-->

الصحافة السلطة الرابعة

  الأستاذ محمد كرم                                                                                                                                          بهيئة الدار البيضاء

يعرف الفقيه الدستوري المعروف اندري هوريو السلطة بأنها قوة إرادة تتجلى  لدى  الذين  يتولون عملية حكم جماعة من البشر، فتتيح لهم فرص فرض  أنفسهم بفضل التأثير المزدوج  للقوة والكفاءة.
 فإذا لم ترتكز السلطة إلا على القوة فهي تتميز عندئذ بأنها سلطة واقع، وتتحول الى سلطة قانون برضى وموافقة المحكومين.
ويضيف الفقيه المذكور ان سلطة الدولة تسمى بالقوة العامة وتتميز في الديمقراطيات الغربية على وجه الخصوص بسمات وهي:
أنها سلطة هرمية ومركزية
أنها  سلطة سياسية
أنها سلطة مدنية 
أنها سلطة زمنية
أنها سلطة تتمتع باحتكار الاكراه  المادي
ويرى الباحثون امثال جورج بالانديه وروجيه باتسيد انه في  كل المجتمعات حتى الاكثر ديمقراطية توجد ظواهر سياسية حول التوأمين " السلطة - المعارضة" "السلطة - الحرية".
ان كل المجتمعات الانسانية تبدو  مهددة بشكل دائم بالتفكك ووجود السلطة ضروري ومهمتها الاولى مجابهة مخاطر تفكك المجتمع وتقوية اواصر التلاحم الاجتماعي.
-------------------------
1)    هذه المداخلة ساهم بها الأستاذ محمد كرم باسم هيئة المحامين بالدار البيضاء بمناسبة اليوم الدراسي الذي نظمته هيئات المحامين بالمغرب بالمعهد الوطني للدراسات القضائية بالرباط.
-----------------------
قانون الصحافة بالمغرب… أي منظور؟
ان الحركة الدستورية المعاصرة التي نشات في اواخر القرن الثامن عشر في الغرب هي التي ابتكرت نظام السلطات الثلاثية متاثرة في ذلك بكتابات عصر الانوار والنهضة من امثال لوك وروسو وطوكفيل بنفس الوقت الذي تكونت فيه الراسمالية الليبرالية وتطورت، وفقا لموجات متتالية ومتعاقبة اما عن طريق حركات ثورية او حروب كونية.

ولن نتوقف هنا عند خصائص النظام الدستوري ولا عند اغراضه ومتميزاته ولا عند اطاره ولا عند موجات الدسترة الكبرى، فمكان ذلك في المدرجات المتخصصة.
لكن الحديث عن مقولة السلطة الرابعة التي ارتاى منظمو هذا اللقاء العلمي ان يخصصوا لها هذا الموضوع هو الذي وضع بعض النقط على الحروف حول تعريف السلطة ونشاة هذا المفهوم وتميزه عن السلطات الثلاث المعروفة.

ان من الصعب ترتيب هذه السلطات على حسب قوتها في المجتمعات لان  نفوذها يختلف من مجتمع لاخر.
ففي حين يستبعد البعض السلطة القضائية من قائمة السلطات الثلاث مدمجينها في السلطة التنفيذية باعتبار ان ما يدعى بالسلطة القضائية ليس الا جهازا انشئ  ليطبق القواعد القانونية في حسم النزاعات، وهي قواعد  قانونية ليست من صنعه، وبالتالي فهي مجرد جهاز تنفيذي متخصص في قطاع معين.

وهناك من يزعم بان السلطة  الادارية هي سلطة رابعة، بينما اضاف باحثون اخرون المجمعات الاقتصادية والصناعية والخدمات التي لا ترتبط بسلطتي التشريع والتنفيذ والتي تمارس اختصاصات التوجيه للاختيارات الاقتصادية وتمارس قدرة نافذة تجعل منها سلطة متميزة.
والتنظيمات الدينية سلطة لا يقل نفوذها في المجتمعات المتاثرة بالدين عن قوة السلطات المتعارف عليها في مجتمع الدولة.

 ان مقولة الصحافة سلطة رابعة ظهرت اول مرة في الولايات المتحدة الامريكية حيث  يقوم نظامها السياسي على اساس توازن تام وفصل كلي بين مختلف السلطات. بحيث تحد السلطات بعضها البعض، بما يعرف بنظرية الكبح والتوازن.
والراجح ان المؤرخ الانجليزي " ماكولي" الذي توفي سنة 1859 كان ينظر يوما الى المقصورة التي تضم مقاعد الصحفيين في البرلمان البريطاني فقال: انها اصبحت السلطة الرابعة في المملكة.
اما عندنا فالراجح ان المرحوم الدكتور محمود عزمي الامين العام السابق للجامعة العربية هو اول من استعمل هذا التعبير في مقال له نشر بمجلة روز اليوسف بتاريخ 17 شتنبر1953 جاء فيه :
" ومظهر الرقي في الحكومات وفي معاملاتها هو ان تعتبر الصحافة سلطة، نعم سلطة، وقد قال غيرنا انها السلطة انها السلطة الرابعة من سلطات الدولة الى جانب الهيئات التشريعية القضائية والتنفيذية".

الواقع ان السلطات كلها ليست هي الحكم، وانما هي عناصر متفرعة عنه، ومن اجل ذلك وزعت ممارستها في الانظمة الديمقراطية حتى لا يتجمع الحكم في يد واحدة مما يؤدي الى الاستبداد والطغيان.
ان الحكم هو مجموع السلطات والمؤسسات بينما لا تعنى السلطة جميع ذلك وتنفرد عن الحكم بكونها تعني في الغالب قدرة نافذة شرعية.
فهل تشكل الصحافة حقا في بلادنا سلطة رابعة؟ قبل الجواب عن هذا السؤال، يتعين في تقديري ان نتساءل:
هل تعرف بلادنا حقا السلطات التقليدية الثلاثة بالمفهوم الديمقراطي المتعارف عليه؟
ام ان الامر يتعلق بوظائف تستمد شرعيتها في الزمان والمكان في اطار التفويض من حقل اوسع واشمل يشكل في حد ذاته السلطة الاقوى حتى لا ازعم انها السلطة الوحيدة التي تحكم بصفة  فعلية.

لاحظوا ان الدستور المغربي الاخير الذي تم اقراره باستفتاء 13 شتنبر1996 اسوة بالدساتير السابقة، يتجنب وصف القضاء مثلا بسلطة (الفصل 82) وان الوزير الاول واعضاء البرلمان يقتسمون على السواء حق التقدم باقتراح القوانين وذلك تحت عنوان ممارسة السلطة التشريعية  (الفصل 52).
وان المواد التي لا يشملها اختصاص القانون هي من اختصاص المجال التنظيمي (الفصل 47)
كما ان النصوص التشريعية من حيث الشكل يمكن تغييرها بمرسوم بعد موافقة المجلس الدستوري (الفصل 48)
وان الوزير الاول يمارس السلطة التنظيمية (الفصل 63).

صحيح ان لا احد يستطيع ان ينكر ان الصحافة تلعب دورا رئيسيا في تكوين الراي العام وتوجيهه في الرقابة على اجهزة الدولة المختلفة، ومن هنا فان اثرها في حياة الشعوب لا يقل في اهميته عن اثر القرارات التي تصدر عن السلطات التقليدية الثلاث.
وهنا ينبغي ان نعترف ان مجال بحثنا منصب فقط على الصحافة المكتوبة في المغرب، لان المجال السمعي البصري محتكر من طرف الدولة، ولان وسائط الاتصال الاخرى وهي كثيرة ومتنوعة ومتطورة تتدرج في جعبة  المقاربة الاعلامية الكبرى.

وبالتالي، فقد كنت اتمنى ان يكون الموضوع هو : هل  تشكل الصحافة ووسائط الاتصال الاخرى سلطة في المغرب؟ ولعل هذا الشان ياتي وقته في مناسبة اخرى.
هل يوجد فعلا في المغرب فصل بين السلطات ؟
وهل تراقب السلطات بعضها البعض وتحد من غلوائها؟
ان السلطة في اللغة هي التسلط والتحكم والسيطرة، وهي من مادة "سلطة" أي اطلق له السلطان والسلطان يطلق على الملك او الوالي كما يطلق على القوة والقهر، والسلطان بمعناه الثاني دعامة من دعمات الدولة وركن من اركانها.
ولما كانت الدولة شخصا معنويا فقد لزم ان ينوب عنها في ممارسة سلطانها هيئات يختلف باختلاف وجوه نشاطها، وقد اصطلح على اطلاق لفظ " سلطة عامة" على كل هيئة منها، لان السلطة لازمة من لوازمها.

ولكي تكون الصحافة سلطة رابعة مكملة للسلطات الثلاث يجب ان تتوفر فيها الشروط الاتية:
1)    ان تؤدي وظيفة من وظائف الدولة
2)    ان يكون لها بحكم وظيفتها ان تامر وان تنهى
3)    ان تكون اوامرها ونواهيها في حدود اختصاصها مكفولة النفاذ بسلطان الدولة القائم على القهر والارغام.

ولكن الصحافة بما لها من تاثير في تموين الراي العام او توجيهه لا تعتمد على سلطان الدولة، بل تعتمد على ما تقدمه للناس من اراء واخبار، ونشاطها في هذا الاتجاه يقع خارج اطار الدولة لا داخله مثلها في ذلك مثل الاحزاب والنقابات ومكونات المجتمع المدني التي تؤثر في الدولة بقدر ما لها من اثر في الرأي العام.
ان الصحافة نشاط حر، وهي كذلك لارتباط مناط وجودها بحرية التعبير المكفولة بالدساتير خلافا للمهن الاخرى، والمضمونة بالمواثيق والاعلانات الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان وفي مقدمتها المادة 19 من الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، وذلك لحمايتها من افتئات الدولة ولان الدولة هي وحدها التي تملك ان تفرض الرقابة عليها او تقيد من مداها وحركتها بمقتضى القانون  .
ان الصحافة في  تصوري تفقد حريتها كما تفقد استقلالها اذا صارت سلطة من سلطات الدولة.
وكيف تكون سلطة وهي لا تملك لا حق التشريع ولا قوة التنفيذ ولا قدرة اصدار الاحكام ؟
لكن يجب ان نعترف ان للصحافة بالرغم من كل التحفظات سلطة معنوية لا يعلى عليها لما تحدثه من اثر في المجتمع وفي صياغة الافكار وبلورة الاتجاهات وتكوين رأي عام وازن يضرب له الحكام الف حساب بل وتفوض الحكم في العديد من المجتمعات.

ان الصحافة تشكل ضمير الامة والرقيب اليقظ للفاعلين على الشان العام فضلا عن انها تعتبر من اهم وسائط الخدمات والترفيه والتلاحم الاجتماعي.
ان النشاط الصحفي يتمتع بكثير من التفرد والخصوصية قلما نجدهما في أي نشاط اخر فهو يعتمد على الفكر وحرية التعبير، الا  انه يمثل في الوقت نفسه نشاطا صناعيا يستهدف الربح، كما انه قبل ذلك يشكل جهدا انسانيا يتطلب قدرا كبيرا من المهنية والابداع.

فهل تشكل الصحافة في المغرب سلطة معنوية بالمفهوم الذي اشرنا اليه قبل قليل؟
قبل الجواب، استعرض عليكم اولا بعض الارقام للمقارنة والتمحيص :
على مستوى قراءة الصحف يوميا:
تونس : 48 جريدة لكل الف مواطن، مجموع الصحف المباعة يوميا 450.000 نسخة.
الجزائر : 38 جريدة لكل الف مواطن، مجموع الصحف المباعة يوميا مليون نسخة.
المغرب : 14 جريدة لكل الف مواطن، مجموع الصحف المباعة يوميا  350.000 نسخة.
المعدل اليومي بالعالم العربي : 39 جريدة لكل الف مواطن.
المعدل العالمي : 95  جريدة لكل الف مواطن.

على مستوى  استهلاك الورق السنوي.
في العالم العربي: 20 كلغ لكل مواطن .
في الدول  الصناعية : 95 كلغ لكل مواطن.
الدول السائرة في طريق النمو: 4 كلغ لكل مواطن.
المغرب : 1.5 كلغ لكل مواطن.

ان  ارتداد نفوذ الصحافة المكتوبة بالمغرب مرتبط بمجموعة من المعوقات تحد من سلطتها المعنوية ويمكن اجمالها فيما يلي :
1-    انتشار الامية وبخاصة في العالم القروي حيث يعيش ازيد من 51 % من ساكنة المغرب.
2-    احتكار الدولة للمجال السمعي البصري الواسع الانتشار.
3-    اعتماد الدولة لمفهوم الحرية المقيدة المسلط على رقاب الصحافة المكتوبة وعلى الصحفيين.
4-    انخفاض القدرة  الشرائية.
5-    تمركز الانتاج الصحفي في محور الدار البيضاء الرباط بنسبة 75 %.
6-    تدني مستوى المهنية والاحتراف.
7-    انعدام مفهوم المقاولة الصحافية الا فيما نذر.
8-    ضعف وسائل النقل والاتصال.
9-    ازدواجية اللغة.
10-    محنة تدفق المعلومات والوصول الى مصادر الخبر
11-    ازدراء   سلطات القرار لها وتفضيل الصحافة الاجنبية عليها
12-    الوضع الاجتماعي المزري لمعظم الممارسين لمهنة المتاعب

هل يمكن اذن الحديث عن سلطة  معنوية وازنة للصحافة المغربية على اختلاف مشاربها  وتلويناتها من حزبية ومستقلة وشبه مستقلة ومن صحافة لا تحترم حتى القواعد الدنيا لميثاق الشرف المتعارف عليها في اعلان ويندهوك الصادر في 03 ماي1991.
ينبغي مع ذلك ان ننوه بجهود كل الرواد والصحفيين الشرفاء في هذا البلد الذين ساهموا رغم محدودية المقروئية ورغم المعوقات في معركة رسم معالم دولة الحق والقانون، وفضح الفساد على اختلاف اشكاله، والدفاع عن قضايا حقوق الانسان، والاستماتة من اجل توسيع مجال حرية الراي والتعبير، والتنبيه النقد البنائين.
ورهان الصحافة المغربية اليوم فضلا عن رفع كافة القيود التي تعطل حرية التعبير، هو ارساء الحق في الاعلام كاحد حقوق الانسان الاساسية.

ان من مكر الصدف ان تحمل بعض الصحافة وحدها في هذه المرحلة عبء المعارضة بعد ان غابت المعارضة الموضوعية النزيهة داخل وخارج قبة البرلمان، وهو دور وجدت نفسها محشورة فيه ولا يتعين ان يطول لان سنة الكون تكره الفراغ.

ان صحافتنا مطالبة بان تتغلب على كل الاكراهات التي تعوق انتشارها وتحد من قوتها، ورهانها ليس بالسهل امام تحديات العولمة المعلوماتية والاعلام الالكتروني وثورة الفضائيات، ولن تستطيع ذلك الا بقدر كبير من الاستقلالية والمهنية والاحترافية والتكوين المستمر والتنظيم والجراة  والابداع، وما ذلك عليها بعزيز.

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 88، ص 55.
Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم :