-->

التقاعد المهني : نظرة حول الوضع بإفريقيا




تعريب لنص العرض المقدم من طرف لسيد النقيب عبد العزيز بنزاكور خلال المؤتمر 34 للاتحاد الدولي للمحامين، المنعقد بستراسبورغ من 10 الى 14 شتنبر1990، وذلك في إطار تهيئ مشروع الاتحاد الرامي الى إحداث تقاعد عالمي للمحامين .
لكن نكون قد أتينا بشيء جديد اذا ما قمنا بالتذكير بحقيقة عالمية تتعلق بالمحامين. فهم على العموم منشغلون بهموم الآخرين لدرجة لا تترك لهم إمكانية الاهتمام بمصالحهم اليومية، فأحرى مصالحهم المستقبلية.
ان التأخير في إحداث أنظمة للاحتياط او التقاعد، حتى في الأقطار التي توجد بها اقدم هيئات المحامين، يشهد، عند الحاجة، على هذه(العقلية) التي - وان كانت تشرف المهنة - لا ينبغي ان تبقى سائدة .
أفلا يجب ان يوفر حد أدنى من الضمانات الاجتماعية للمحامين، مستقبلا، ليتأتى لهم ان يواجهوا بكيفية افضل التزامات اتجاه الأغيار، حاضرا ؟
وما هو الحال بالنسبة لأفريقيا حيث ان عددا كبيرا جدا من الهيئات لازالت فتية بكل ما في الكلمة من معنى ؟

تنوع الحالات :
إضافة الى ان أغلبيتها حديثة التأسيس، فان الهيئات الإفريقية تتكون في معظمها من محامين لا يزالون في بداية مسارهم المهني .
فحتى لو كان هاجس التقاعد والحاجة اليه اكثر قوة لديها من غيرها من الهيئات لكانت صعوبات إحداثه، على كل حال، اكبر من الناحية المالية .
ان معدلات المداخيل المهنية في مختلف الأقطار الأفريقية لا تسمح قط، لأسباب اقتصادية بديهية، بالتمويل الشخصي، دون سواه، لنظام احتياطي وتقاعدي كاف.
ومع ذلك، إذا كانت هناك اقطاع لازال المجال فيها بكرا تماما، ان صح التعبير ،  فان  مجهودات  تبذل او تواصل هنا و هناك، قصد إرساء او تحسين نظام للتمويل جدير بالاهتمام.

سنحاول استعراض هذه المجهودات، بأكثر ما يمكن من السرعة، حسب عناصر الإفادة التي استطعنا  تجميعها خصيصا في هذا المجال، من اجل تهيئ هذا العرض الوجيز الذي شرفني أخيرا صديقي النقيب هنري بوينير، رئيس لجنة التقاعد والاحتياط للاتحاد الدولي للمحامين، فطلب مني ان أقدمه في إطار هذا المؤتمر .
عوض القيام بوصف شامل وتحليل مفصل لأنظمة التقاعد الجاري بها العمل، سنعمل على التطرق، على سبيل المثال، إلى حالة هاته الهيئة او تلك.

بناء على العناصر التي نتوفر عليها، ومع التحفظ بخصوص التعديلات او الإضافات التي قد تثار خلال المناقشات، فان الحالات المعنية يمكن تجميعها في مجموعتين اثنين دالتين على الوضع بإفريقيا، وهما :
من جهة، هيئات بدون تقاعد،
ومن جهة اخرى، هيئات ذات تقاعد .
غير انه، الى جانب هاتين المجموعتين، يكون من المفيد الإشارة الى الوضع بهيئة المحامين بالسنغال، حيث ان النصوص القانونية، المتعلقة بالمحاسبة المهنية يمكن ان تشكل عمادا ماديا مهما للتقاعد .

أولا : هيئات بدون تقاعد :
إنها الوضعية السائدة في غالبية الأقطار الإفريقية المعنية .
ان النصوص الجاري بها العمل في هذه الاقطار، او على الأقل منها تلك التي تقنن المهنة خصيصا، تشير عموما، بصفة مباشرة او غير مباشرة، الى التقاعد او الاحتياط، لكنها لا تحدد أسسهما.
وهكذا، وفي إطار الصلاحيات المخولة تشريعيا لمجلس الهيأة. يقع الاكتفاء بالإشارة الى ان هذا الأخير مكلف على الخصوص "بإدارة أموال الهيئات وتدبير واستعمال مواردها من اجل ضمان" الإعانات والمنح وغيرها من المنافع المخصصة لأعضائها او لقدمائهم اون لازواجهم الباقين على " قيد الحياة او أولادهم" .

ضمن هذا الصنف يمكن ان نذكر على سبيل المثال، حسب الترتيب الزمني للنصوص التنظيمية الجاري بها العمل حاليا :
بينين: ( الفصل 16، الفقرة 6) من القانون رقم 65/6 بتاريخ 29 ابريل1965 المحدث لهيئة المحامين .
مدغشقر :  ( الفصل 9، الفقرة 5) من القانون رقم 67/024 بتاريخ 23 نوفمبر1967، بشان إعادة تنظيم هيئة المحامين .
الغابون : ( الفصل 18، الفقرة 6) من القانون 1/85 بتاريخ 27 يونيو1955 المحدد لقواعد ممارسة مهنة المحاماة .
موريطانيا : الفصل 15 من الأمر رقم 112.86/ ر ل ع إ و بتاريخ 12 يوليوز1986 المحدث لهيئة وطنية للمحامين .

في أقطار كهذه، يوجد اذن الأساس القانوني لنظام احتياطي وتقاعدي، لكنه لا يزال يفتقد الدعم بوسائل مالية أخرى غير موارد الهيأة ذاتها، والتي ليس من شانها ان تكون كافية طالما ظلت مقتصرة أساسا على الاشتراكات المهنية للأعضاء .
ان الأهمية العددية جد المحدودة لهؤلاء الأعضاء قد تكون سببا في عدم الإحساس بعد بالحاجة، لا لدى المشرع الى التدخل، ولا لدى الهيأة نفسها الى البحث عن موارد مالية أخرى غير الاشتراكات المذكورة .
هذا، ومع الأهمية العددية متوفرة في هيأتها نسبيا، فان هناك بعض الأقطار التي لا تتضمن نصوصها المقننة للمهنة أدنى تلميح إلى التقاعد او الاحتياط .

تلك هي وضعية :
الجزائر : أمر رقم 75/61 بتاريخ 26 شتنبر1975 بشان تنظيم مهنة المحاماة .
الزايير :  الأمر / قانون رقم 028.79 بتاريخ 28 شتنبر1979 بشان تنظيم هياة المدافعين القضائيين ومفوضي الدولة .
ان حالة " التقاعس"، ان صح التعبير، التي توجد عليها هيئات المحامين بهذه الأقطار، لربما ستدفعها بأكثر سرعة من غيرها، نظرا لضغط الحاجيات المستقبلية، إلى إيجاد الحلول الملائمة لمشكلة توفير الضمانات الاجتماعية الضرورية .

ثانيا : هيئات ذات تقاعد :
كمثال على الهيئات الإفريقية التي تتوفر على نظام تقاعدي، سبق إرساؤه وصار نافذا، يمكن الإشارة، حسب الترتيب الزمني للنصوص التنظيمية المعنية، الى تونس وليبيا والمغرب .
هناك ملاحظة رئيسية ومشتركة تفرض نفسها بخصوص هذه الاقطار، كان قد تاتى للمشرع فيها ان يحدد موارد خاصة لتمويل التقاعد المهني حيث ذهب الى تنظيم الإعانات او المنح او غيرها من المنافع لفائدة أعضاء الهيئة او قدمائهم او أزواجهم الباقين على قيد الحياة او أولادهم .

وهكذا :
1- في تونس :
ان قانون 15 مارس 1958 المنظم لمهنة المحاماة، ينص في فصله السابع، كما وقع تعديله بمقتضى قانون 27 ماي1963، على تحصيل، لفائدة صندوق الاحتياط والتقاعد ( المحدث بمقتضى مرسوم بايي يعود تاريخه الى 16 يوليوز1928)، واجب للمرافعة يحدد قدره بمقتضى امر، حسب نفس القواعد المتعلقة بتحصيل واجبات التسجيل، وذلك في جميع القضايا المدنية والتجارية او الجنائية حيث يكون حق شخصي مطالبا به، باستثناء حالة النفقة الغذائية.
2- في ليبيا :
ان قانون 18 غشت 1975 بشان تنظيم مهنة المحاماة، في فصوله 100 الى 131، ينشئ صندوقا لتقاعد المحامين تشمل موارده :
الاشتراكات المؤداة من طرف جميع المحامين حسب أقدميتهم .
نصف واجبات التقييد بالجدول .
نصف واجبات طوابع الدمغة المحصلة من طرف الهيأة ( علما بان هذه الواجبات مستحقة مبدئيا في جميع القضايا التي ينوب فيها المحامون، حسب الفصل 79 من النظام الداخلي للهيئة) .
ساهمة سنوية للمحكومة،
منتوج مطبوعات الهيئة،
التبرعات والهبات والوصايا،
ريع استثمار اموال الصندوق،
نصف الاشتراكات المهنية السنوية بالهيئة،
منتوج غرامات التخلف عن حضور انتخابات الهيئة .

وان كل هذه الموارد، بما فيها ريع استثمار الأموال، معفاة من جميع الضرائب والرسوم، بمقتضى نفس القانون والآنف الذكر .

3- في المغرب :
لقد احدث نص تشريعي، يعود تاريخه الى 17 فبراير1932، واجبات المرافعة، ويقع تحصيلها من طرف صناديق المحاكم على جميع المقالات في الموضوع، في المادتين المدنية والتجارية، ويقع تحويل مقدارها دوريا الى هيئات المحامين من اجل تمويل التقاعد المهني .
لكنه تبين بان المنتوج المحدود جدا لهذه الواجبات ( رغما عن الزيادة في مقدارها) لم يكن، وعلى كل حال لم يعد، يسمح بتشكيل وسيلة كافية لتمويله، أساسا على الأقل .

وبعد مرور مدة طويلة من التفكير والمناقشات، خاصة في صفوف هيئة المحامين المغربية الأكثر أهمية عدديا، وهي هيئة الدار البيضاء، اتخذ  مجلس هذه الهيئة بتاريخ 2 يونيو1983، مبادرة تعديل نظامها الداخلي بالتنصيص، في إطار فصله 52، على انه يجب على المحامي :
" ان يضع المبالغ المودعة في مكتبه في نطاق ممارسته المهنية في حساب عام يتضمن " الحسابات الخاصة بمكتب كل محام، ويفتح الحساب بمؤسسة يختارها مجلس الهيئة" .

فتجميع الأموال الذي يتم إجراؤه على هذا المنوال كان من المقرر طبعا ان يترتب عنه إنتاج فوائد من جانب المؤسسة المالية المختارة، والتي هي صندوق الإيداع والقرض ( الموازي لصندوق الإيداع والودائع بفرنسا)، لاسيما باعتبار الأهداف الاجتماعية المنوطة .

لقد كانت مبادرة مجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء، ترتكز على العبارات العامة للفصل 115، الفقرة 6) من القانون رقم 79.19 بتاريخ 5 يونيو1979 بشان تنظيم هيئات المحامين ومزاولة المهنة، والتي تسمح له ب :
" إنشاء وإدارة مشاريع اجتماعية لفائدة أعضاء الهيئة وإدارة واستعمال موارد الهيئة لضمان الإعانات والمنح وغيرها من المنافع المخصصة لأعضائها او لقدمائهم او لأزواجهم الباقين على قيد الحياة او لأولادهم، كان ذلك ببذل مساعدة مالية مباشرة او بتأسيس صندوق للتقاعد او بالانخراط في صندوق للتقاعد مقبول" .

ولقد كانت هذه المبادرة، المستوحاة من فكرة صناديق الاداءات النقدية للمحامين بفرنسا ( كاربا)، تستهدف بداهة - فضلا عن مزاياها من حيث آداب المهنة - توفير لصندوق تقاعد الهيئة، الموجودة من قبل، موارد اكثر أهمية بكثير من موارده الناجمة عن واجبات  المرافعة وحدها .

ولقد آلت، في النهاية، المناقشات التي أجريت مع الجهات المختصة، والاتفاقيات التي أبرمت مع الأطراف المعنية، الى الإرساء الفعلي للنظام منذ يوم 2 دجنبر1985 .
وبعد ذلك، مكنت الدراسات الاجتماعية المهنية، والمالية والتقنية من تحديد ما يمكن اعتماده من أسس لاحتساب مختلف عائدات التقاعد والاحتياطات، باعتبار المتطلبات الضرورية للتضامن والنتائج على الصعيد الشخصي لمساهمة كل فرد بكيفية أساسية او تكميلية .
ولقد شجعت الصبغة الواعدة لهذه التجربة، التي لا تزال متواصلة، أغلبية باقي هيئات المحامين المغربية على الشروع في تبنيها منذ سنة 1986 .

***
كما سبق الإعلان عنه أعلاه، تجدر الإشارة أخيرا الى الوضع بالسنغال.
فعلا، ومع التحفظ بالنسبة لتجربة هيئات المحامين المغربية، التي تستند الى مقتضيات نظامية داخلية أساسا، وليس مقتضيات تشريعية صريحة، يبدو بان السنغال يكون هو البلد الإفريقي الوحيد الذي اخذ تشريعيا بنظام "الكاربا"، وذلك كما يتبين على الخصوص من الفصول 59 و60 الى 68 من القانون رقم 09.48 بتاريخ 4 يناير1984 بشان إحداث هيئة المحامين، علما ان الفصول المذكورة تندرج ضمن الباب السابع المعنون "الاداءات النقدية والمحاسبة" .

لكن، حسب ما علمنا، لا النظام الداخلي لهيئة المحامين بالسنغال المؤرخ في 31 اكتوبر1984، ولا اي نص اخر غيره يكون منشورا، يشيران، على الحالة، الى تجميع الأموال المودعة، فأحرى الى ما يمكن تحصليه من هذا التجميع لتمويل، بواسطة فوائد، اي منافع اجتماعية لصالح المحامين ( وهذا مع التذكير بان الموارد التي تجلبها صناديق " الكاربا" الفرنسية تخصص ان لم نكن مخطئين ليس للتقاعد وإنما للاحتياط وحده، الى جانب التكوين المهني والخدمات المهنية المشتركة) .

وختاما 
من البديهي انه ينبغي مواصلة الجهود قصد تعميم وتحسين أنظمة التقاعد والاحتياط على مستوى جميع هيئات المحامين بإفريقيا، إذ أن مثل هذه الضمانات تبدو لنا ضرورية اكثر فاكثر من اجل ممارسة المهنة ممارسة عادية .
وفي هذا الاطار، وانطلاقا من الظروف الخاصة بمختلف الهيئات، يبدو بان مشروع التقاعد العالمي للمحامين، المتوخى من طرف الاتحاد الدولي للمحامين، يمكن ان يشكل " أداة تحفيز" لخلق او تعزيز الحماية الاجتماعية الواجبة في سائر أنحاء العالم لأسرة الدفاع .
    الدار البيضاء، في 12 غشت1990
                                    
                                        عبد العزيز بنزاكور
          نقيب سابق لهيئة المحامين بالدار البيضاء 
                                                                                                             رئيس سابق لجمعية هيئات المحامين بالمغرب 
                      رئيس الاتحاد الإفريقي للمحامين   
* مجلة المحاكم المغربية، عدد 73، ص 24 .

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : أبحاث قانونية مغربية