-->

العلاقات بين المجموعة الاقتصادية الاوروبية وبلدان حوض البحر الابيض المتوسط تنقل الاشخاص: الاستيطان والهجرة


بتعاون بين جمعية نقباء فرنسا وهيئة المحامين بباريز، و في  اطار  اللقاءات الدولية لهيئات المحامين الفرنسية، نظمت في الفترة ما بين17و20 نونبر 1993،بستراسبورغ وباريز، ندوة دولية خصص القسم الاول منها لموضوع المحامي باوروبا الوسطى والشرقية، والقسم الثاني لموضوع العلاقات بين المجموعة الاقتصادية الاوروبية وبلدان حوض البحر الابيض المتوسط.

وقد تم توجيه دعوة الى الاستاذ النقيب عبد العزيز بنزاكور للمشاركة في هذه الندوة بتقديم دراسة في اطار الموضوع الثاني تحت عنوان تنقل الاشخاص :
الاستيطان والهجرة.

وقد جاءت هذه الدراسة متسمة بكامل الوضوح والصراحة، فتضمنت في قسمها الاول،  استعراضا وجيزا للتطور التاريخي للهجرة وما جلبته من  منافع لبلدان السوق الاوروبية المشتركة، كما تناولت، في قسمها الثاني، بحثا موضوعيا  للاشكاليات المطروحة من حيث حقوق الانسان والمعاهدات  الدولية والاوروبية ، قبل لفت نظر جميع الجهات المعنية الى ضرورة معالجة الوضع المعقد بكامل ما يلزم من مسؤولية وشفافية.

ولقد تضمن العدد السابق من مجلتنا نص هذه الدراسة، كما تم عرضها بالفرنسية.
وتعميمها للفائدة، يطيب لنا ان ننشر في  العدد الحالي تعريبا تاما لها على يد الاستاذ محمد الرمال، مشكورا.

اللقاءات الدولية لهيئات المحامين الفرنسية
(ستراسبورغ / باريس، ايام 17، 18، 19، 20 نوفمبر 1993)

العلاقات بين  المجموعة الاقتصادية الاوروبية
وبلدان حوض البحر الابيض  المتوسط

تنقل الاشخاص: الاستيطان والهجرة
عبد العزيز بنزاكور 
نقيب سابق 
لهيئة المحامين بالدار البيضاء
سيداتي، سادتي، 
زملائي الاعزاء،
ان الشرف الذي احظى به اليوم بتناولي الكلمة، امام حضور متميز في مقام ذائع الصيت، وبمناسبة عظمى الا وهي حفل الدخول الرسمي لهيئة المحامين بباريس، لهو تكريم ادين به للنقيب الجليل لهيئة المحامين الكبرى هذه، الاستاذ جورج فليشو.

ان هذا الشرف لا يساوي بالنسبة لي سوى مشاعر التقدير والصداقة العميقة التي اكنها له وللسادة النقباء السابقين، واعضاء مجلس هيئة المحامين الحاليين منهم والقدامى الذين سرني ان اربط واياهم، خصوصا طيلة الاثنتي عشرة سنة الاخيرة، علاقات شخصية.
فليتفضل السيد النقيب فليشو بقبول احر تشكراتي على ان اتاح لي فرصة تجديد اللقاء به وكذا بالعديد من الزملاء والاصدقاء الاوفياء.
وليسمح لي ايضا بتهنئة على المراسيم الزاهية التي نظمت بمناسبة الدخول الرسمي الذي تراسه.
كما اتقدم بتهانئي الى السيد النقيب فرانسوا فينيانكور رئيس ندوة نقباء فرنسا وما وراء البحار والى الاستاذ سيدريك لوتزسورغ نقيب هيئة المحامين  بستواسبورغ، على مساهمتهما في تنظيم هذه اللقاءات الدولية الممتازة لهيئات المحامين الفرنسية حول المواضيع المهمة والمفيدة التي وقع اختيارها ولم يتيسر لي، مع الاسف، تتبع القسم الاول من اشغالها.

ان اختيار مثل هذه المواضيع في مثل هذه الظروف يؤكد الروح الحقيقية للزمالة والتضامن الانساني التي حركت دائما المحامين الفرنسيين ومنظماتهم المهنية، وبالتالي الدور المتميز الذي لعبوه باستمرار عبر انحاء العالم من الشرق الى الجنوب، ومن الغرب الى الشمال، دفاعا عن الحقوق والحريات.

ملاحظات تمهيدية 
1- أما بالنسبة لي - وستكون هذه، سيدي النقيب، اولى بعض ملاحظاتي التمهيدية- فقد لا أفي بواجبات الزمالة والصداقة، اذا لم اعترف منذ الان، بعدم استطاعتي، في هذه الظروف بالخصوص، الجواب على ما قد تنتظرونه من مساهمتي في الاشغال الراهنة.
بما انني لا اعرف  في الحقيقة، سواء شخصيا او مهنيا، عن حركات الهجرة والاستيطان ما فيه الكفاية، باستثناء بعض عناصر القراءات العامة او اخبار عبر وسائل الاعلام، اطلعت عليها في بلادي او اثناء بعض الاسفار التي قمت بها الى اوروبا واغلبها الى فرنسا، فلا احس قط بالقدرة على معالجة، كما يجب، موضوع مثل موضوع تنقل الاشخاص وعلاقته بالهجرة والاستيطان ويكون داخلا في اطار العلاقات بين المجموعة الاقتصادية الاوروبية ودول حوض البحر الابيض المتوسط .

2- ان الطرح هكذا لمشكل تنقل الاشخاص ما بين ضفتي البحر الابيض المتوسط يعني ان الامر يتعلق في الواقع وفي ان واحد بمظاهر اقتصادية ومالية وديموغرافية واجتماعية وثقافية وحضارية ودينية وسياسية، وهي مظاهر مختلفة ووثيقة التداخل فيما بينها قبل ان يكسوها هذا الغطاء القانوني او ذاك.
انه اذن مشكل جد واسع وجد معقد، وغير مستقر ايضا، ليتأتى لغير الاخصائي تطويقه فعليا، بل مجرد التطرق اليه بعد اعداد في مدة قصيرة دون التوفر على مرجعية  كافية مناسبة ولا على معالم مضبوطة وموافقة للمستجدات الحالية .

لذا، واعتمادا مني على تسامح  الجميع، عمدت ببساطة وبالاساس الى تقديم لمحة تاريخية، في مقدمة النقاش- الذي سوف يغنيه بكل تاكيد الاساتذة البارزون والمسؤولون السامون في المجموعة الاقتصادية الاوروبية، الحاضرون هنا- مع اعتقادي انها لمحة ضرورية لفهم ما بعدها، ثم ياتي بحث الاشكالية بالذات، قبل استخلاص بعض الاستنتاجات .

3- لقد بدا لي ان مداخلتي لن يكون لها قسط يسير من الفائدة في  اطار الموضوع المحدد الا اذا اشتملت على معاينات وتأملات حول المشاكل العامة للهجرة والاستيطان دون حصر تلك المعاينات والتأملات على الخصوص في مسالة حرية او عدم حرية التنقل في حد ذاتها.
هذا، وسأحاول،  بالطبع، ان ابقى اكثر من يمكن في اطار الموضوعية وان احتفظ باقل ما يمكن من الحساسية، اذ ستتفقون معي على ان الموضوع من شانه، بداهة، ان يتاثر بكثير من الذاتية.

4- من المعلوم انه،  قبل تاسيس المجموعة الاقتصادية الاوروبية وحتى بعد ذلك بكثير، عرفت بعض البلدان التي انخرطت فيها منذ البداية او اصبحت من بعد اعضاء فيها، وهي اساسا دول جنوب اوروبا ( كايطاليا او اسبانيا )، حركات هجرة نحو بلدان تقع في شمالها ( كفرنسا والمانيا الاتحادية سابقا).
فاذا  كانت هذه الحركات قد توقفت او على  الاقل اصبحت جد بطيئة، فان حركات الهجرة من البلدان الواقعة اكثر جنوبا، أي تلك الواقعة جنوب الحوض المتوسطي وخاصة في جزئه المتاخم لاوروبا الغربية، افريقيا الشمالية، قد استمرت هي نحو كافة بلدان المجموعة الاقتصادية الاوروبية الحالية، بل انها قد تزايدت نظرا على الخصوص لاتساع رقعة الهجرة.
ففي  المجال الجغرافي اذن، ان عملية الهجرة / الاستيطان، انطلاقا  من البلدان المغاربية هي التي ينبغي ان تستاثر هنا اكثر باهتمامنا، خاصة وانها كانت ولا زالت تبدو اكثر كثافة.

5- حسب كيفية صياغته، كان بالامكان ان ينصب الموضوع ايضا على حركات الهجرة انطلاقا من بلدان المجموعة الاقتصادية الحالية نحو البلدان المغاربية.
لكن، لم يبق الامر يتعلق سوى بمسألة تكاد تكون ذات فائدة تاريخية محضة، لان حركات الهجرة تلك، مع صرف النظر عن المشاكل التي احدثتها هنا وهناك، كانت في حجمها الاهم،  تعود الى مرحلة ولت منذ ما يزيد على الثلاثين سنة.
الا انه ينبغي ان نضيف ان حركات الهجرة شمال - جنوب لها حاليا مزية عدم طرح صعوبات كبيرة، بصفة عامة، لا بالنسبة لحرية التنقل ولا بخصوص الاقامة.

وبالعكس من ذلك- وسيكون هذا  هو موضوع هذه المداخلة الاساسي - يمكننا من الان الاشارة الى ان عدم التوازنات المقترنة بالاحتلال الاستعماري السابق، مضافة الى بعض المصاعب التي عرفتها اوروبا بعد ذلك، قد طبعت بتاثيرها البين وعواقبها الهامة حركات الهجرة في الاتجاه المعاكس.
فلنلق اذن، في البداية، لو سمحتم ، نظرة على تاريخ تلك الحركات.

القسم الاول
نظرة تاريخية
من الاكيد ان ظاهرة الهجرة المرتبطة، في مرحلة اولى، بالاستعمار، على الاقل بالنسبة لفرنسا، التي كانت تمارس سلطتها انذاك على اكبر جزء في إفريقيا الشمالية، ستعرف مرحلة ثانية ابتدأت مع عهد الاعتراف باستقلال المغرب، وتونس والجزائر، من أواسط الخمسينات الى بداية الستينات ( علما بان ليبيا غير معنية، اذ هي نفسها تشكل مهجرا ) وانتهت في أواسط السبعينات.

أ‌- المرحلة الاستعمارية:
ولو ان بعض حركات الهجرة تمت من قبل، خاصة انطلاقا من المغرب نحو انجلترا في أواسط القرن التاسع عشر، فانه تحت الاستعمار الفرنسي خاصة ابتدأت الهجرة المغاربية بكيفية  جدية.
وبطبيعة الحال كان على الهجرة ان تلبي حاجيات الدولة المستعمرة، حسب الظروف. ولقد ترجمت مختلف الاوضاع الاقتصادية والعسكرية التقلبات التي طرات على الهجرة تصاعديا وتنازليا، والتي واكبتها بالتالي تقنينات متتالية سواء في اتجاه تشجيع المغادرات او الحد منها، ان لم يكن ايقافها.

فبخصوص المغرب، وابتداء من 1912، سنة عقد الحماية، تم جلب منجمين من طرف (( مناجم الشمال وبادي كاليه )). وابتداء من سنة 1916 احدثت بفرنسا (( مصلحة لعمال المستعمرات )) قصد استيراد، بكيفية كبيرة، اليد العاملة التي سوف تصادر للعمل داخل معامل الدفاع الوطني وفي جبهة القتال. ما يزيد  على 130,00 شمال افريقي تم  ادخالهم هكذا الى فرنسا اثناء فترة الحرب العالمية الاولى دون احتساب المجندين ومن بينهم حوالي 40.000 قدموا من المغرب.

وغداة انتهاء الحرب انخفض عدد المهاجرين حيث لم يبق منهم سوى 3000 مغربي. وابتداء من سنة 1920، حدث تصاعد مهم، لكنه سيوقف في سنة 1952، بالنسبة للمغاربة على الخصوص، وذلك بسبب الحاجيات التي تطلبتها حرب الريف.
وبتدخل من ارباب العمل الفرنسيين بالمغرب الذين كانوا يشكون من تقليص اليد العاملة وغلائها تم اصدار قرارا بمنع أية هجرة من 1928  الى غاية 1931.
الا انه في سنة 1932، ومن جراء الازمة العالمية الكبرى، تم اجلاء مهاجري شمال افريقيا بكيفية جماعية (مع الاجانب الاخرين من جهة اخر ى) الى بلدانهم الاصلية.

وجاءت الحرب العالمية الثانية لتكون فرصة جديد ة لطلب العمال من شمال افريقيا بكثافة. وبانتهاء  الحرب احدث المكتب الوطني للهجرة ( الذي اصبح منذ 1988 يطلق عليه اسم مكتب  الهجرة الدولية).
ان الامر الصادر بتاريخ 2 نونبر1945، الذي بموجبه انشئ هذا المكتب والذي يشكل، على ما يبدو، ولغاية الان، النص الاساسي (( لشروط دخول الاجانب واقامتهم بفرنسا )) يوضح ان المكتب مكلف (( بالتشغيل من  طرف فرنسا وبادخال المهاجرين الاجانب اليها )).

ان احداث المكتب المذكور كان يعبر عن ارادة السلطات العمومية المزدوجة بسحب احتكار التشغيل من ارباب العمل، وبضمان تواجد اليد العاملة الاجنبية،  باعتباره ضروريا.
ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الهجرة من شمال افريقيا عن التزايد.

ب‌- مرحلة ما بعد الاعلان عن الاستقلال:
ستعرف هذه المرحلة وجها للتطور الكمي، ثم وجها للتطور الكيفي، الذي نتج عنه، هو  نفسه، نمو كمي.
1) التطور الكمي الى غاية 1974:
بتضخم حركة الهجرة لتلبية الحاجيات الاقتصادية للدولة المستعمرة سابقا، اضطرت البلدان المغاربية بعد الاعلان عن استقلالها، الى التوقيع على اتفاقيات مع فرنسا، تنص على ترتيبات التشغيل.
هذا، وقد اصبحت بلدان اوروبية اخرى، راغبة في طلب هجرة اليد العاملة الاجنبية نحوها وهكذا فقد تم التوقيع على اتفاقيات مماثلة. فالمغرب مثلا ابرمها على الخصوص مع الجمهورية الاتحادية الالمانية سابقا ومع بلجيكا، اضافة الى فرنسا ابتداء من سنة 1963.
كان التشغيل يتم، بالاساس، في  قطاعات المعادن والحديد والبناء والاشغال العمومية والفلاحية.

فاصبحت الهجرة انذاك مرغوبا فيها كثيرا بقدر ما كانت، حسب تصريح الوزير الاول امام الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1963، تسمح بخلق نوع من الانفراج في سوق (( سوق الشغل وبمقاومة الضغط الاجتماعي)).
وقد ادى الامر بوزير فرنسي للشغل الى حد الكتابة في اعمدة جريدة مالية ( الصدى)  ( ليزيكو) الصادرة بتاريخ 29 مارس1966 بان " الهجرة السرية نفسها ليست غير نافعة  لاننا اذا اعتمدنا تنفيذ القوانين والاتفاقات الدولية تنفيذا حرفيا فان اليد العاملة قد تعوزنا".

وفي نفس السياق تم اعداد تقرير وزاري مشترك قدم لبرلمان دول البينيلوكس في 14 يناير1970.
مؤكدا من جهة : " بان تواجد العمال يقلص بكيفية محسوسة من التوتر في سوق العمل، بل ان الازمة الاقتصادية لا تؤثر على الحاجيات الى اليد العاملة الاجنبية، كما اظهرت تجربة السنوات الاخيرة ذلك".
ومن جهة اخرى: واصفا الهجرة " العفوية"  بانها ذات فائدة خلال فترات التوتر في سوق العمل.

ان الحاجة قد تكاد تدعو الى الملاحظة بان  هذه الهجرة " العفوية" نفسها سوف تنعت، في فترات اخرى "بغير نظامية" او " بهمجية" او " بسرية".
ومهما يكن من امر، فان الهجرة الرسمية نحو البلدان القديمة للمجموعة الاقتصادية الاوروبية ستستمر بكثافة اكثر لتصل بصفة اجمالية الى اوجها، بالنسبة للمغرب على الاقل ( بعد امتداد بين الى انجلترا وهولندا) في بداية السبعينات. لكن سيتم توقيفها سنة 1974 على اثر  الازمة الاقتصادية انذاك باستثناء ما يتعلق بفرنسا على الاقل، التي استمرت في تشغيل عمال المعادن بالاضافة الى عمال موسميين في القطاع الفلاحي.
غير ان الاستيطان وصل الى درجة ان ظاهرة التجمع العائلي اصبحت بديلا عن هجرة الافراد على مستوى كافة البلدان المعنية.

2) التطور كما وكيفا منذ 1974:
ان ظاهرة التجمع العائلي  واكبها بكيفية طبيعية بروز النساء والشباب في صفوف المهاجرين الذين كادوا يكونون من قبل رجالا فقط .
وقد نتج عن بروز النساء ارتفاع  عدد اليد العاملة النشيطة لان النساء، اللواتي أتين في البداية كزوجات، قد اندمجن في قطاعات النشاطات المحتفظ بها اكثر للعنصر النسوي نظرا لطبيعتها الخاصة.

وفي فرنسا على الخصوص، حيث طبقت منذ 1974 مسطرة " القبول في العمل" بالنسبة للاجانب الذين سويت قضية اقامتهم،  وشملت اطفال المستوطنين، فان هذه المسطرة ساهمت بدورها في ارتفاع عدد اليد العاملة النشيطة.
وبصفة اعم استمر العمال المستوطنون في الاشغال اساسا داخل القطاعات التي كان من الضروري تشغيلهم فيها كقطاع البناء  والاشغال العمومية والفلاحية وبعض الصناعات.
الا ان تغييرات نوعية بدات تتاكد اكثر، على اثر التجمعات العائلية، لتعطي وجها جديدا لواقع الهجرة.

هذا، وفيما يتعلق باسبانيا وايطاليا خاصة - اللتين لم تشرعا بكيفية حقيقية في استقبال المهاجرين  الا منذ حوالي عشر سنوات ( بعد ما كانتا تشكلان بلدين تقع الهجرة منهما ).
تجدر الاشارة الى ان تقنين " الهجرة السرية"، التي شجعها المهتمون بالاقتصاد " الخفي"  او " غير الصريح" لم يقع  اجراؤه  الا منذ بضع سنين.
لكن ظروف العمل والسكن التي يعيشها مجموع المهاجرين غير مرضية تماما، دون الحديث عن الضمانات الاجتماعية المحدودة جدا، وتلك حالة لا يظهر انها جاهزة لتحسن حقيقي.

 واخيرا، وعلى صعيد التقدير الكمي الحالي، فان الجالية المغاربية الاصل - بمجموع عناصرها واعتبارا للتسويات المنجزة - في جميع بلدان المجموعة الاقتصادية الاوروبية قد يبلغ تعدادها ما بين ثلاثة ملايين وثلاثة ملايين ونصف مليون من الاشخاص، اغلبهم في فرنسا لاسباب بديهية .

*  *   *
سادتي النقباء، سيداتي وسادتي،
زملائي الاعزاء.
هذه لوحة تاريخية مرسومة في اسرع وقت ممكن، بشان الهجرة / الاستيطان من البلدان المغاربية نحو بلدان المجموعة الاقتصادية الاوربية الى غاية اخر تطورها.
ينبغي الان التطرق الى بعض مظاهر اشكالية الوضعية.

القسم الثاني
مظاهر الإشكالية
 ان من وراء الدراسة القانونية الصرفة للنصوص المنظمة لشروط الدخول والاقامة في بلدان المجموعة الاقتصادية الاوروبية، هذه  الدراسة التي باستطاعة الزملاء الاوروبيين، اكثرمن سواهم ، إنجازها  وان  اقتضى الحال تسليط اضوائها على المناقشات التي ينبغي - لتكون حسب رايي ذات فائدة للمدافعين عن حقوق الانسان،  بشمولية هذه الحقوق وتنوعها - ان  تتصدى لعمق المشاكل ولمبررات النصوص المعنية واسسها، تلك النصوص التي ليست في نهاية المطاف سوى عارضة وكاشفة لبعض المواقف التي ينبغي ان تكون ظرفية  اكثر منها استراتيجية .

اننا رجال قانون، لكننا ايضا وقبل كل شيء، مواطنون لضفتي البحر  الابيض المتوسط، تجمع بيننا الجغرافيا، ويجمع بيننا التاريخ، وتربط بيننا روابط حضارية وروابط تضامن انساني وتعاون حتمي.
فنحن جميعا تستوجبنا المشاكل المطروحة، على مهاجري البعض ومستوطني البعض الاخر.
ولا ينبغي لنا ان ننسى بان جميع هذه المشاكل - الانسانية بالاساس - تشكل في ذات الوقت ارثا، بما له وما عليه، من العلائق القديمة، كما تشكل ضمانة لعلاقات مستقبلية لم تتضح معالمها بعد، لكنها مع ذلك ينبغي ان تكون واعدة بالنسبة للجميع.

فماذا نشاهد منذ بضعة اعوام ؟ وما هي المقاربات التي اجريت بخصوص المشاكل المطروحة والتي لسوء الحظ سيستمر ثقلها اذا لم يقع البحث عن حلول حقيقية، ليس فقط من جانب أوروبا بل ايضا، وفي ذات الوقت، من الجانب المغاربي ؟
وفي الواقع يظهر لي بالخصوص ، والحالة على ما هي عليه، بما تحبل به من مؤثرات ذات الطابع التاريخي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والانسانية عموما، ان بعض الرؤى نفسها للمقاربة هي التي تشكل اغلب الصعوبات والتعقيدات.
وفي هذا المجال لنا من وجهة منظور مغاربي، ومن وجهة اخرى منظور اوروبي.

أ‌- المنظور المغاربي:
1- ينبغي الاقرار فورا والتذكير بان هذا المنظور يقم على السهولة بالاساس وهو في الغالب نفعي ومالي.
ان الهدف الجوهري الذي كانت تتوخاه البلدان الاصلية هو حصر المشاكل الاجتماعية المتعلقة بالتشغيل بقبول تصدير اليد العاملة، فضلا عن الحصول على العملة الاجنبية.
يظهر ان هذه البلدان تكاد تتصرف بالاساس كمتفرجة، بل اكثر من ذلك كمشاهدة بمقابل، واذا صح التعبير بمقابل مضاعف مرتين، لانها من جهة تتخلص من مختلف تكاليف جزء ولو ضئيل من مواطنيها، ومن جهة اخرى تستفيد من تحويل قسط لا يستهان به من مواردها الى الوطن.

2- صحيح، ان هذا المنظور لم يكن اولا سوى انعكاس لا إرادي للماضي، لكن الغيبة او النقص في الرؤيا الى المستقبل وفي الجهود الحقيقية لاعادة التكيف، كل ذلك ادى فيما بعد الى خلق حالات بنيوية يصعب تجاوزها.
ان الابعاد الاجتماعية والثقافية التي اهملت - في الواقع على - الاقل  - رغم الاتفاقات المبرمة مع المجموعة الاقتصادية الاوربية منذ 1976، لم تزد الا تضخما وتعقيدا مع جميع انعكاساتها الخطيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي.

3- ومن جهة اخرى، يظهر ان البلدان المغاربية لم تقم باعداد سياسة حقيقية لتوفير الرجوع النهائي لمن كان يرغب او سوف يرغب من جالياتها في العودة الى ارض الوطن .
4- صحيح ايضا، فيما يرجع الى المغرب مثلا، ان  هذا البلد ما زال يتحمل الاثار السيئة في المجال الاجتماعي لسياسة التقويم الهيكلي التي حددتها المؤسسات المالية الدولية، لكن هل ينبغي له ان ينقاد لتاخير موعد تحمل بعض المشاكل التي كانت مشاكل خاصة به قبل ان يقتسمها مع الاخرين ؟
5- ان انتساب بلدان جنوب البحر الابيض المتوسط الغربي، لمجموعة رسمية ومهيكلة، الا وهي اتحاد المغرب العربي، كان قمينا، على الاقل،  بتشجيع مقاربة شمولية للحلول المتعلقة بالمشاكل المشتركة لجاليتها المهاجرة في اطار حوارات صريحة بين " الخمسة زائد خمسة" وبين " الخمسة زائد اثنا عشر". لكن رغم بعض التصريحات المبدئية السابقة، فان الفتور الذي يميز منذ مدة خلت  اتحاد المغرب العربي، أي الشركاء الخمسة الجنوبيين، بسبب المشاكل الظرفية الداخلية والخارجية، لهو فتور ليس من شانه لسوء الحظ تسهيل الامور.
ومهما يكن من وامر، فهل من شان المنظور الاوروبي،  الراجح حاليا، ان يجعل تلك المشاكل اقل تعقيدا؟

ب‌- المنظور الاوروبي :
هذا المنظور الذي ليس اقل تمحورا في البداية كنظيره المغاربي، على اعتبارات ظرفية ونفعية كانت نتائجها، طيلة فترات طويلة ومفيدة بالتاكيد بالنسبة  للبلدان الاوروبية المعنية، اصيب لسوء الحظ منذ بضعة اعوام بانحرافات غير قائمة على اساس بقدر ما هي غير ملائمة، ويتناقض استمرارها بكيفية صارخة مع القيم العليا التي تعلنها المجموعة الدولية، مع ان نصيب المساهمة الاوروبية فيها كان، ولا يزال، اساسيا.
ان هذا المنظور قد انتجه السواد الاعظم من الراي العام الاوروبي، وهوعمليا مكرس على المستوى المؤسساتي.

1) على مستوى الراي العام :
من الثابت ولاسباب تتعلق خاصة بالتاريخ الاستعماري، ان المغاربيين باوروبا ينظر اليهم عموما بمنظار يعكس خلافات قديمة تترتب عنها تصورات سلبية.
ولاسباب اخرى تتصل بالتجاهل، وبالاحكام المسبقة، وانعدام الفهم في المجال الثقافي والديني، او تتصل بالاختلافات القائمة بين طرق الحياة او ترتبط ايضا بالفوارق بين مستويات التنمية الاقتصادية، يبدو ان ذلك المنظور يتشكل من كلام معاد، وتفاهات منقصة مختفية في الشعور الباطن الجماعي لدى فئات واسعة من الساكنة الاوروبية،  ويطفو ذلك كله اثناء حدوث ازمات او تصدعات اجتماعية، وذلك على شكل افكار اذا لم تكن، للاسف و غالبا، على شكل افعال عدائية تتسم بكراهية الاجانب او بالعنصرية، تؤدي احيانا حتى الى التصفية الجسدية.
فمنظور مثل هذا محمل بشحنة قوية من الانفعال والعاطفة غير ملائم بما فيه الكافية للهدوء الضروري لحل المشاكل العويصة المطروحة، كما انه بالطبع مناسب للاستغلال الانتخابي السهل مما يساعد اكثر على حجب الحلول الحقيقية.       
وبعد ان كانت الهجرة المغاربية مطلوبة ومقبولة، بجميع خاصياتها، عند ما كانت بلدان المجموعة الاقتصادية الاوروبية تستورد اليد العاملة لسد حاجياتها ( لدرجة فتح مكاتب التشغيل مباشرة على تراب البلدان المصدرة الى غاية أواسط السبعينات) فعلى اثر حدوث الازمة في اوروبا، اصبحت تلك الهجرة ملفوظة وتعتبر بمثابة تهديد ضد الانسجام الداخلي وخطرا على النظام العام وحتى على " الهوية الوطنية" للبلد المضيف.

والإسلام، نفسه، الذي يميز على الصعيد الديني المجموعة المغاربية،  ينعت بالوحشية والشيطنة، ولا تذكر قط مميزاته الاساسية المتمثلة في الفضيلة والسلام والتسامح، بل يقع الاكتفاء بالاشارة الى اعمال العنف المقترفة في اماكن اخرى من لدن حركات متشددة - مما حدث ويحدث وسيحدث في ديانات اخرى - والتي تعتبر تصرفاتها الحالية، المشجوبة مطلقا، ناتجة بالاساس عن صعوبات اقتصادية واجتماعية ضخمة طغت في بعض المناطق، وهي تصرفات على  الاقل تغذيها وتؤججها مثل تلك الصعوبات لتنتهي حتما الى صراعات سياسية .   

لكن، من البديهي انه لا ينبغي ان يكون، باي حال من الاحوال لمثل تلك التصرفات - التي يعد الاسلام اجنبيا تماما عنها ولا يمكن الا ان يكون كذلك - أي تاثير على البلدان المعنية وبالاحرى على مواطنيها بالخارج، مما يبرر دون ما شك كل الاجراءات القانونية الملائمة.
غير انه ليس من شان ذلك ان يبرر القيام بمقارنات متسرعة او عمليات خلط  في غير محلها تنطوي على تصورات جنائية واضحة ينتج عنها انسياق الى الهاجس الامني الصرف.
* * *
2) على المستوى المؤسساتي:
1- هكذا نلاحظ في  النص ذاته لـ "معاهدة ماستريخت" الموقع عليها بتاريخ 7 فبراير1992، ومنذ الفصل الاول " ك" من الباب 6 المخصص لـ " مقتضيات التعاون في ميدان القضاء والشؤون الداخلية" ان الدول الاعضاء في الا تحاد الاوروبي تعتبر سياسة الاستيطان من احدى القضايا ذات المصلحة المشتركة مثلما هو الحال بالنسبة لسياسة اللجوء وقواعد اجتياز الحدود الخارجية، ومكافحة تعاطي المخدرات، ومحاربة الغش ذي البعد العالمي، والتعاون القضائي، والتعاون الجمركي، والتعاون البوليسي قصد الوقاية من الارهاب ومكافحته، والاتجار المحظور في المخدرات، واشكال خطيرة اخرى من الاجرام الدولي.
2- حقا ان " اتفاقات شينكين" المبرمة سنتي 1985 و1990 بين اغلب بلدان المجموعة الاقتصادية الاروبية تحت عنوان " اتفاقية حول مراقبة حرية التنقل والهجرة والاجرام" قد سبق لها ان دلت، ان صح القول، على الطريق كما لو كانت اعمال الاجرام المقترفة في مختلف البلدان المعنية، عمليا من فعل المستوطنين بصفتهم هذه.

وبمقتضى تلك الاتفاقات التي أرجئ  تطبيقها مؤخرا، كما تعلمون، الى فاتح فبراير1994، لا يجوز للمهاجرين المغاربيين المقيمين باحد البلدان التسعة التي وقعت لحد الان على الاتفاقات المذكورة، لا ان ينتقلوا و لا  ان يقيموا بحرية في أي من البلدان الاخرى،  وحتى ليقيموا فيها مؤقتا، يتعين عليهم التوفر على بعض الشروط وهي، فضلا عن ان يكونوا في وضعية قانونية بالنسبة للتشريع المتعلق بالهجرة المطبق في بلد الاقامة الاعتيادي، وان لا يكونوا مسجلين كاشخاص غير مرغوب فيهم في نظام التبادل المعلوماتي للشرطة الاوروبية، ان  يدلوا بالوثائق التي تبرر اسباب التنقل او الاقامة والكل، في حالة رفض المهاجر التعاون مع المصالح المختصة مثلا، تحت طائلة ضياع حق الاقامة في البلد المضيف.
أليست تلك المقتضيات متناقضة مع ما تم اقراره  صراحة على مستوى المجموعة الدولية منذ تاريخ 16 دجنبر1966 خاصة في الفصل 12 من العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية؟

ان هذا الفصل، بعدما اشار - وأستسمحكم في التذكير به- الى ان لكل فرد يوجد على نحو قانوني داخل اقليم دولة ما، حق حرية التنقل  فيه حرية اختيار مكان اقامته، وان لكل فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، يضيف بانه لا يجوز تقييد الحقوق المذكورة اعلاه باية قيود غير تلك التي ينص عليها القانون، وتكون ضرورية لحماية الامن القومي او النظام العام او الصحة العامة او الاداب العامة او حقوق الاخرين وحرياتهم، وتكون متمشية مع الحقوق الاخرى المعترف بها في هذا العهد.

وتعلمون ايضا ان " اتفاقات شينكين" تدقق انه في مادة " تنقل الاشخاص، تعمل الاطراف على حذف المراقبات في الحدود المشتركة وتحويلها الى الحدود الخارجية.
ولهذه الغاية ستجد الاطراف في العمل على تنسيق المقتضيات التشريعية والتنظيمية، اذا دعت الحاجة الى ذلك، واتخاذ الاجراءات التكميلية للحفاظ على الامن " ولمواجهة الاستيطان غير الشرعي لرعايا دول غير اعضاء في المجموعات الاوروبية" ( الفصل 17).
وبالتالي، هناك شعور انه قبل انهيار جدار برلين بكثير وحتى بعد ذلك وبعد تدمير الستار الحديدي، انغلقت اوروبا شينكين على نفسها وراء ستار جديد واعتزلت خلف حدودها الخارجية.

3- وبعد احداث التأشيرات التي لم يكن عموما المغاربيون مطالبين بها، عمدت بلدان المجموعة الاقتصادية الاوربية الى تحصين ابواب الولوج حتى الى قنصلياتها منذ بضع سنوات.
صحيح، ان احداث التاشيرات يدخل في نطاق السيادة الكاملة للدول، لكن اجراءا من هذا القبيل، المتخذ دون أي اعتبار حقيقي لا للعلاقات التاريخية والثقافية والحضارية القائمة بين بلدان ضفتي البحر الابيض المتوسط، ودون الاكتراث بالعلائق الانسانية،  سواء منها العائـلية القائمة بين عدد كبير من الرعايا نتيجة التعايش المشترك الذي عمر طويلا او الرابط الفردية التي نسجت بين معارف واصدقاء وعلاقات اعمال، أقول لهو اجراء جد مجحف بالنسبة لكل تلك الروابط والعلاقات المتينة غالبا، وعلى كل حال فتطبيقه على هذا النحو يتجاوز بكثير الاسباب التي تدعيها بلدان المجموعة الاوروبية.

وبالرغم من عقد هيلسينكي النهائي الموقع منذ 1975 والذي ينص، من بين  ما ينص عليه ضمن بنوده، على تسهيل شروط السفر لاسباب عائلية او سياحية الى اقصى حد، فان شروط تسليم التاشيرات الى المغاربيين، باستثناء بعض الاصناف من الناس مثل رجال الاعمال واعضاء المهن الحرة، لا تطاق في الواقع.
انها شروط ترمي  ببساطة الى الاحباط التام بل تدفع بالعديد ممن يطلبون التاشيرات الى التخلي عنها نهائيا.

واضافة الى ان التاشيرات غالبا ما يكون الاداء واجبا عنها، واحيانا لا ترجع الصوائر رغم رفض طلبها، فهي تمنح بالتقتير او ترفض دون سبب بعدما توفرت لدى طالبها كافة الشروط المفروضة والمبررات المطلوبة. وان طوابير الانتظار اللامتناهية التي تحشد قبل الفجر بكثير وتتبدد بغتة مع بداية النهار امام شبابيك الاستقبال المقامة غالبا خارج المؤسسات المعنية، يعاني منها الافراد،  ويجب ان نقولها، لان تلك هي الحقيقة الصرفة للاسف، كاعمال اهانة ومس بابسط كرامة الانسان .

4- هذا، وان التخوفات المغاربية تزداد شدة كلما جاءت مواقف اخرى لتمس ببعض العناصر الاساسية لشخصية لمستوطنين ذاتها.
هناك بالفعل، وجه مهم اخر للحلول المتوخاة يكمن احيانا وببساطة في اجراء طمس الهوية.
ذلك هو المنظور الذي يبدو مهيمنا تجاه أبناء المستوطنين الذين يندرجون في من يطلق عليهم اسم الجيل الثاني. انها رؤية يشاطرها فعليا بعض المسؤولين على مستوى البلدان الاصلية، وذلك للاسباب المتذرع بها فيما يتعلق بمستوطني الجيل الاول .

اجل، يجب بالتاكيد احترام ارادة هؤلاء وأولئك، اعني الابناء والاباء. لكن حث الشباب من هذا المنطلق، بوسائل اعلامية وغيرها الى العمل على الحصول على جنسية اخرى قصد تحسين احوالهم وبالتالي ارضاء المجرد هوى  النفس، فيه احتقار لهويتهم الحقيقية، ذلك انه على فرض ان الحصول على جنسية اخرى قد يحقق الحل للمشاكل المادية، فهل يشكل ذلك المكسب ضمانة ضد الجرائم المنسوبة حسب لون البشرة او التقاليد الدينية او الثقافية؟

فهل التفكير على هذا النحو لا يؤدي بصاحبه الى انكار جوهر حقوق الانسان ذاته، فيما هو مرتبط بكيان نفسه ارتباطا وثيقا ؟ وهل المناداة بالاندماج والاستيعاب لا تنتهي  الى الرغبة في فرض، في الواقع، طريقة تفكير معينة ومعتقد معين على الغير؟ مما سيؤدي، لا اقل ولا اكثر، الى مجرد نفيه ثقافيا او روحيا.
لكن في واقع الامر، وحتى في حالة تحديد اختيار خال من كل الاحتمالات، فان المشكل سيبقى كاملا او يكاد لكون الحل المتمثل في  الاندماج او الاستيعاب، حسب رايي، قابل لتوليد خسائر نفسية اكثر من  تسوية مشاكل ادارية او قانونية.

وارجو ان نستمع في ختام هذا القسم الثاني والاخير من العرض، الى مقتطف صغير من استجواب لملك المغرب خص به جلالته وفدا من الصحفيين الفرنسيين بتاريخ 26 نوفمبر1985، بخصوص السياسية التي تنهجها البلدان المستقبلة للهجرة تجاه الاجانب المقيمين بها:
" لا يتم القيام باي عمل لجعل الاجانب يحتفظون بثقافتهم وهويتهم، بل رأيناهم " يبتلعون فيطلق على هذا اسم جان وذاك بيير واخر بونوا، لكن ليس لهم نفس لون " البشرة"، وينطقون ببعض الحروف الفرنسية بكيفية مغايرة وعندئذ ينتبه المستمع ثم يقول : " أه نعم لكنك أنت لست فرنسيا"، في حين ان جميع الوسائل قد استعملت لتجرديه من بشرته الحق دون اعطائه البشرة الحقيقية للبلاد التي يتواجد فيها".

خاتمة
سادتي النقباء، سيداتي سادتي، زملائي الاعزاء.
اختم مداخلتي هذه ببعض الاستنتاجات او التساؤلات أسوقها على ضوء كل ما سبق .
1- من الاكيد ان مقاربات الحلول الممكنة لاشكالية الهجرة المغاربية نحو بلدان المجموعة الاقتصادية الاوروبية، يتعين لتكون ناجعة ودائمة، ان تجتنب السطحية عند الاقتضاء او تكون سريعة او مستخفة او سالبة. فهي مقاربات تستدعي حتما الاخذ بعين الاعتبار، بصفة واقعية وفعلية، كافة العوامل المؤثرة وجميع الثوابت الملائمة المتواجدة بطبيعة الحال في هاته الجهة وتلك من البحر الابيض المتوسط.
وبما ان الحالة اصبحت على ما هي عليه، ومن شانها ان تزداد تعقيدا، فاننا معنيون  كليا، ومن ثمة مرتبطون اكثر، وبهذه الصفة نحن مدعوون بإلحاح الى التعاون عن طريق  تأملات مشتركة واعمال منتظمة بالتشاور قصد مواجهة المشاكل المشتركة بأجدى كيفية.

لذا، ينبغي ان تحتل روح التفتح الدرجة الاولى بالنسبة لضوابط الاغلاق.  وعلى اي حال، فعلى تلك الروح ان تطبع بعمق الحوار الواجب فتحه في اقرب وقت ممكن قصد اقامة تشارك جديد وحقيقي يرتكز على تضامن فعلي، اذ ان ذلك، بدون منازع وبصفة دائمة، هو ثمن السلام والاستقرار المرغوب فيهما في كل من ضفتي البحر الابيض المتوسط.

2- ينبغي والحالة هذه، ان تساعد بلدان المجموعة الاقتصادية الاوروبية بعزم على مكافحة لا الاستيطان، بل  "الهجرة السرية"، وذلك بكيفية مغايرة لما هو معمول به في الحدود المغاربية من اجراءات ادارية وبوليسية -  مما لم يحل دون حدوث مغامرات مأساوية " لمراكب الموت" ببوغاز جبل طارق - لكن بطريقة تعتمد دعما احسن لاقتصاد الدول المغاربية في اطار هيئات المجموعة الاقتصادية الاوروبية وبمساهمة فعالة في الاستثمارات الضرورية، لا سيما في البلدان  التي ينمو فيها اكثر فاكثر مجال هذه الاستثمارات تبعا لاجراءات تشجيعية جديدة وعمليات خوصصة واسعة.

هذا، وانه لا حاجة الى الاضافة انه لا ينبغي، باي حال من الاحوال، ان تحل المساعدة الاوروبية محل اعمال ومجهودات البلدان المغاربية، التي عليها دائـما ان تعتمد، اولا، على وسائلها الخاصة وعلى تنمية مؤهلاتها.
3- كما ينبغي السهر على احترام حقوق الانسان احتراما صارما وفعليا، ذلك ان المغاربيين يرغبون في الاحتفاظ بفكرة النموذج الذي كان ولا زال راسخا في ذهنهم اتجاه بلدان المجموعة الاقتصادية والاروبية علما بان حقوق الانسان هي مبدئيا غير قابلة للتجزئة وغير انتقائية.

4- لذلك، فان المغاربيين لا يمكنهم ان يفهموا أي ابتعاد كيفما كان عن الاتفاقيات الدولية او الاوروبية التي وقعت عليها تلك البلدان، كما لا يسعهم ان يفهموا لماذا لم  تصادق هذه البلدان بعد، حسبما يظهر، على الاتفاقية الدولية المتعلقة بحماية كافة العمال المهاجرين وأسرهم، التي صادقت عليها الجمعية العمومية لمنظمة الامم المتحدة منذ تاريخ 29 دجنبر1990.
وعلى أي حال، فانهم لا يدركون الى حد الان لماذا لم يطبق الباب المخصص للجانب الاجتماعي من اتفاقات التعاون بين  البلدان المغاربية والمجموعة الاقتصادية الاوروبية نفسها التي يعود تاريخها اليوم الى ازيد من 16 عاما؟ 

5- وبالفعل، ففي راى معرب عنه بتاريخ 12 يوليوز1989 حول السياسة المتوسطية للمجموعة الاقتصادية الاوروبية وبشان الضمانات ضد الميز الحاصل في شروط العمل والاجور والضمان الاجتماعي للعمال المهاجرين الآتين من بلدان اخرى " ان اللجنة الاقتصادية والاجتماعية التابعة للمجموعات الاوروبية" تتاسف من جديد لكون المجموعة، " بعد مضي ستة عشر عاما على سريان مفعول البروتوكول الاضافي لاتفاق الشراكة مع تركيا، وبعد 12 سنة مرت على اتفاق التعاون مع البلدان المغاربية، لا زالت لم تطبق" الضمانات ضد الميز المنصوص عليها في تلك الاتفاقات.
ان هذا الراي لا يزال، لحد اليوم، صالحا.
مما يبعث اكثر على وضع حد لجميع التأرجحات والعمل لتحريك في اقرب وقت ممكن الاتصالات بين الاطراف في جو من أتم الوضوح وكامل الهدوء.

6- وهكذا نكون قد عملنا، او تابعنا العمل فعليا، على اعطاء الدليل عن التضامن الانساني، نظرا للعديد من المعطيات الجغرافية والتاريخية التي تربط بعضنا ببعض، و للعديد  من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المطروحة علينا جميعا، و نحن على  عتبة القرن الواحد والعشرين.
وهكذا اخيرا، وتجاوز لكل الفوارق والعوارض لن نكون قد نسينا ان مجرد تراكم حقوق، ولو خالية من كل التقنينات المقيدة، لا يمكن ان يحل محل " روح التسامح" التي يتعين ان  تهيمن باستمرار على العقول وتنظم العلاقات بين بني آدم، جميع بني آدم وفي جميع البلدان.
اشكركم جزيلا على انتباهكم
باريس، في 20 نونبر1993
عبد العزيز بنزاكور


* مجلة المحاكم المغربية عدد 70، ص12.         

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : أبحاث قانونية مغربية