اعتبر البعض ان ظهير المسطرة الشرعية الصادر بتاريخ 16/12/1957 لازال قابلا للتطبيق امام محاكم السدد والاقليمية التي ورثت اختصاصات القضاء الشرعي، في حين راى الفريق الاخر ان ظهير المسطرة المدنية لسنة 1913 اصبح موحدا بخصوص جميع القضايا لدى المحاكم الموحدة وانتصر المجلس الاعلى عن حق للفريق الاول في قراره عدد 391 الصادر بتاريخ 21/3/1967  وجاء في حيثيات هذا القرار ما يلي : " حيث يتجلى من حكم قسم الاستئناف الاقليمي بفاس انه قد بني على ما ابرزه في طليعة حكمه على الفصل 145 وما يليه من ق.م.م وحيث ان قانون المسطرة الواجب التطبيق لدى محاكم القضاة الشرعيين هو الظهير الشريف رقم 336/57/1 ( ظهير 16/12/1957) وقد استمر العمل به بمقتضى الفصل 3 من قانون 26/1/1965 الى ان تتم مراجعته، وحيث ان تلك المراجعة لم تتم الا الان ولم يقع أي نسخ للقوانين المعمول بها لدى الاقسام الاستئنافية التابعة للمحاكم الاقليمية حتى يتاح لقسم الاستئناف الاقليمي بفاس ان يطبق قانون المسطرة المدنية المؤرخة ب 12/8/1913 وحيث ان قسم الاستئناف الاقليمي بفاس قد خرق القانون باعراضه عن تطبيق نص قانوني لم يلغ العمل به واستناده في حكمه الى قانون لم يعهد اليه بتطبيقه بنص قانوني" (6).

ب- المرحلة الثانية:
الا ان المجلس الاعلى ما لبث ان تراجع عن المبدا المذكور اعلاه فاصدر قراره عدد 144 بتاريخ 10/02/1970 (7)، وجاء في هذا القرار ما يلي: "ان قانون المسطرة المدنية الصادر بتاريخ 12/8/1913 اصبح منذ نفاذ قانون التوحيد مطبقا لدى محاكم السدد والمحاكم الاقليمية التي آل اليها النظر في القضايا الشرعية وبمقتضى ذلك اصبحت المسطرة التي كان ينظمها الظهير المؤرخ ب 16/12/1957 غير ذات موضوع"(8) وبذلك يكون قد كتب لتيار التغريب ان ينتصر على التيار المحافظ ليتم القضاء على احد ركائز القضاء الشرعي وهو المسطرة الشرعية.
ورغم عدم وجاهة القرار المذكور فان الفترة الاولى امست في ذمة التاريخ واصبح مبدا وحدة المسطرة المدنية هو المعمول به وهو المطبق لدى محاكم المملكة (9) الى ان صدر ظهير 28/9/1974 الذي كرس نفس الوضع وهو المطبق الى يومنا هذا.

ثانيا- حدود تطبيق ازدواجية التشريع واثاره على وسائل الإثبات ومنها اليمين:
لقد نظمت كتب الفقه الاسلامي المطبق على القضايا الشرعية جميع الاحكام المتعلقة بوسائل الإثبات سواء في جانبها الموضوعي او في جانبها الشكلي، وطب هذا الوضع التشريعي القضاء المغربي قبل الحماية، والمحاكم الشرعية اثناء الحماية ومحاكم القضاة بعد اعلان الاستقلال الى سنة 1965 التي صدر فيها قانون توحيد المحاكم ومغربتها وتعريبها وقد راينا ان الفصل الثالث من القانون المذكور اقر هذا الوضع بكامله وقد جاء في الفصل المذكور ان النصوص الشرعية الجاري بها العمل حاليا تصبح الى ان تتم مراجعتها مطبقة لدى المحاكم المذكورة في الفصل الاول (10)، ومن جملة ما تضمنته 
---------------------
5- منشور بمجلة المحاماة، عدد 2 صفحة 53 مع انتقاد للأستاذ عبد الرحمان بن اعمر.
6- صدور القرار المذكور من الغرفتين المدنية والاجتماعية، اذ في تلك الفترة لم تنشا بعد غرفة الاحوال الشخصية والميراث.
7- منشور بمجلة المحاماة، عدد 8 الصفحة93 مع تعليق لنفس الأستاذ المذكور اعلاه.
8- انظر المختصر في المسطرة المدنية والتنظيم القضائي : موسى عبود ومحمد السماحي، ص 61.
9- ان الفصل المذكور قد حدد بعبارة " الجاري بها العمل حاليا" المرجعية الوحيدة لتفسير مقتضياته وهي المرجعية التاريخية، فاذا حصل نزاع حول الوضع التشريعي المطبق على مسالة ما: تعين الرجوع الى الوضع السائد قبل صدور هذا القانون.
10- ضمنت هذه القواعد في كتب الفقه من شراح خليل والتحفة واللامية والعمل الفاسي والمطلق وكتب النوازل وقد الف الصنهاجي كتيبا سماه: " تحفة الاخوان بمسائل الأيمان".
----------------------
تلك النصوص تنظيم الأيمان الشرعية موضوعا ومسطرة (11)، وفي المقابل نظم قانون الالتزامات والعقود وسائل الإثبات في القسم السابع من الكتاب الاول وجاء في فصله 404 ما يلي: وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي اقرار الخصم - الحجة الكتابية  - شهادة الشهود - القرينة - اليمين والنكول عنها.

كما جاء في فصله 460 ما يلي: " الاحكام المتعلقة باليمين مقررة في المرسوم الملكي الصادر بشان المسطرة المدنية. وبمقتضى هذه الاحالة تم تنظيم اليمين الحاسمة في ظهير المسطرة المدنية الصادر بتاريخ 12/8/1913، كما تولى ظهير 28/9/1974 الذي حل محله: تنظيم أحكام اليمين في الفصول 85 الى 88 منه.
لكن هل يمكن الاعتماد على مبدا توحيد المسطرة المدنية المشار اليه سابقا واعتبار ان ظهير المسطرة المدنية الجديد في الفصول المتعلقة باليمين يطبق حتى على القضايا الشرعية وهي بذلك تكون قد نسخت أحكام الأيمان الشرعية؟

للجواب على هذه السؤال لابد من الرجوع الى ظهير المسطرة الشرعية الذي تم اهماله لفائدة ظهير المسطرة المدنية وقراءة محتوياته: وقد كان يتضمن 30 فصلا خصص الاول منها لتركيب محاكم القضاة والثاني الى السادس لكيفية تقديم الدعوى والسابع الى الثامن لاستدعاء والاطراف والتاسع لسلطات القاضي في اجراء التحقيق والعاشر لشهادة الشهود و11 الى 15 لحضور الاطراف والجلسات و16 الى 19 للأحكام والتنفيذ والتبليغ و20 الى 28 لطرق الطعن و29 لمقتضيات انتقالية والاخير للمقتضيات المنسوخة.

ومن خلال هذه القراءة يتضح ان هذا الظهير لم يكن ينظم نهائيا احكام اليمين الشرعية لا من حيث الموضوع ولا من حيث الشكل (12)، وبالتالي فان مبدا توحيد المسطرة المدنية لا يسمح بالجواب على التساؤل السابق بالايجاب والقول بان قانون المسطرة المدنية الذي حل محل المسطرة الشرعية  يتعين تطبيق مقتضياته المتعلقة باليمين على القضايا الشرعية وعليه فنستخلص مما سبق ان أحكام الأيمان الشرعية لازالت واجبة التطبيق على القضايا التي يطبق عليها الفقه الاسلامي وليست خاضعة لاي قانون وضعي سواء تعلق الامر بالموضوع او بالاجراءات، بل اكثر  من هذا فان جميع وسائـل الإثبات التي تهم القضايا الشرعية حسبما وقع تحديده سابقا تخضع للفقه الاسلامي.
-----------------------
11- إضافة الى ان الشريعة الإسلامية لم تكن تحيل في تنظيم الأيمان على قانوني المسطرة لسنتي 113 و174، كما فعل ق.ل.ع. 
12- منشور بقضاء المجلس الاعلى، عدد 4 ص 14.
-----------------------

فاللفيف مثلا بخصوص تلك القضايا حجة تامة ينظمها الفقه المذكور ويخضع لقناعة القاضي بطبيعة الحال ليس لائحة الشهود ولا شهادة ناقصة يتعين على شهودها أداء اليمين امام المحكمة، وقد جاء في قرار المجلس الاعلى تحت عدد 354 بتاريخ 21/3/1987 ما يلي :
(( ان شهادة اللفيف التي يتلقاها العدول نيابة عن القاضي هي بمثابة شهادة للعدول في اثبات الحقوق وليست مجرد لائحة شهود ولا يلزم شهودها باداء اليمين )) (13).

ثالثا- ما مدى صوابية الحل المعتمد من طرف المجلس الاعلى في قراره موضوع التعليق:
وعليه واعتمادا على ما سبق تحليله في المحاور السابقة فيظهر ان الحل الذي  اتخذه المجلس الاعلى في قراره الاخير المشار اليه في التمهيد لا ينسجم مع الوضع القانوني المطبق حاليا وان اخضاع أحكام الأيمان الشرعية لاجراءات المسطرة المدنية فيما يتعلق باليمين الحاسمة واليمين المتممة المنظمتين من طرفها هو خرق للقانون، كما ان محاولة اخضاع الأيمان الشرعية الى التقسيمين المذكورين في المسطرة المدنية هو من باب لي اعناق النصوص الفقهية والباسها لبوسا وضعيا لا ينسجم معها، ويتجلى ذلك اكثر في الاسباب الاتية: أ- ان الوضع التشريعي الحالي هو وجوب تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على جزء هام من القضايا المدنية بمفهومها الواسع وقد اصطلح على هذا الجزء بالقضايا الشرعية، وان من تلك النصوص الواجبة التطبيق أحكام ومقتضيات تنظم وسائل الإثبات في تلك المواد السابقة الذكر موضوعا واجراءات.
ب- ان ظهير المسطرة الشرعية الصادر بتاريخ 16/12/57 وهو القانون الذي وقع تقنينه من النصوص الشرعية الجاري بها العمل لم يكن ينظم نهائيا كيفية اقتضاء الأيمان الشرعية كوسائل لإثبات الحقوق في القضايا المذكورة، وعليه فان اهمال تطبيق هذا القانون الذي حصل بقرار مرجوح من المجلس الاعلى سنة 1970 يعني فقط نسخ أحكام المسطرة المذكورة واحلال المقتضيات القانونية التي تنظم نفس الموضوعات من قانون المسطرة المدنية محلها وبطبيعة الحال ليس من جملتها أحكام اليمين ولا اجراءات اقتضائها.
---------------------
1- منشور بقضاء المجلس الاعلى، عدد 25 ص 53.
--------------------
ج- ان اتباع وجهة نظر المجلس الاعلى في القرار موضوع التعليق: وهي اعتبار الاحكام المعلقة على شرط أداء اليمين احكاما تمهيدية من شانه خلق مأزق قانوني بدون مخرج: ذلك انه حسب منظور القرار المذكور فان محضر اداء اليمين لا يعتبر حكما بتاتا فاحرى ان يتسما بالقطعية بل يعتبر بمثابة اجراء من اجراءات التنفيذ او التحقيق حسب الاحوال والاجتهاد القضائي المغربي سار في نفس الاتجاه، فقد جاء في قرار المجلس الاعلى تحت عدد 675 صدر بتاريخ 27/9/1987 (14) ما يلي :
" ان موضوع الطعن في النازلة هو مجرد محضر اداء اليمين لا يكتسي صفة الاحكام النهائية ولا يرجع الى الحالات المذكورة في الفصل 353 من قانون المسطرة المدنية".
وعليه، فان القرار الاستئنافي موضوع قرار المجلس الاعلى والقاضي برفض دعوى الاستحقاق مع يمين المدعى عليهم هو قرار قطعي انتهائي قابل للطعن بالنقض عكس ما ذهب اليه المجلس حسب ما اشير اليه في الفقرات السابقة.
لكن هل في ظل الوضع القانوني الحالي يمكن التسليم بصحة الاحكام المعلقة على شرط كالقرار الاستئنافي المشار اليه اعلاه ؟ هذا ما سأتناوله في المحرر الرابع.

رابعا - مدى قانونية الاحكام المعلقة على شرط أداء اليمين في القانون المغربي :
كان يمكن اعتبار موقف المجلس الاعلى موضوع التعليق على حظ من الصواب لو نقض القرار المذكور على اعتبار ان الاحكام المعلقة على شرط أداء اليمين غير قانونية ولا تستجيب لمقتضيات بناء الاحكام في قانون المسطرة المدنية، ومع ذلك فان الامر ليس بهذه السهولة ذلك انه اذا كان من المسلم به ان بناء  الاحكام الصادرة في القضايا  الشرعية يجب ان يكون طبق مقتضيات المسطرة المدنية لسنة : 1974 وهذا هو مبدا توحيد المسطرة المدنية الذي دشنه المجلس الاعلى سنة 1970 وكرسه قانون 28/9/74، فانه بالرجوع الى هذا القانون نجده لا يمنع اصدار الاحكام الشرطية كمبدا عام، الا انه في مادة اليمين المتممة تدخل المشرع بنص خاص لالزام اصدار الحكم بها في شكل تمهيدي يعقب استيفاءها او النكول عنها حكم قطعي حسب ما نص على ذلك الفصل 87 من ق.م.م.

ولهذا فان المجلس الاعلى في قراره الصادر بتاريخ 30/10/1980 تحت عدد 205 لما اراد نقض قرار استئنافي صدر في مادة الكراء -  وهي مادة مدنية- بحكم شرطي معلق على أداء اليمين المتممة: اضطر الى استخدام النصوص الخاصة المتعلقة باحكام اليمين المتممة لنقض القرار المذكور وقد جاء في هذا القرار ما يلي: " ان المحكمة عندما اعتبرت المدعي لم يعزز ادعاءاته بالحجة الكافية ورات ان توجه اليه اليمين المتممة لاستكمال الدليل، فانه كان عليها ان توجه هذه اليمين بحكم تمهيدي يبين الوقائع التي ستتلقى اليمين بشانها وتسجل تاديته لليمين قبل الفصل في النزاع وذلك وفقا للفصل 87 من ق.م.م لان توجيه اليمين المتممة من القاضي ما هو الا اجراء من اجراءات التحقيق المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية ويتوقف البت في النازلة عليها لاعداد الدليل وبما ان الدعوى لازالت في مرحلة اعداد الدليل، فانه لا يمكن الفصل فيها بحكم في الجوهر الا بعد قيام هذا الدليل، وان المحكمة بفصلها في النازلة بحكم معلق على شرط أداء اليمين المتممة التي يعتبر استيفاؤها وسيلة من وسائل الإثبات تكون قد خرقت المقتضيات القانونية المذكورة وعرضت قرارها للنقض(15).

وعليه واعتمادا على ما تم استنتاجه في المحاور السابقة، فان كيفية أداء اليمين الشرعية، بل الأيمان الشرعية ومتى تؤدي، وبمقتضى أي حكم، وهل قبل البث في القضية او اثناءه تتحكم فيها أحكام الشريعة.
وبالرجوع الى هذه الاخيرة : نجد انها اقرت مثل هذه الاحكام أي الاحكام الشرطية في مادة اليمين فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عند عجز المدعي عن الاتيان بالبينة - بيمين المدعى عليه (16) واعطى (ص) تفسيرا لذلك في قوله : " لو يعطي الناس بدعاواهم لادعى رجال اموال قوم ودماءهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من انكر".

وعلى هذا النحو سار السلف والفقهاء من مختلف المذاهب وقضاة المذهب المالكي، واورد فيما يلي نماذج من الاحكام الشرعية المغربية التي صدرت اثناء الحماية: فقد جاء في الحكم 57 من  مجموعة الاحكام الشرعية (18) ما يلي : 
" وحينئذ اقتضى نظره ارشده الله ان حكم بسقوط دعوى المدعي لعجزه عن اثباته الثبوت الشرعي وبيمين المدعى عليه طبق انكاره في جوابه لما هو معلوم ومقرر واشهر من نار على علم من ان البينة على المدعي واليمين على من انكر، وفي التحفة " المدعى عليه باليمين في عجز مدع عن التبيين" حكما تاما أبثه وامضاه واوجب العمل بمقتضاه(19).

------------------
رواه البخاري تحت رقم 2514 ومسلم تحت رقم 1711.
رواه البيهقي في سننه الجزء العاشر صفحة 252.
للقاضي لحسن بن ج محمد العمارتي : تعليق وتحقيق استاذنا الجليل عبد العالي العبودي
الكتاب المذكور، ص 251.
-------------------
كما جاء في الحكم 102 من نفس الكتاب ما يلي: " وحينئذ اقتضى نظره هداه الله ان حكم بسقوط دعوى المدعي كسرا حيث ان دعواه بقيت مجردة عن الإثبات الشرعي وإبقاء الشيء بيد حائزيه المدعى عليهم طبق انكار وكيلهم في الجواب عنهم الحوز والملك وعجز المدعي كسرا عن اثبات ذلك مع يمين المدعى عليهم طبق انكار وكيلهم في الجواب عنهم لما هو مقرر معلوم من قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) البينة على المدعي واليمين على من انكر، وعند صاحب التحفة بقوله والمدعى عليه باليمين الخ …. وللمدعى عليهم قلب هذه اليمين على المدعي كسرا ويستحق حينئذ جميع ما ادعاه، قال في التحفة وهذه اليمين حيث تجب يسوغ قلبها وما ان تقلب حكما تاما أبثه وامضاه واوجب العمل بمقتضاه". (20) وقد استمر المجلس الاعلى بعد الاستقلال وحتى الان في تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية على الاحكام المعلقة على شرط أداء اليمين وسلم بجواز اصدارها ولم يعتبرها احكاما تمهيدية ولو يطبق عليها فصول المسطرة المدنية المتعلقة باليمين، وهكذا جاء في قرار المجلس الاعلى صدر تحت عدد 1886 بتاريخ 19/12/1989 (21) ما يلي : " ان تعليق تنفيذ حكم على أداء اليمين لا ينافي انها تؤدى امام القاضي خصوصا وان القانون يسمح بتاجيل اليمين الى حين التنفيذ اذا كان معلقا على ادائها الحكم حسبما نص على ذلك الفصل 444 من ق.م.م وان ذلك ليس فيه أي خرق للفصلين 87 و86 من ق.م.م المستدل بهما في الوسيلة"(22).

وعليه فيستخلص مما سبق ان الشريعة الإسلامية يعرف قضاؤها الاحكام المعلقة على شرط أداء اليمين وان تلك الاحكام صحيحة، وان هذه المقتضيات لازالت واجبة التطبيق على الاقل بخصوص القضايا التي يطبق عليها الفقه الاسلامي وانها تخضع في ذلك لاحكام هذا الفقه وحده ولا تخضع لاحكام المسطرة المدنية القاصرة عن استيعاب مثل هذه المؤسسات الاصلية.
----------------------
1- نفس الكتاب السابق، ص444.
2- منشور بقضاء المجلس الاعلى، عدد 45 ص 11.
3- القضية موضوع القرار بعقار غير محفظ.
4- حسب الله : اصول التشريع، ص 1.
----------------------
بقي ان اشير في الاخير الى ان مثل هذه الاحكام معترف بها حتى من طرف المسطرة المدنية، فقد جاء في الفصل 444 الوارد في القسم التاسع والمعنون بطرق التنفيذ ما يلي: " اذا كان التنفيذ معلقا على تادية يمين او تقديم ضمان من قبل الدائن فلا يبدا - التنفيذ - قبل اثبات القيام بذلك".

ومن صراحة هذا النص نستنتج ان هناك ايمانا لم ينظمها قانون المسطرة المدنية ضمن اجراءات التحقيق ويتعين البحث عن المقتضيات التي تحكمها خارج اطار هذا القانون، وقد استوعبتها المسطرة المدنية فقط فيما يخص تنفيذ الاحكام المتعلقة بها وسلمت بوجودها وبشرعيتها.
وهذا النص ينتصر للراي الذي سبق تحليله واستنتاجه خلاف ما ذهب اليه  المجلس الاعلى في قراره موضوع البحث، فالقانون لا ينظم الا المؤسسات الشرعية والمعترف بها، وهذا الحل هو الاقرب للصواب والله اعلم.

الخاتمة: 
سأختم هذا البحث باحالة القارئ الكريم على صيحة احد قضاة ارض الكنانة د، عبد القادر عودة في كتابه "الاسلام واوضاعنا القانونية" تحت عنوان: " قوانيننا غريبة عنا" واضيف: كفانا تغريبا !  فنرجع الى الشريعة الاسلامية  فهي شريعة سامية لانها ذات مصدر إلاهي، وعامة لانها تخاطب الناس كافة، وخالدة فهي صالحة لكل زمان، فلا غرو ان يكون قضاؤها من ارقى الانظمة: يمتاز ببساطة المسطرة ويختص القاضي فيها باقوى سلطة واكبر استقلالية، فقد اوردت كتب التاريخ ان امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سال احد الاشخاص قائلا: ما فعلت في المسالة الفلانية - سبق لهما ان تحدثا عن نفس المسالة  - فقال الرجل قضى علي وزيد بكذا، قال عمر: لو كنب انا لقضيت بكذا، فقال له الرجل وما يمنعك يا امير المؤمنين ان تقضي بذلك والامر اليك، قال لو كنت اردك الى كتاب الله عز وجل او سنة نبيه (ص) لفعلت ولكن اردك الى رايو الراي مشترك "(23)، وهذا هو مضمون قول الفقهاء لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد.

ولعله في ظل هذا النظام الراقي استغرب بعض القضاة السعوديين اثناء زيارتهم لفرنسا ومحاورتهم للوكيل العام لدى محكمة النقض الفرنسية Adolphe Touffait  في بحر السبعينات، وابدوا استياءهم من نظام النقض الفرنسي وخاصة تلك المقتضيات القانونية التي تخول لمحكمة النقض بعد نقض الحكم ان تحيل القضية على نفس المحكمة 
---------------------
5- هذا المقتضى يطبق بالمغرب كذلك اذا نص عليه الفصل 36 من ق.م.م
---------------------
وتوجه لها امرا باتباع نظرها في النقطة القانونية التي فصلت فيها(24) وقالوا له كيف تفسرون ان محكمة ما يمكنها ان  تستقبل أوامر ؟ وكيف تنفذ تلك الاوامر التي غالبا ما تكون ضد قناعتها ؟، انه لا يمكن التحدث عن استقلال القضاء في بلد تعطى فيه مثل هذه الاوامر(25) ؟

وسأختم هذا البحث بمقتضيات من خطاب جلالة الملك ليوم 21/10/1965 لدى استقباله للجنة تعريب ق.ل.ع اذ قال ( وغير خاف عليكم ان ق.ل.ع كان ولازال يعتبر من احسن القوانين التي وضعت في هذا المضمار الا انه ككل شيء يضعه البشر وككل شيء وضعه البشر في الاستعمار يجب اعادة النظر فيه ويجب أولا طبعه بالروح الإسلامية السمحاء التي يجب ان تهيمن على هذا البلد الامين  … عليكم أولا ان تعربوا القانون وبتعريبه يمكنكم ان تحكموا عليه ثانيا عليكم ان تروا في نصوصه ما هو مطابق لدستورنا الذي ينص على ان الدين الاسلامي هو دين الدولة الرسمي وما هو غير مطابق فاذا وجدتم ما هو غير مطابق فعليكم ان تردوا الى امير المؤمنين وحامي الدين … وأملي ان يبقى دائما هذا البلد الامين في طليعة الدول الإسلامية التي تحيي التراث الاسلامي وتساير روح القرن العشرين …) وعليه فيتعين على القاضي المغربي اذا وجد بخصوص مسالة ما فراغا تقنينيا أي عدم وجود نص قانوني بالمفهوم العصري يحكم تلك المسالة، فعليه ان يرجع الى الشريعة الإسلامية التي كانت في وقت ما مطبقة على جميع مناحي الحياة في هذا البلد، فهي الام والشريعة العامة، وهذا مبدا عام  يحكم الأوضاع التشريعية في المغرب(26).
فقد جاء في قرار للمجلس الاعلى عدد 717 بتاريخ 18/10/1978 ما يلي: " ان النزاع حول أداء ثمن شراء عقار محفظ يطبق عليه ق.ل.ع لان قواعد الفقه لا تطبق على العقارات المحفظة الا في حالة عدم وجود نص في ق.ل.ع" (27).

والدساتير المغربية بدءا بالصادر سنة 1962 ثم 70 ثم 72 ثم 92 (28). كلها تنص على ان دين الدولة الرسمي هو الاسلام. فجميع التشريعات الجاري بها العمل، أي الفصول المقننة يتعين العمل بها وان ما سكت عنه فهو احالة من المشرع على الشريعة الام التي هي الشريعة الإسلامية: هذا اقل ما ينبغي على القاضي المغربي ان يعمله ان لم يرق بعمله الى تطبيق الشريعة حتى عند وجود نص مقنن اذا تعارض معها، وفي ذلك تحكيم لمواد الدستور المغربي الذي يعتبر في قمة الهرم التشريعي والله الموفق.
-------------------
Cours suprême étude comparative page 473. (25)
26-  راجع على سبيل المثال فقط الفصل 16 من ظهير التحفيظ العقاري.
27- منشور بقضاء المجلس الاعلى ، عدد 26 ص 67.
28-  فقد جاء في تصدير الدستور الجاري به العمل حاليا ما يلي :" المملكة المغربية دولة اسلامية …."، كما جاء في الفصل السادس من الباب الاول منه: المعنون بالمبادئ الاساسية ما يلي : " الاسلام دين الدولة …، وورد في الفصل التاسع عشر ان : " الملك امير المؤمنين  …. وهو حامي الدين …، في حين نص الفصل1 على انه : " النظام الملكي للدولة وكذلك النصوص المتعلقة للدين الاسلامي لا يمكن ان تتناولها المراجعة.
-------------------

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 76، ص 27.

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم :