-->

تجربة المحاكم الادارية بعد خمس سنوات تنازع الاختصاص



                                        النقيب عبد الله درميش 

تعقد هذه الايام الدراسية لتقييم تجربة المحاكم الادارية  بعد  خمس  سنوات من دخولها حيز التطبيق، ونسارع الى القول بان تقييم هذه التجربة خلال هذه الفترة الوجيزة من الزمان، لا يمكن ان يكون الا محدودا  وضيقا، لان القضاء الاداري يبني لبنة لبنة، وتكرس مبادئه وقواعده عبر عقود من الزمان، يعد القيام بثورة لتغيير كثير من المفاهيم، التي تهيمن على الفكر القانوني الذي لم يشتغل بهذا النوع من  القضاء  من  قبل ، مع اعترافنا بما رسمه المجلس الاعلى، من خلال غرفته الادارية، قبل احداث المحاكم الادارية، من بعض القواعد (1) التي يمكن اخذها وتبنيها من لدن المحاكم الادارية كما نقر، ايضا، ان  بعض  المحاكم  الادارية  قد  وضعت  لبنات  هامة لبناء دولة الحق والقانون باصدارها لاحكام رائدة في مجال حقوق الانسان ووضعت حدا لكثير من التعسفات والاكراهات .

وعليه، فان مساهمتنا في التقييم او في القراءة او في  المساءلة  ستكون  محدودة  وستنصرف  الى جانب واحد من الجوانب التي ارقت المحاكم العادية والادارية، على حد سواء، وهو جانب الاختصاص في زاوية من زواياه، زاوية " التنازع" الذي يلقي  بظلاله على المحاكم بصفة عامة، والادارية بصفة خاصة، حيث ترددت الاحكام وتذبذبت وتناقضت، واحيانا تداخلت فيما بينها و( الامثلة كثيرة) مما يدعوا الى  البحث  لها  عن معالجة، وحكم يفصل  بينها او على الاقل يحد من التنازع فيما بينها .

ان هذا التضارب والتنازع في الاختصاص بين محاكم المملكة امر يكاد يكون طبيعيا اذا استقرأنا نظرية  الاختصاص، وكيف نسج المشرع المغربي قواعد هذه النظرية
-----------------
1)    مراقبة مبدا الملاءمة، نظرية الموازنة بين منافع المشروع العام ومضار نزع الملكية، عدم اهدار الاحكام القضائية
من طرف الادارة بعدم تنفيذها .
----------------
وسكوت المشرع عن كثير من المفاهيم، والتدخل بكثير من التسرع ليواكب الخطابات الدولية في مجال حقوق الانسان، وليساير التطورات والتحديات والرهانات المستقبلية في الثقافة الجديدة، ثقافة العولمة، وتحرير السوق والانفتاح .
واذا كان تنازع الاختصاص بين محاكم المملكة قد ازداد اتساعا بعد احداث المحاكم الادارية، والمحاكم التجارية، وعند وضع خريطة قضائية مركبة. فانه قد حان الاوان للتفكير في احداث الية للحسم في تنازع الاختصاص، بحيث غدت النصوص القانونية التي تهم التنازع في تشريعنا غير كافية، ولا تفي بالمطلوب .

الفقرة الاولى :
منظور المشرع المغربي الى نظرية الاختصاص
بين مختلف الجهات القضائية
والاشكاليات التي تطرحها
اولا : خرج المشرع المغربي عن المالوف، في قواعد  الاختصاص النوعي، حينما اعاد النظر في قانون المسطرة المدنية سنة 1974 حيث انزل الاختصاص النوعي، في اغلب القواعد، منزلة الاختصاص المحلي، فاعتبره ليس من النظام العام، وهو ما اكده القضاء - على الرغم مما يمكن ان يوجه الى ذلك من انتقاد شديد  - حسب كثير من المؤشرات التي تدل على ذلك كوجوب اثارته من الاطراف قبل كل دفع او دفاع، وعدم امكانية اثارته في طور الاستئناف الا في حالة وحيدة، وهي التي يكون فيها الحكم غيابيا، مع الزامية صاحب المبادرة باثارة الدفع ان يبين المحكمة التي تكون مختصة تحت طائلة عدم القبول مع الاحالة، عند عدم الاختصاص، بقوة القانون  وبدون صائر، وامكانية الحكم بعدم الاختصاص النوعي تلقائيا من طرف المحكمة ( الفصل 16 من قانون المسطرة المدنية )، كما اقر المشرع في الفصل 17 من ق م م قاعدة مزدوجة، فاما ان يقع البت في الدفع بعدم الاختصاص بحكم مستقل، او باضافة الدفع بعدم الاختصاص الى الحكم في الجوهر ليصدر الحكم في ذلك بحكم واحد .

هذا، فان الحكم في الدفع بعدم الاختصاص يكون قابلا للاستئناف امام محكمة الاستئناف سواء صدر هذا الحكم باستقلال او مع الحكم في الموضوع، وان قرار محكمة الاستئناف يكون قابلا للطعن بالنقض والكل بناء على القواعد العامة في الطعن ضد الاحكام .
يتضح اذن، من قراءة الفصلين 16 و17 من ق م م ان القواعد هي واحدة سواء بالنسبة للاختصاص النوعي او المكاني، مع قليل من الفروق بينهما، فالاختصاص المكاني لا يمكن للمحكمة ان تثيره من تلقاء نفسها عكس ذلك في الاختصاص النوعي ( فقرة اخيرة من ف 16 م م ) .

بصفة عامة، فان المشرع المغربي وضع النظرية العامة للاختصاص في قانون م م في الفصول 11 الى 17 قواعد عامة، والفصول 18 الى 23 خاصة بالاختصاص النوعي، والفصل 24 خاص باختصاص محاكم الاستئناف، ثم في الفصلين 25 و26  مقتضيات مشتركة بين مختلف المحاكم العادية، والفصول 27 الى 30 تتعلق بالاختصاص المكاني .

ثانيا : وفي سياق التوجه صوب مبدا ازدواجية القضاء تخلى المشرع المغربي عن جهة الاختصاص الوحيدة للقضاء الاداري المتمثلة في الغرفة الادارية لدى المجلس الاعلى، فاحدث محاكم ادارية على صعيد المناطق الاقتصادية السبعة لارساء نظام قضاء اداري او وضع بعض الملامح لقضاء مزدوج، مع الابقاء على الغرفة الادارية لدى المجلس الاعلى ذات الصفتين احداهما كدرجة ابتدائية وانتهائية، وثانيهما كمرجع استئنافي للاحكام الصادرة عن المحاكم الادارية .
وكان لزاما على المشرع ان يعيد النظر في القواعد التي تحكم الاختصاص امام هذه المحاكم ليتراجع بذلك عن عدة مفاهيم في نظرية الاختصاص امام المحاكم العادية التي لا تتلاءم ولا تتسق مع القضاء الاداري .

وهكذا، مثلا، سارع الى اعتبار الاختصاص النوعي من قبيل النظام العام، ويتاتى بذلك للاطراف ان يدفعوا به في جميع مراحل اجراءات الدعوى، ويجب على الجهة القضائية المعروضة عليها القضية ان تثيره تلقائيا، متخليا بذلك عن القواعد العامة التي وضعها في ق م م ( المادة 12 من قانون احداث المحاكم الادارية)، وفك الارتباط بين الاختصاصين النوعي والمكاني. بحيث جعل هذا الاختصاص الاخير هو الذي تسري عليه احكام الفقرات الاربع من الفصل 16 واحكام الفصل 17 دون ان يبقى الاختصاص النوعي معنيا لهذه المقتضيات .

وهكذا، اصبح الاختصاص النوعي في القضاء الاداري يمكن اثارته من الاطراف في جميع مراحل القضية، ولو امام الدرجة الثانية، كما يجب على المحكمة ان تثيره تلقائيا حتى بدون طلب من احد الاطراف، واذا قبلت الدفع وجب عليها اعمال قاعدة الاحالة، فيرفع الملك الى المحكمة المختصة بقوة القانون وبدون صائر .
كما يلاحظ ان قانون احداث المحاكم الادارية قد وضع قواعد لتركيز وجمع النزاعات، قدر الامكان، امام محكمة ادارية واحدة تفاديا لتشتت النزاعات المرتبطة او التابعة امام عدة محاكم ادارية بحيث اقر القاعدة الاصولية بان " اختصاص احدى المحاكم يجب اختصاص باقي المحاكم الاخرى التي تكون مختصة" ( المادتان 15 و16 م ادارية ) مع اعطاء امتياز للمجلس الاعلى وللمحكمة الادارية بالرباط، وهما جهتان تجران اليهما باقي النزاعات الاخرى التي تكون مرفوعة امام باقي المحاكم الادارية الموجودة بالمملكة، والتي يجب على هذه الاخرى التي تكون مرفوعة امام باقي المحاكم الادارية الموجودة بالمملكة، والتي يجب على هذه الاخيرة ان تحكم تلقائيا وبدون طلب بعدم اختصاصها  واحالة الملف برمته الى هاتين الجهتين بقوة القانون .

والملفت للانتباه ان المشرع في المادة 13 من قانون 41-90 اتى بمقتضيات جديرة  بالمناقشة حينما وضع قاعدة موحدة تتعلق بالدفع بعدم الاختصاص النوعي امام جهة قضائية عادية، او ادارية بحيث اوجب على كل من الجهتين القضائيتين (العادية او الادارية) ان تقوم بالبت في الدفع بعدم الاختصاص النوعي بحكم مستقل عن الحكم في الموضوع، بحيث لا يجوز للمحاكم الادارية، والعادية ايضا، اعمال القاعدة ضم الدفع بعدم الاختصاص النوعي الى الجوهر .
ان صياغة هذه المادة تسمح بالقول بان المشرع المغربي قد وضع قاعدة مشتركة بين مختلف المحاكم العادية والادارية بخصوص الدفع بعدم الاختصاص النوعي، وبالتالي فانه عطل مقتضيات الفصل 17 م م بخصوص الاختصاص النوعي ولم تعد للمحاكم العادية امكانية اعمال تلك المقتضيات .

كما ان المشرع في الفقرة الثانية من نفس المادة (13) قد قام بتوحيد الجهة التي يجب ان يطعن امامها في الحكم المتعلق بالاختصاص النوعي صادر عن المحكمة العادية ( اي المحكمة الابتدائية) وهو ما يفهم منه ان المشرع المغربي تخلى عن كثير من قواعد الاختصاص النوعي التي يحكمها قانون المسطرة  المدنية .
ان توحيد قواعد الاختصاص النوعي، وجعل جهة الطعن واحدة، من شان كل ذلك ان يقلص من حدة تنازع الاختصاص بين المحاكم.
لكن هل بقي المشرع المغربي مخلصا لهذا السياق، ام انه زاد الامر استفحالا واضطرابا وشكوكا، مما يزيد في حدة تنازع الاختصاص، حينما اصبح ينحو نحو قضاء متخصص ؟ باحداثه محاكم تجارية .

ثالثا : في اتجاه الانفتاح وتشجيع الاستثمارات ومواكبة توجهات النظام العالمي الجديد، الذي وضعت اتفاقية مراكش قواعده النهائية، بادر المشرع المغربي الى احداث محاكم تجارية ( ق 95-53) على ان تحدث حسب جهات المملكة الستة عشر وجعل القضاء امام هذه المحاكم على درجتين من التقاضي .
وفي هذا القانون تناول المشرع نظرية الاختصاص بمنظار مخالف لنظرية الاختصاص امام المحاكم الابتدائية والادارية، مما جعل مسالة تنازع الاختصاص ستزداد تعقيدا.
 وهكذا مثلا، فانه لم يقض، كما فعل صنوه، المشرع الاداري، بان الاختصاص النوعي من النظام العام، مما جعل الاضطراب يسود مواقف الفقه والقضاء بخصوص هذه المسالة.

والذي يعنينا بخصوص موضوعنا ان المشرع في (المادة 8) من قانون احداث المحاكم التجارية قد وضع مقتضيات خاصة بالاختصاص النوعي، ومنها على الخصوص ان المحكمة التجارية يجب عليها لزوما ان تبت في الدفع بعدم الاختصاص النوعي بحكم مستقل داخل اجل ثمانية ايام، مع امكانية استئناف هذا الحكم خلال اجل 10 ايام امام محكمة الاستئناف التجارية، التي عليها ان تبث خلال اجل 10 ايام بقرار نهائي لا يقبل اي طعن عادي او غير عادي، وعلى محكمة الاستئناف عند بتها في الاختصاص اعمال قاعدة الاحالة على المحكمة المختصة تلقائيا .

يتضح من ذلك ان هذا المشرع عطل كذلك مقتضيات الفصل 17 من ق م م بخصوص الدفع بعدم الاختصاص النوعي، كما انه يستخلص ان الحكم المتعلق بالاختصاص النوعي لا يرفع بتاتا الى المجلس الاعلى اذا صدر هذا الحكم او القرار من المحكمة التجارية او من المحكمة الاستئنافية التجارية، على عكس لو كان الامر يتعلق بحكم صادر عن المحكمة الابتدائية او المحكمة الادارية .

وعلى ضوء ذلك الا نكون امام اشكالية التعارض بين هذه المقتضيات والمقتضيات التي وضعتها المادة 13 من قانون احداث المحاكم الادارية التي وحدت الجهة المختصة في الفصل في الدفع بعدم الاختصاص وجعلتها هي المجلس الاعلى؟
يستخلص اذن، من المقتضيات الواردة في ق م م والمحاكم الادارية والتجارية المتعلقة بالاختصاص النوعي، انها ستجعل القضاء يضطرب عند البت في الدفع بعدم الاختصاص حيث ستتعارض الاحكام القضائية من هذه الجهة الى تلك، ولو في نزاع واحد ذي طبيعة واحدة، لان التشريع المغربي يعرف تعدد مراجع الاختصاص .
ومما يزيد في الاضطراب ان هذه المحاكم على اختلافها من عادية وادارية ومتخصصة ( تجارية) لا تتوحد في مرجعها الاستئنافي .

ومما يزيد الامر تعقيدا انه، فضلا، عن هذه القواعد المسطرية المتضاربة في الاختصاص النوعي، فان هناك تداخلا في الاختصاص  النوعي لهذه المحاكم بالنظر الى طبيعة النزاع، بحيث ليس من اليسير الحسم في بعض النزاعات هل هي من اختصاص القضاء العادي او المتخصص ؟ او من اختصاص القضاء الاداري ؟ ما يخلق تنازعا بين هذه المحاكم .

الفقرة الثانية :
نظرة المشرع المغربي  الى معضلة تنازع الاختصاص
ان المشرع المغربي، وهو يضع القواعد المنظمة لحل معضلة تنازع الاختصاص بين المحاكم، في الفصول 300 و301 و302 و353/4 و354 و362 وما يليه والفصول 388، 389، 390، والفصل 9 من ق م م كانت مسالة التنازع اقل حدة لان التنظيم القضائي المغربي لم يكن يعرف ازدوازجية القضاء او تخصص التنازع او تخصص القضاء، ولم يكن المشرع، انذاك، يتوقع احداث محاكم ادارية ومحاكم تجارية وربما محاكم الاعمال .
ولذلك جاءت المقتضيات التي تنظم تنازع الاختصاص قاصرة ولا تفي بالمطلوب امام القواعد المتضاربة في الاختصاص النوعي بين مختلف هذه المحاكم، لعدم وضوح كثير من المفاهيم والقواعد  في القضاء الاداري، وايضا تداخل الاختصاص بين هذه المحاكم .

اولا : اسباب  تنازع الاختصاص في التشريع المغربي وصوره
1-    اسبابه :
تعود اسباب التنازع الى عدة اعتبارات منها على الخصوص :
ما سبق في الفقرات السابقة بشان نظرية الاختصاص، التي تنطوي نصوصها على كثير من التضارب، وخصوصا ان تلك الجهات القضائية لا تنضوي تحت لواء محكمة واحدة غير المجلس الاعلى، مع التذكير ان الحكم في الاختصاص النوعي من لدن المحاكم التجارية لا يتصور رفعه الى المجلس الاعلى.

اعتماد المشرع في قانون المحاكم الادارية وكذا في قانون المحاكم التجارية معيار التحديد الحصري للاختصاص النوعي ( المادة 5 تجارية) ( والمواد 8 و9 و11 ادارية)(1)، والغموض الذي يكتنف هذه المواد  وقد ظهرت على الساحة القضائية تضاربات عديدة في العمل القضائي بشان الاختصاص النوعي بين نفس المحاكم ذات الطبيعة الواحدة، ( مثال ذلك ما يتعلق بالنزاعات المتعلقة بظهير 24 ماي 1955 بالنسبة للمحاكم التجارية، وما يتعلق بالنزاعات الهاتفية او المنازعات الانتخابية بالنسبة للمحاكم الادارية) .

عدم اقرار قواعد واضحة بخصوص " الاحالة" فالواضح ان احالة النزاع عند الحكم بعدم الاختصاص من محكمة ما الى محكمة اخرى  من نفس النوع تكون مقبولة من محكمة الاحالة وتاخذ بها .
---------------------
1)    المحكمة الادارية بالدار البيضاء في حكمها عدد 84 بتاريخ 1/4/1996 " ان الاختصاص النوعي للمحاكم الادارية محصور فيما ذكر في القانون رقم 90-41" المجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية العدادان 20 و21 ص 126 .
---------------------
لكن الصعوبة تكمن حينما تقع الاحالة من محكمة عادية، او متخصصة، الى محكمة ادارية (1) والعكس ايضا بحيث لا تستجيب اغلب جهات الاحالة الى قبولها لانعدام النص(2)، وتاسيسا على قاعدة " لا يسلط قضاء على قضاء الا اذا كان اعلى منه" وهو ما قد يزيد من حالات التنازع السلبي الذي فيه انكار للعدالة ومساس بمبدا حق اللجوء الى القضاء الذي هو مبدا دستوري، وزعزعة ثقة المتقاضين في العدالة التي هي اساس الملك والعمران ودعامة الاستقرار .

تداخل بعض الاختصاصات بين الجهات القضائية الثلاث ( عادية، تجارية، ادارية)، وان هذا التداخل فرضته عدة اعتبارات كعدم وضوح بعض المفاهيم في القضاء الاداري، او عدم الاستقرار عليها، بحيث ان بعض الاحكام الصادرة عن بعض المحاكم الادارية لا تميز بين المؤسسات العامة والمقاولات العامة، كما ان البعض ياخذ بالمعيار العضوي او الموضوعي لتحديد طبيعة  العقد او القرار الاداري، كما وقع الاضطراب بخصوص اختصاص المحاكم الادارية في بعض العقود المبرمة بين مؤسسات الدولة والاغيار، وما هو المعيار المعتمد في العقد الاداري ؟ وهو ما اثار عدة اشكاليات عرفها فضاء القضاء الاداري كما هو الحال في عقود الاشتراك في الهاتف ( عبد الله المتوكل، مجلة التنمية ع 19 ص 117) او عقود الاشغال العمومية والتوريد والامتياز، او المنازعات الغابوية  ( محمد جلال، مجلة التنمية ع 19) والنزاعات الخاصة بالعاملين لدى المؤسسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية التي يتجاذبها القضاء الاداري
------------------
1)    مثلا ابتدائية الرباط حكم 15/1/1994 ابتدائية طنجة حكم 13/7/1995 ملف عدد 94/3/2200، محكمة ابتدائية تزنيت حكم عدد 12 بتاريخ 16/1/1995 .
2)    وهو ما اخذت به المحكمة الادارية بمراكش في قرارها عدد 383 بتاريخ 26/6/1996 ملف اداري عدد 14/96 مجلة المرافعة عدد 6/1997 هيئة المحامين باكادير ص 222، والمحكمة الادارية بالرباط في عدة احكام منها حكم عدد 80/95 بتاريخ 14/3/1995 وحكم عدد 94/95 بتاريخ 4/4/1995 مجلة المعيار ع 21، حكم عدد 394/95 بتاريخ 21/12/1995 وانظر عكس ذلك المحكمة الابتدائية بتزنيت حكم مدني عدد 12 ملف رقم 104/94 بتاريخ 16/1/1995 مجلة المرافعة عدد 7 دجنبر 1994 ص 173. والمحكمة الادارية باكادير التي قبلت الاحالة الواردة عليها من المحكمة العادية حكم 371/95 بتاريخ 5/10/1995 ملف 7/95 .
-----------------
والقضاء العادي (1)، وكذلك الشان بالنسبة للنزاعات الانتخابية في بعض الحالات التي لا يمكن ان تندرج تحت مقتضيات المادتين 8 و26 من قانون المحاكم الادارية والتي تسندها النصوص الخاصة بها الى جهة معينة (2) .

كون الدولة ومؤسساتها لم تعد تخضع للقانون العام وحده (3) بحيث انها اصبحت مقاولة وتاجرة، بامتياز، في اعلى المستويات، مما يجعلها تخضع للقانون الخاص. وعلى التحديد للقانون التجاري مما اصبح معه التنازع قائما بين المحاكم الادارية والتجارية، فمدونة التجارة اتت على ذكر بعض الانشطة تمارسها المؤسسات العامة ( مثال : الاشغال العمومية، توزيع الماء والكهرباء. استغلال المناجم، استغلال المستودعات والمخازن العمومية ( مادة 6 من مدونة التجارة ) .
--------------------------
1)    نزاعات المكتب المستقل لتوزيع الماء والكهرباء  - مكتب الابحاث والمساهمات المعدنية - مكتب التسويق والتصدير - مكتب التكوين المهني وانعاش النقل - المكتب المستقل للنقل العمومي  - المكتب الوطني للماء الصالح للشرب - المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي - الصندوق الوطني للقرض الفلاحي - المكتب الوطني للنقل - الوكالات المستقلة للنقل - مكتب الابحاث والمساهمات المعدنية (وهذا غيض من فيض) المكتب الوطني للكهرباء  - بنك المغرب الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم. راجع بعض الاحكام المتضاربة  الصادرة عن بعض المحاكم الادارية بخصوص هذه المسالة - المجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية عدد 24 .
2)    انتخاب  اساتذة التعليم العالي بعض الهيئات كنقابة الصيادلة والاطباء والمهندسين المعماريين، ممثل العمال لحفظ الصحة والامن بالمناجم راجع محمد النجاري، الطعون الانتخابية على ضوء احداث المحاكم الادارية، مجلة التنمية مواضيع الساعة 14، جاء في حكم للمحكمة الادارية بفاس " كل نزاع ناشئ عن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالانتخابات لم يحدد المشرع جهة قضائية معينة للبت فيه تبقى الولاية العامة للمحكمة الادارية للنظر فيه" مثلا انتخاب حكام الجماعات من اختصاص المحاكم الادارية ( نعم) حكم 97/225 بتاريخ 5/3/1997 مجلة التنمية عدد 25 ص 145 وايضا المحكمة الاداية بالرباط في حكمها عدد 546 بتاريخ 28/5/1995 قضية دهان ابراهيم ضد هيئة الخبراء الحيسوبيين لا ينبغي فهم المادة 26 من ق. 90/41 على انها واردة على سبيل الحصر ما دامت المحاكم الادارية هي صاحبة الولاية العامة للبت في النزاعات الانتخابية التي لم يرد بشانها نص خاص على الاختصاص لجهة قضائية معينة " مجلة التنمية عدد 25" .
3)    وفي هذا الصدد راجع الرسالة الملكية التي وجهها صاحب الجلالة للمشاركين في ندوة " عمل المجلس الاعلى والتحولات الاقتصادية والاجتماعية" التي نظمت بمناسبة الذكرى الاربعين لتاسيس المجلس الاعلى، منشورات المجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية مواضيع الساعة 14. ص 157 .
------------------------------------
وبعض الانشطة التي تمارسها المؤسسات الشبيهة بالائتمانية كانشطة بنك المغرب، والخزينة العامة، ومصلحة الحسابات الجارية، وصندوق الايداع والتدبير، والصندوق المركزي للضمان، والبنك والشركات القابضة الخاضعة للتشريع المتعلق بالمناطق الحرة(1) .

ان الدعوى الموازية التي كان المجلس الاعلى يتخذها كمعيار لتحديد الاختصاص بين القضاء العادي والاداري لم تعد كافية بعد احداث المحاكم الادارية التي اتسع اختصاصها، ويبقى انه في حالة التنازع الايجابي او السلبي او تعارض الاحكام القضائية فيما بينها وجب تكييف النزاع والبحث عن طبيعته القانونية هل هو اداري ام عادي ؟ والدعوى الموازية بمفهومها الواسع ليست لها الصلاحية في ذلك الا في الحدود المرسومة في الفقرة الاخيرة من المادة 23 من قانون احداث المحاكم الادارية ( في موضوع طلبات الالغاء بسبب تجاوز السلطة ) .

عدم وجود قنوات للتواصل بين مختلف الجهات القضائية، اللهم، الا نادرا، بمناسبة عقد نشاط ثقافي او ندوة او يوم دراسي او عبر نشر بعض الاحكام القليلة او من خلال الاجتماعات الدورية التي يعقدها المجلس الاعلى للتنسيق وتوحيد المواقف، قدر الامكان فيما بين المحاكم الادارية .

1-    صوره :
ياتي التنازع على صورتين اما ان يكون سلبيا او ايجابيا، وهما الصورتان المنصوص عليهما في الفصل 300 م م، فاذا اصدرت عدة محاكم في نزاع واحد قرارات غير قابلة للطعن صرحت فيها باختصاصها او عدم اختصاصها فيه نكون امام تنازع الاختصاص .
وعند وضع هذا الفصل كان التنظيم القضائي للمملكة لا يعرف الا المحاكم العادية دون الادارية  او التجارية، واليوم بعد ان تغيرت الخريطة القضائية فاننا نرى ان هذا التنازع بنوعيه السلبي والايجابي، قد يزداد اتساعا وحدة .
-----------------
1)    ظهير6 يوليو1915 ( 23 شعبان 1333) المواد 341، 353، 354، من مدونة التجارة .
يراجع بتفصيل المادة 12 من قانون مؤسسات الائتمان .
-----------------
ذلك :
ان التنازع بين المحاكم، ذات الجهة القضائية الواحدة، قد لا يعرف اشكالا كبيرا بفضل اعمال قاعدة الاحالة بين هذه المحاكم اذ ان مقتضيات الفصلين 49 و109 م م تحد من معضلة التنازع وكذلك الشان بالنسبة للمواد 15 و16 و17 من قانون المحاكم الادارية، والمادة 8 من ق م التجارية .
الا ان هاتين الصورتين من التنازع قد تزداد مساحتهما حينما يرفع نزاع واحد امام محكمتين مختلفتين من حيث الطبيعة، كان يرفع  نزاع واحد امام المحكمة التجارية والادارية او امام المحكمة  الادارية والابتدائية .
وهكذا، فانه في هذه الحالات فان قواعد " الاحالة" سوف لا تجدي نفعا لموقف الرفض الذي يعرفه اغلب القضاء الاداري بخصوص الاحالة وللاسباب السابقة اعلاه .

ولكي نكون امام الصورتين المنصوص عليهما في الفصل 300 م م. يتعين ان تفصح كل من المحكمتين عن قرارها في الاختصاص، اما سلبا او ايجابا، بمقتضى حكم غير قابل لاي طعن، اي ان يستفيد الاطراف كل وسائل التقاضي، وطرق الطعن للتوصل اخيرا الى المحكمة المختصة. لان محكمة الفصل في تنازع الاختصاص هي محكمة غير عادية لا يجوز اللجوء اليها الا بعد استنفاذ الوسائل العادية، ولا يقصد بالفصل النهائي الفصل في الموضوع بل البت في الاختصاص بحكم حاسم .

اما اذا صدر الحكم النهائي في النزاع من محكمة غير مختصة، فانه لا يبقى المجال لسلوك مسطرة التنازع في الاختصاص لان هذه المحكمة تكون قد حسست النزاع وباستنفاذ طرق الطعن يكون حكمها صحيحا ولا يشوبه عيب .
واذا ما تعارض هذا الحكم، الذي قضى في الموضوع، مع حكم اخر فلا يبقى امام المعني بالامر الا سلوك المسطرة المنصوص عليها في الفصل 390 م م (1) بحيث يمكن للمجلس الاعلى في حالة تناقض بين احكام غير قابلة للطعن صادرة عن محاكم
----------------------
1)    يرى البعض ان هذه صورة تنازع الاختصاص، ونحن نرى ان هذه المسالة حالة خاصة يرجع فيها الاختصاص للمجلس الاعلى بنص خاص .
----------------------
او محاكم استئناف مختلفة ان يبطل، عند الاقتضاء، دون احالة احد الاحكام (1) المقدمة اليه .

ثانيا : الجهة القضائية التي تبت في تنازع الاختصاص والاجراءات المطبقة امامها :
والمحكمة التي يرجع اليها النظر في دعوى التنازع هي المحكمة الاعلى درجة المشركة بين المحاكم التي تتنازع الاختصاص فيما بينها، او امام المجلس الاعلى اذا تعلق الامر باحكام صادرة من محاكم لا تنضوي تحت محكمة واحدة مشتركة ( الفصل 301 م م ) .

وفي وضعنا الحالي، وبعد احداث محاكم ادارية واخرى تجارية الى جانب المحاكم الابتدائية. فاننا لا نتصور محكمة مشتركة بين هذه المحاكم، وهكذا تكون الجهة المشتركة بين هذه المحاكم هي المجلس الاعلى .
ويمكن القول ان الجهة الرئيسية في تنازع الاختصاص هي المجلس الاعلى، خصوصا اذا تعلق الامر بالتنازع المتعلق بالمحاكم المختلفة الطبيعة .

وتمر دعوى التنازع بمرحلتين : اولهما تتعلق بالقبول، وتعرض على غرفة المشورة بدون حضور الاطراف او وكلائهم،  اي في جلسة تتسم بالمرونة والسرية والسرعة، فاذا تبين لغرفة المشورة انه ليس هناك ما يدعو الى تنازع الاختصاص - كان يكون الحكم اوالحكمان معا قابلين للطعن، او ان عناصر النزاع تبدو مختلفة او عند انعدام وحدة الاطراف  - اصدرت المحكمة مقررا معللا برفض الطلب ويكون هذا القرار قابلا للطعن بالنقض اذا لم تكن غرفة المشورة بالمجلس الاعلى هي التي اصدرت القرار. وثانيهما اذا رات غرفة المشورة ان هناك مجالا لتنازع الاختصاص قررت الغرفة انطلاق الاجراءات العادية للتقاضي ( الفصول 362، 388، 389، 390 م م ) بعد تقليص الاجال الى النصف .

وفي هذه المرحلة ( مرحلة الحكم ) تطبق مسطرة المقرر ويستدعى الاطراف ووكلائهم وتقدم المستنتجات والمذكرات وفق القواعد العامة في التقاضي .
--------------------
1)    يخرج عن ذلك الاوامر الولائية وكل الاوامر التي لا تحوز الحجية .
-------------------
وبمجرد اعلان  غرفة المشورة اخضاع الدعوى للاجراءات العادية يتعين على المحكمتين المتنازعتين حول الاختصاص ايقاف البت وعدم مواصلة دراسة القضية في الموضوع. وهذا ما يستلزم ابلاغ المحكمتين اللتين تنظران في موضوع النزاع لتعملا على ايقاف البت في الموضوع دون الاجراءات التحفظية التي يبقى الباب مفتوحا امامها .

هذا، وتجدر الاشارة الى ان طلب ايقاف البت يمكن  ان يقدم من كل ذي مصلحة، او صفة، كما يمكن ان يقدم من لدن النيابة العامة التي تكون طرفا منضما امام المحاكم العادية والتجارية، ولا نرى أي مانع من امكانية تقديم هذا الطلب من المفوض الملكي امام المحاكم الادارية، وكذلك فانه يمكن اعمال هذا المقتضى من لدن المحكمة تلقائيا ما دام ان طلب البت هو اجراء حتمي يفرضه القانون ويترتب على مخالفته البطلان لكون هذا الاجراء وضع اساسا لمصلحة حسن سير العدالة .
ونعتقد ان الامر بوقف البت لا يقبل اي طعن، لكونه لا يعدو ان يكون الا امرا وقتيا يزول مفعوله بصدور الحكم في دعوى تنازع الاختصاص .

وعند دراسة دعوى التنازع، وفق الاجراءات العادية، ويتاكد للمحكمة ان طلب التنازع مبرر فانها تصدر حكمها بتعيين المحكمة المختصة من بين المحاكم المتنازعة على الشكل الاتي :
اذا تعلق الامر بالتنازع الايجابي ورات المحكمة ان كلا من المحكمتين مختصتين فانها تختار المحكمة التي رفع اليها النزاع اولا .

وفي حالة التنازع السلبي يقع الاختيار على المحكمة المختصة، واذا كانت المحكمتان على صواب حينما صرحتا بعدم اختصاصهما فان المحكمة تحكم بعدم قبول دعوى التنازع، وعلى صاحب المبادرة ان يبحث عن المحكمة التي تكون مختصة طبقا لقواعد الاختصاص .
ويظهر من صيغة نصوص التنازع ان عملية البت في التنازع الاختصاص هي عملية مركبة يتعين البت فيها على الشكل السابق وباقصى ما يمكن من السرعة. ولما كانت الجهة التي تبث في التنازع جهة استثنائية وليست درجة ثانية من درجات التقاضي فانه ليست لها الولاية لالغاء  الاحكام او تعديلها او تاييدها او تقويم الاعوجاج الذي يكون قد شابها، بل ان البت في التنازع يزيل الولاية والاختصاص عن المحكمة التي تقرر عدم اختصاصها .

الخاتمة :
نرى من خلال هذه التجربة الوجيزة للمحاكم الادارية ان مسالة تنازع الاختصاص قد طفت على السطح ولاحت في الافق وقفزت الى الواجهة والقت بظلالها على العمل القضائي لدى هذه المحاكم، وايضا امام المحاكم العادية، مما جعل من الملح والضروري والمستعجل التفكير في احداث " محكمة التنازع" مستقلة عن باقي الجهات القضائية الاخرى، قائمة بذاتها لها قواعدها الاجرائية، تكون مختصة للبت في كل حالات التنازع سواء تعلق الامر بالتنازع بين المحاكم ذات الجهة الواحدة، او بين محاكم مختلف الجهات، وتعمل ايضا على ترسيخ المبادئ الاساسية في مجال الاختصاص .

ونقترح ان يضع المشرع المغربي تشكيلا خاصا لهذه المحكمة بحيث تتكون من قضاة متخصصين في المواد المدنية، ومن قضاة متخصصين في المجال التجاري، ومن قضاة عاشوا تجربة القضاء الاداري، بمعنى ان تكون  المحكمة مختلطة تجمع، من خلال تنوع قضائها، مختلفة التخصصات القانونية .
كما نرى ان تكون الاجراءات مبسطة ويسيرة للبت باقصى ما يمكن من السرعة في مسالة الاختصاص لحسمها في اقرب وقت ممكن دونما المرور بمرحلة القبول، وان يكون الحكم الصادر من هذه المحكمة نهائيا غير قابل لاي طعن عادي او غير عادي .

وهكذا،
فلإنجاح تجربة المحاكم الادارية يتعين ان تجد الدعم الكامل كما جاء في خطاب العرش، اذ قال جلالته : " وحرصا منا على المزيد من تحقيق فضيلة الكمال …، وكذا دعم المحاكم الادارية نظرا لحرصنا على ان تظل سيادة القانون متمكنة في كل الاعمال الادارية باعتبار ذلك من ركائز دولة القانون التي بنيناها" .
                            الدار البيضاء، في 4/3/1999
                            النقيب عبد اللـه درميـش
* مجلة المحاكم المغربية، عدد 80، ص 72 .
Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم :