-->

شرط التحكيم في الشريعة الإسلامية وفي القانون الوضعي العربي


               
بقلم : د. خالد الكاديكي وعضو المجلس العلمي  لمعهد
 قانون الاعمال الدولية وعاداتها لغرفة التجارة الدولية

تمهيد 
لقد عرف العرب التحكيم قبل ظهور الاسلام وذلك مثل غيرهم من الامم.  ففي  النظام  القبلي  الذي كان سائدا في تلك  الفترة كانت السلطة ممثلة في شيخ القبيلة الذي كان كثيرا ما يقوم بدور الحمك بين افرادها. كما كان التحكيم يقام بين القبائل لفض  نزاعاتها.  لقد  كان  تنفيذ  القرار التحكيمي اختياريا ايضا ويعتمد اساسا على سلطة المحكم المعنوية بين الناس اومايتخذه من اجراءات تحفظية قبل اصدار  قراره كان يضع الاطراف الشيء  المتنازع  عليه  لدى  شخص ثالث لتنفيذ القرار عند اصدار وبذلك يكون الخصوم قد حددوا وسيلة (1).

بظهور الاسلام في شبه الجزيرة  العربية  حصل تحول جذري رفع المجتمع من نظام  قبلي  يطبق  الاعراف  والعادات بشكل عشوائي الى دولة ذات سيادة وسلطة تبشر بالاسلام وتطبق تعاليمه على كافة شؤون الحياة يقودها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء الراشدين.

يعتبر القران الكريم شريعة المسلمين الاولى والمصدرالاول للتشريع بحي يرجع اليه اولا في كل حكم كونه يشتمل على تفصيل حكيم لشؤون الدين والدنيا. ثم تاتي بعد ذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من قول اوفعل اوتقرير وتعتبر تفسيرا لاحكام القران ومصدرا ثانيا مكملا للشريعة الاسلامية. ويلي ذلك الاجماع ، وهو اتفاق مجتهدي الامة الاسلامية في عصر من العصور على حكم شرعي في واقعة  معينة، ثم القياس، وهو الحاق 
---------------------------------
د. صبحي الحمصاني - الاوضاع التشريعية في البلاد العربية، ماضيها وحاضرها- دار العلم للملايين- الجزء الثاني ص 31 وما بعدها.
واقعة لم ينص على حكمها بواقعة منصوص على حكمها  لاشتراكهما بعلة هذا الحكم ويعتبر الاجماع والقياس من نتائج الاجتهاد الذي هواعم واسبق.
لقد تناول بالشرح والتفسير احكام الشريعة الاسلامية اربع مدارس فقهية مشهورة كلها تنبع من المصادر السابقة للشريعة وهي متفقة على المبادىء العامة وان اختلفت في التفاصيل حسب اجتهاد كل مذهب منها. فما هو موقف الشريعة الاسلامية من التحكيم؟
للاجابة عن هذا السؤال يتعين دراسة مبدا التحكيم في ا لشريعة الاسلامية بصفة عامة ثم اتفاقية التحكيم اوشرط  التحكيم في الفقه الاسلامي بصفة  خاصة مع مقارنة  كل ذلك بالتشريعات العربية  الوضعية المستقاة من الشريعة  الاسلامية (2).

الفرع الاول: مبدا شرعية الاتفاق التحكيمي
ان المبادىء العامة للتحكيم هي الاساس الذي يقوم عليه الاتفاق التحكيمي. لقد طرحت الشريعة الاسلامية المبادىء العامة للتحكيم في مصادرها المتعددة ثم جاءت التشريعات العربية الوضعية المعاصرة بمبادىء عامة للتحكيم متاثرة في ذلك بمااقرته  الشريعة الاسلامية وما املته ضرورات التطور الناتجة عن ظهور علاقات جديدة في التعامل المدني والتجاري.
لذلك سوف نتعرض في هذا البحث لموقف الشريعة الاسلامية من مبدا اللجوء الى التحكيم لفض النزاعات بصفة عامة ثم نقارن ذلك بما وصلت اليه التشريعات العربية الوضعية.

مبدا التحكيم في الشريعة
لقد اعترف الاسلام بشرعية التحكيم حيث ورد ذكره في القران الكريم عدة مرات : منها قوبله تعالى " ا ن الله يامركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل…. " (سورة النساء 58) هذه الاية  تكرس المبدا العام للتحكيم في الاسلام وهي 
تتناول خطابا لكل المسلمين ليس موجها للقاضي فقط وانما  موجها  لكل من ينظر في نزاع بين الناس. كما نصت على مبدا التحكيم اية اخرى من القران الكريم حيث يقول الله تعالى " فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" (سورة النساء65).
--------------------
د. عبد الحميد الاحذب، "التحكيم" منشورات ايكونوميكا 1988 ومنشورات نوفل 1990، الجزء الاول صفحة 51 وما بعدها.
ثم جاءت اية اخرى من القران الكريم تحدد بوضوح ميدان التحكيم منها قوله تعالى وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من اهله وحكما من اهلها ان يريد اصلاحا يوفق الله بينهما ان الله كان عليما خبيرا…. (سورة النساء 35) .
ولقد جاءت سنة ا لرسول صلى الله عليه وسلم مؤيدة للتحكيم حيث عين الرسول حكما في احدى القضايا التي عرضت عليه ووافق على القرارالتحكيمي الذي اصدره المحكم (3) كما انه نصح  احدى القبائل ان تحل نزاعاتها بواسطة  التحكيم (4).
وقد اجمع الصحابة على ا لاعتراف  بالتحكيم لفض النزاعات بل طبقوه على انفسهم وذلك عندما حصل نزاع بين ا لخليفة عمربن الخطاب امير المؤمنين ورجل من عامة الناس واتفق الخليفة والرجل على حل النزاع عن طريق التحكيم واختارا محكما وذهبا اليه في بيته وجلسا امامه على قدم المساواة وعرضا عليه النزاع وفصل فيه ورضيا بحكمه.

كما جرى التحكيم فيما يتعلق با لسلطة والحكم في عهد الخلفاء الراشدين وذلك عندما حصل نزاع حول الخلافة بين علي بن ابي  طالب ومعاوية بن ابي سفيان ونشبت على اثر ذلك حرب اهلية بين المسلمين وطلب جيش معاوية الاحتكام الى القران  وعين كل منهما حكما من جانبه وهو اول تطبيق عملي للتحكيم في حالات النزاع على السلطة.
كما كان الاجماع، وهو ثالث مصدرللشريعة الاسلامية، مؤيدا لمبدا التحكيم في المنازاعات ولم يختلف فقط فيما يتعلق بطبيعة  التحكيم وميدان تطبيقه.
ويتقاسم هذا الموضوع نظريتان (5): 
اولا: تنطلق النظرية الاولى من ان التحكيم هو تحكيم بالصلح غير اجباري بين الاطراف وغيرملزم لهما وتستند هذه النظرية على قوله تعالى في ا لقران الكريم "وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من اهله ومن اهلها  ان يريدا اصلاحا  يوفق الله بينهما… "
(سورة النساء 35).

ويرى المفسرون لهذه الاية الكريمة ان عدد المحكمين مزدوج ولايكون هناك قرار تحكيمي الا باجماع المحكمين ويعتبر نهائيا الا في حالة  القبول به من قبل  المتنازعين 
--------------------------
د. محمد ضياء العظمى - "احكام النبي " 1978 ص 676.
 د. الاحذب- المرجع السابق ص 75.
 شهاب الدين ابن ابي اسحاق كتاب القضاء بحث د/ وهبي الزهيلي، منشورات المجمع العلمي ص 138-139 .  
ويرون الزامية  القرارالتحكيمي تعد طعنا وتشكيكا في سلطة أي سلطة الامام اوالاميرومن ثم يعتبرون انه لا يعد الزاميا ونافذا في حق المتنازعين الا برضائهما واعتماد  القاضي له.

ثانيا: وتستند النظرية الثانية  على الاية الكريمة "ان الله يامركم  ان تؤدوا الامانات الىاهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل … (سورة النساء 85). وتعني هذه الاية  ان الحكم بصفة عامة والقرار التحكيمي بصفة خاصة يجب ان يكون عادلا وملزما  للفرقاء وحتى يكون كذلك لابد ان يكون عدد المحكمين  وترا حتى تتمكن الاغلبية  من اتخاذ القرار في حالة عدم الاجماع، وبذلك لايختلف دور المحكم عن دور القاضي في ان كلاهما يفصل في الخصومة طبقا لقواعد الشريعة الاسلامية .

يمكن القول  ان الاتجاهين يصبان في النهاية في قناة  واحدة وهي التحكيم بالصلح (6) مع الملاحظة ان هذا المفهوم يختلف عن مفهوم التحكيم في ا لتشريعات الغربية لان كل منهما خصائص لاتتطابق بالضرروة مع الاخر حيث ان كلا منهما نابع  من اساس وتراث مختلف، وذلك ان نظرية التحكيم في  الشريعة الاسلامية تستمد اساسها من مصدر الهي قراني بينما تستمد النظريات الوضعية الاخرى اساسها من واقع حتمه تطور العلاقات الانسانية.
لقد تناولت المدارس الفقهية الاسلامية الاربع المشهورة موضوع التحكيم انطلاقا من النظريتين المشار اليهما وذلك عل النحو التاليز
المذهب الحنفي (7): يعتبر اتباع المذهب الحنفي ان التحكيم عمل مشروع انطلاقا من انه مجاز بالنص في القران الكريم والسنة ولاجماع ومشروع على الصعيد الاجتماعي لانه يلبي حاجات اجتماعية ويبسط اجراءات التقاضي بين الناس. ويرى المذهب الحنفي ان المحكم يمارس نفس مهمة ا لقاضي ولكنه يعتبر ان التحكيم يقترب كثيرا مهه التفويض والمصالحة .

 المذهب الشافعي (8): يعتبرائمة المذهب الشافعي ان اللجوء الى  التحكيم عمل سليم ومشروع حتىمع وجود قاض في المكان  الذي نشا فيه النزاع ولكنهم يرون ان للمحكم دورا يقل عن دور القاضي  بالامكان عزل المحكم قبل اصدار قراره على عكس القاضي.
--------------------
(6) عمر القاضي- "التحكيم بين الشريعة الاسلامية والقانون الفرنسي والمصري "، اطروحة دكتورة بباريس 2 ص 190-192.
(7) شرح فتح القدير ج 5 ص 498
(8) رد المحتار- ابن عتبدين - الموردي، ادب القاضي ، ص 379 
(3) المذهب المالكي (9): يعطي المالكية التحكيم ثقة كبيرة لدرجة انهم يخولون احد الفرقاء ان يكون حكما في قضية هو طرف فيها اذا اختاره الطرف الاخر لهذه المهمة وذلك باحالة النزاع الىضمير الخصم كما هو الامر في اليمين الحاسمة.

ويعتبر المالكية ان قرار المحكم له صفة  الزامية الا في الحالة التي يظهر فيها "ظلم فاضح". الا انهم يرون ان القاضي يحتفظ ببعض سلطات الرقابة والتاكد من ان الحكم لم يصدر قرارا ظالما وهواساس قاعدة بطلان احكام المحكمين الواردة في ا لتشريعات العربية الوضعية.
(4) المذهب الحنبلي (10): يعتبر مجتهدوا المذهب الحنبلي ان القرار الذي يصدره المحكم له صفة  الالزام مثل احكام القاضي ويتعين ان يكون المحكم اهلا لممارسة المهمة التي اختاره لها الفرقاء ويجب ان تتوافر فيه شروط القاضي.

ومن هذا  العرض نرى ان المذاهب الاسلامية على مختلف مدارسها المشهورة تقر اساس مبدا التحكيم وان هذا المبدا ليس مقيدا في تطور مفاهيمه وقواعده الا بما  نصت على حظره مصادر التشريع الاسلامي وذلك مثل حظرالتحكيم في حقوق الله وحدوده كالحد وا لقصاص وغيرها، وبذلك تطور مفهوم التحكيم في الفقه الاسلامي ليلائم حاجات  العصر النظرية الاسلامية وفي حدود ما اباحته ا لشريعة الاسلامية وما حرمته من امور.
ويمكن القول ان مهمة المحكم هي الفصل في النزاع وفقا لقواعد العدل والانصاف مثله مثل القاضي العادي مما يجعل التحكيم في الاسلام يتفق في ذلك مع ما هو عليه التحكيم في ا لانظمة الوضعية الاخرى.

مبدا التحكيم في التشريعات العربية الوضعية
يجب التقرير اولا ان التشريعات  العربية المعاصرة قد نصت على ان الشريعة الاسلامية هي المصدر الاساسي للقانون الوضعي العربي، بل ان دساتير كثيرمن الدول العربية قد نصت على ان القران هو شريعة المجتمع وهو الدستور الاعلى وذلك مثل الجماهيرية الليبية التي نص  اعلان سلطة الشعب فيها علىان القران هو شريعة
------------------
 (9) تبصرة  الحكام، ابن فرحوم، القاهرة، 1958 جزءا ص 55
-(10) ابن قوامة، ج 9، القاهرة 1376- ص 107.
المجتمع وكذلك في المملكة العربية السعودية حيث ان القران هو دستورالبلاد وكذلك الدستور القطري لسنة 1979.
وبذلك تعتبر التقنيات العربية الوضعية مستقاة اساسا من احكام الشريعة الاسلامية وفقا للمذهب المطبق في كل بلد.

لقد مرت التشريعات  العربية الوضعية بمرحلتين تاريخيتين: 
اولا: كانت الاولى في العهد العثماني حيث تم وضع اول تقنين للشريعة الاسلامية ف العهد الاخير للامبراطورية العثمانية عندما صدرت "مجلة الاحكام العدلية" عام 1876 والتي تناولت الامور المتعلقة بالقانون المدني الاسلامي (11)  والذي جرى تطبيقه على كافة انحاء الامبراطورية وفي البلاد العربية  التي كانت في ذلك الوقت جزءا منهاوظلت مطبقة في هذه البلاد حتى بعد سقود الامبراطورية العثمانية والى ان  اصدر كل بلد قانونه  الوضعي الخاص به.
خصصت  مجلة المحاكم العدلية بابا كاملا للتحكيم وقد حددت المادة الاولى من هذا الباب ميدان ا لتحكيم في دعاوي المال (المادة 1841) وقد جاءت احكام المجلة مبنية علىالطبيعة التعاقدية والتي تقارب الصلح  اكثر من مقاربتها للاحكام القضائية.

ويرى مفسروا احكام المجلة (12) ان للقرار التحكيمي قوة ادنى من قوة الحكم القضائي وانه يجوز للقاضي ان يلغي القرارالتحكيمي اذا كان مخالفا لقناعته الا ان ذلك لايعفى الفرقاء من تنفيذه  وفقا لاحكام الشريعة الاسلامية وبالتالي له قوة الزامية  مماثلة لقوة العقد.
ثانيا: بعد انفصال الاقطار العربية عن الامبراطورية العثمانية وتحررها من الاستعمارالغربي الذي تلى ذلك  وضعت كل دولة بعد الاستقلال تشريعها المدني الخاص بها وا لذي راعى المشرعون العرب بالقانون المدني الفرنسي اكثر من غيره (13) الا انهم راعوا تعارضه مع قواعد الشريعة الاسلامية.
------------------------
(11) استقت المجلة  موادها من الفقه الاسلامي، وخصوصا فقه المذهب الحنفي الذي تطبقه الامبراطورية العثمانية.
(12) على حيدر "دور الحكام في شرح مجلة الاحكام - ترجمة ذ/ فهمي الحسيني، ص 639 وما بعدها .
(13) الاردن، السودان، اليمن تاثروا مثلا بالنظام ا لانجلوساكسوني.

ان اغلب التشريعات  المدنية اليوم، وخصوصا قوانين المرافعات  المدنية والتجارية، خصصت فصلا لقواعد التحكيم وتنظيمه واجراءاته، وكثير منها فصل بين  ا لتحكيم التجاري المدني والتحكيم بين الازواج وذلك لورود نصوص خاصة به في القران الكريم. كذلك نصت التشريعات العربية التي تنظم غرف التجارة والصناعة فيها على اختصاص هذه الغرف بتشكيل هيئات تحكيم مدنية لفض النزاعات التجارية بين الاطراف الذين يرغبون في الالتجاء اليها.
لقد نظمت التشريعات  المدنية القواعد المتعلقة بشرط التحكيم في العقود والاتفاق التحكيمي اللاحق وكذلك قواعد تعيين المحكمين والاجراءات التي يمكن اتباعها امامهم وحددت اسباب بطلان احكام المحكمين وحدود رقابة القضاء على هذه الاحكام (14) وهي عموما لاتختلف  من حيث المبدا عن التشريعات  الغربية الحديثة  في هذا الخصوص.
ويتضح من هذا التلخيص ان الشريعة الاسلامية  اقرت مبدا التحكيم واباحت اللجوء اليه لفض المنازعات التعلقة  بشؤون الناس اليومية باستثناء ما حرمته الشريعة وجاءت التشريعات العربية المعاصرة مؤكدة لهذا المبدا مطورة له بما يتفق وحاجات  العصر الحديث دون تعارض مع احكام الشريعة الاسلامية.

ولايغير من ذلك الموقف المعارض لبعض الدول العربية من التحكيم مثل الموقف السابق للمملكة العربية السعودية والجزائر وليبيا حيث اصدرت كل منها قانونا يحرم ادراج  شرط التحكيم في عقود الدولة لان هذا الموقف كان وليد تجربة مريرة وغير عادلة من بعض احكام التحكيم الصادرة ضدها ولم يكن هذا الموقف راجعا لاسباب تتعلق بتطبيق احكام الشريعة الاسلامية بل كان لاسباب سياسية وموضوعية سرعان ما عادت هذه الدول وغيرت تشريعاتها بقبول مبدا التحكيم على ا لنحو الذي سبق بيانه.
واذا كان مبدا التحكيم لا خلاف حوله فان شرط التحكيم المدرج في العقد اواتفاق التحكيم اللاحق للنزاع هوالاساس الذي يظهر ارادة الاطراف في اللجوء الى التحكيم فما هي النصوص الشرعية والوضعية التي تتعلق بصحة هذا الشرط اوالاتفاق وقوته الالزامية واثارة القانونية، وهو ما سنتناوله في المبحث التالي هذه الدراسة.

-----------------------------------------
(14) د. عبد الحميد الاحدب- المرجع السابق ، ج 4 ص 215 
الفرع الثاني: الاتفاق التحكيمي 
ان شرط التحكيم الوارد في ا لعقد اواتفاق التحكيم اللاحق  يحتل مكانة هامة وذلك باعتباره حجر الاساس في اللجوء الى التحكيم وهو الاستثناء  من قاعدة الاختصاص العام للمحاكم.
ولقد تعددت  الاراء حول صلاحية هذا الاتفاق باعتبار ان اتفاقية التحكيم ليست من العقود المساماة التي عددها الفقه الاسلامي علىسبيل  الحصر.
ان فقهاء المسلمين لم يحاولوا وضع نظرية عامة للعقد بل تناولوا بعض العقود عقدا وبترتيب مختلف من كتاب لاخر(15) ولكن يظهر من دراسة  هذه العقود قاعدة فقهية عامة وهي "ان المسلمين عند شروطهم" وان كل اتفاق تتوافر فيه الشروط التي يقررها الفقه الاسلامي يكن عقدا مشروعا ومن ثم فان ما ذكره  الفقهاء من العقود المسماة انما هي العقود التي يغلب فيها التعامل في زمنهم فاذا استحدثت الحضارة عقودا اخرى توافرت فيها الشروط المقررة فقها كانت عقودا مشروعة وملزمة لاطرافها وهذا  هوالاتجاه الذي اخذا به ا لتشريعات العربية الوضعية المستقاة من احكام الشريعة الاسلامية.
يمكن اللجوء  الى التحكيم باحدى الوسيلتين : اما بنص في صلب عقد من العقود، واما باتفاق لاحق مستقل أي في عقد خاص بالتحكيم.
ولكل من هذين النوعين شروطه في الفقه الاسلامي وفي ا لقانون العربي المعاصر.
شرط التحكيم الوارد في العقد
لم يتطرق الفقه الاسلامي بصورة مباشرة للشرط التحكيمي الوارد في ا لعقد، ولكن يمكن دراسته على ضوء اراء الفقه ا لاسلامي في الشروط المقترنة بالعقد.
اولا- الشرط الصحيح:
وهو مشروع ويجب ان يكون:
شرطا يقتضيه العقد.
 ا شرطا يلائم العقد ويتعين لصحته ان لايكون محل العقد مجهولا او يخفي مقامرة او غررا والا اصبح شرطا فاسدا وان لاتكون فيه زيادة منفعة لايقتضيها العقد والا كان شرطا يخفي ربا.
------------------
(15) د. عبد الرزاق السنهوري،" مصادر الحق في الفقه الاسلامي" ج 2 ص 40
اوشرطا جرى به التعامل بين الناس.

ثانيا - الشرط الفاسد:
فرق الققه الاسلامي بين نوعين من الشروط الفاسدة.
شرط فاسد يسقط وبيقى العقد صحيحا وهوالشرط أي لايحقق منفعة لاحد الاطراف ولايمكن المطالبة بتنفيذه.
 شرط فاسد يسقط ويؤدي سقوطه الى فساد العقد بكامله وذلك مثل الشروط التي تتضمن منفعة لايقابلها  عوض لانها تعتبر ربا اوكانت تتضمن غررا والتي  حرمتها الشريعة الاسلامية لتجنب المقامرة والمراهنة والمضاربة عندما يكون الاطراف في وضع لا يسمح لهم بمعرفة مدى  التزامهم.
ولعل اهم تطورات للشريعة الاسلامية في هذا الخصوص قد جاء عل يد ابن تيمية لذي طور المذهب الحنبلي  في مسالة اقتران الشرط بالعقد وضيق من دائرة الشروط الفاسدة، فلا يكون  الشرط فاسدا حسب وجهة نظر ابن تيميمة الا اذا كان منافيا لمقتضى العقد اومناقضا للشرع الاسلامي أي مخالفا للنظام العام والاداب وبذلك يقترب المذهب الحنبلي على هذا النحو من الفقه الغربي الذي يعتبر ان كل شرط يقترن بالعقد يكون صحيحا الا اذا كان شرطا مستحيلا اوشرطا يخالف  القانون  اوالنظام  العام اوالاداب فيلغي الشرط ويصح العقد مالم يكن الشرط هو الدافع الى التعاقد فيبطل العقد ايضا. (16)
من هذا العرض يمكن القول بان الفقه  الاسلامي وان لم يات على ذكر شرط التحكيم بصورة مباشرة الا انه بتطبيق القواعد التي اقرها هذا الفقه على الشروط المقترنة بالعقد بصفة عامة مباشرة الا انه بتطبيق  القوعد التي اقرها هذا الفقه على الشروط المقترنة بالعقد بصفة عامة فانه يمكن اعتبار شرط التحكيم لايقع ضمن دائرة الشروط الفاسدة المقترنة بالعقد ويعتبر شرطا صحيحا لانه من مقتضيات العقد ولاسيما في عقود التجارة الدولية اصبح  شرط التحكيم فيها من اهم الشروط واكثرها  شيوعا ولانه من جهة اخرى يلائم بالعقد وان كان سابقا للنزاع ولايتضمن غررا او مقامرة اوربا بل يتضمن  احتكاما للحق والعدالة ويحقق منفعة للفريقين على قدم المساواة في تحديد طريقة  فض النزاعات الناشئة عن العقد (17).

-------------------------
(16) د/ عبد الرزاق السنهوري ، المرجع السابق، ج 3 ص 172
(17) د/ عبد الحميد الاحدب، المرجع السابق ج 1ص 74
لقد جاءت التشريعات العربية  الوضعية  المعاصرة مقررة لمبدا شرعية شرط التحكيم الوارد في العقد حيث افردت اغلب قوانين المرافعات المدنية والتجارية  نصوصا خاصة بشرط التحكيم المرتبط بالعقد والامثلة على ذلك كثيرة منها المادة 739/1 من قانون المرافعات الليبي الذي تنص على انه "يجوز للمتعاقدين ان يشترطوا بصفة عامة عرض ما قد ينشا بينهم من نزاع في تنفيذ عقد معين على محكمين………… "وذات النص ورد في المادة 233 من قانون المرافعات البحريني والمادة 1 من نظام التحكيم السعودي لسنة 1983 والفصل 309 من قانون المسطرة المدنية المغرب.

2-اتفاقية التحكيم المستقلة عن العقد
ان العقد المتضمن اتفاقية التحكيم اللاحقة لعقد من العقود، اوعلى اثر نشوب نزاع معين، تعتبر منفصلة عن العقد السابق لها فيما بشروط صحتها، ولاتنسحب الى اتفاقية التحكيم شروط صحة العقد الاول اومصدر النزاع فاذا كان محل النزاع صحيحا وشاب اتفاقية التحكيم اللاحقة عيب من العيوب فانها تكون باطلة بالرغم من صحة العقد الاول والعكس صحيح.

ان اتفاقية التحكيم تعبتر من العقود الصحيحة وفقا للشريعة الاسلامية وذلك تطبيقا لماجاء به القران الكريم والسنة واجتهاد الفقه على النحو السابق بيانه وفي ذلك يقول ابن تيمية "ان الاصل في العقود الجواز والصحة ولايحرم منها الا ما دل على تحريمه وابطاله نص اوقياسي " ويدل على ذلك بالنقل والعقل فيقول: "اما النقل فلقوله تعالى "ياايها الذين امنوا اوفوا بالعقود "واما العقل فيقول ابن تيميمة " ان العقود اوالشروط من باب الافعال العادية وليست من العبادات والاصل فيها عدم التحريم….. فالوفاء بالعقود واجب خاصة بعد ان ارضيه المتعاقد مختارا لان الاصل في العقود رضى المتعاقدين لقوله تعالى "الا ان تكون تجارة عن تراضي "الا في ما حرمه الله كالتجارة  في الخمر…. (18). نستنتج من ذلك ان عقد التحكيم ملزم لاطرافه الا اذا تضمن موضوعا حرمه الله اواذا كان مخالفا للنظام العام.
ويقول الدكتور السنهوري في هذا الخصوص " ان هناك قاعدة فقهية تفرض علىالمسلمين احترام التزاماتهم التعاقدية وان كل عقد يتضمن أي شرط مقبول بموجب الشرع الاسلامي هوعقد قانوني وبالتالي عقد الزامي ويستند السنهوري في ذلك لماورد عن  النبي صلى الله عليه وسلم انه قال "المسلمون عند شروطهم". 
---------------------

(18) فتاوى ابن تيمية - الجزء 3 ص 336.
ويترتب على ذلك ان الاتفاق التحكيمي وان كان  لايعتبر عقدا من العقود المساماة التي درسها وفصلها فقهاء الشريعة الاسلامية الا انه يعتبر  عقدا صحيحا والزاميا بين اطرافه وذلك على النحو الذي ذهب اليه السنهوري من تحليله من ان العقود التي ذكرتها كتب الفقه الاسلامي انما هي التي كان يغلب التعامل فيها في زمنهم ولاشىء يمنع من اضافة عقود جديدة اليها كلما تطلبت حاجة التعامل والتطورذلك (19).
ان اتفاقية التحكيم باعبتارها عقدا مستقلا، يشترط لصحتها ما يشترط لصحة باقي العقود. واهم شروط  صحة الاتفاق التحكيمي مايلي: 

اولا - الرضى :
ان عقد التحكيم لايختلف عن غيره من العقود التي يجب لصحتها ان تكون صادرة عن رضى معطى بصورة سليمة والا يكون الرضى مشوبا باي عيب من العيوب التي تخل به.
ولقد احتوت الشريعة الاسلامية على ذات المبادىء المتعلقة بالرضى وعددت العيوب المتعلقة بصفات موضوعية كالغبن والاكراه اوبصفات شخصية كالخطا والخداع.
وبذلك فان الشريعة الاسلامية سبقت التشريعات الوضعية المعروفة اليوم في تقرير المبادىء  العامة بصحة الرضى في العقود والعيوب التي يمكن ان تشوبه.

ثانيا - الاهلية:
ان عقد التحكيم يجب ان يكون صادرا عن شخص متمتع بالاهلية القانونية للتصرف وبذلك  لايصح عقد القاصر والمجنون والمعتوه وذي الغفلة والمحجوز عليه .
ثالثا - المحل:
القاعدة العامة هي ان التحكيم جائز فيما لم يرد بشانه نص شرعي يمنع ذلك وقد استثنت الشريعة الاسلامية بعض المواضيع من التحكيم وهي التي  تتعلق بحقوق الله والمواضيع المتلقة بالوصاية على الايتام القاصرين وكل ما يتعلق بالنظام العام (20).
وتطبيقا لهذه المبادىء جاءت التشريعات الوضعية العربية متفقة مع احكام الشريعة الاسلامية حيث اقرت اغلب هذه التشريعات شرعية عقد التحكيم اللاحق للنزاع بمشارطة 
----------------------
(19) د/ عبد الرزاق السنهوري - المرجع السابق ص 8.
 (20) فتاوى ابن تيمية -ج 3 ص 340.
تحكيم خاصة فمثلا نصت المادة 258 في قانون المرافعات التونسي على انه يجوز الاتفاق على التحكيم في كل نزاع معين موجود…. "ووردت نصوص مشابهة في القانون المصري والليبي والبحريني وغيرها من التشريعات العربية الاخرى في نصوص مشابهة  وافردت هذه التشريعات نص خاصا باتفاق التحكيم اللاحق اوكما سمتها بعض التشريعات مشارطة التحكيم  الخاصة وفرقت  بينها وبين شرط التحكيم اوبند التحكيم الوارد في عقد من العقود.
وقد نصت التشريعات العربية على ان يكون  اتفاق التحكيم مكتوبا وان يكون موضوع النزاع محددا في عقد التحكيم او مشارطة التحكيم وذلك  على اعتبار ان النزاع قد نشا قبل الاتفاق على التحكيم ولانه استثناء من الاصل العام لاختصاص القضاء.

ولكن لاشيء يمنع ان يعقد اتفاق التحكيم في شان  عقد من العقود القائمة والتي لا تحمل شرطا للتحكيم بمعنى انه يجوز للمتعاقدين باتفاق تحكيمي خاص تعديل الاختصاص القضائي الوارد في عقد من العقود والنص  على احالة النزاع  على التحكيم .
ويتبين من دراسة  التشريعات العربية انها اقرت المبدا العام للتحكيم ولكنها على غرار الشريعة الاسلامية استثنت بعض الامور من التحكيم ونجد في كل التشريعات العربية النص التالي " لايجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح…".
وهي الامور التي لايجب ان تدرج في شرط التحكيم التعاقدي اواتفاقية التحكيم اللاحقة والا عدت باطلة وهي مثل الامور المتعلقة بالحدود والاحوال الشخصية، والارث والامور المتعلقة بالنظام العام.

اثار شرط التحكيم :
لقد راينا ان الفقه الاسلامي يتجه الى اعتبار شرط التحكيم في الامور المدنية والتجارية ذا طبيعة توافق ومصالحه اكثر من كونه  اختصاصا قضائيا تحكيميا. وبالتالي يرى الفقهاء ان عقد اوشرط التحكيم وان كان عقدا صحيحا الا انه ليس ملزما لاطرافه وبامكان أي من الاطراف ان يتحلل منه طالما ان المحكم لم يباشر بعد النظر في النزاع.

كما يرى الفقه ان الاتفاق التحكيمي لا يجرد القاضي من اختصاصه الاصيل فاذا لجا احد الاطراف الى القاضي فانه ينظر في النزاع دون ان ياخذ بعين الاعتبار الاتفاق التحكيمي. ويخلص الفقه الاسلامي من ذلك الى اعتبارعقد التحكيم والعلاقة بين المحكم والاطراف ترتكز الى تفويض منهم ويجوز بالتالي لاي منهم سحبه قبل الدعوى.
وبذلك يمكن القول انه في ظل اراء الفقه الاسلامي فان شرط التحكيم يظل عقدا معلقا على ارادة الاطراف المعنية ولا ينتج اثره الالزامي الاعند نظر المحكم في النزاع.

اما التشريعات الوضعية العربية فقد طورت تفسير قواعد الشريعة الاسلامية بما يتفق وتطور العلاقات الانسانية ويمكن ايجاز اثار شرط التحكيم في العقد اواتفاقية التحكيم اللاحقة في ظل هذه التشريعات كما يلي:
1 استقلال شرط التحكيم عن العقد المدرج ومن ثم يبقى شرط التحكيم قائما عند انتهاء العقد اوبطلانه لاي سبب من الاسباب. 
(2) يترتب على شرط التحكيم تنازل الخصوم عن حقوقهم في ا لالتجاء الى المحكمة المختصة اصلا بنظرالنزاع ولايجوز الرجوع عن التحكيم الا باتفاق الطرفين (21).

اذا قام احد الاطراف برفع دعوى امام القضاء المختص  فان يجوز للطرف الاخرالتمسك بشرط التحكيم وهو دفع بعدم القبول ليس من النظام العام وانما مقرر لمصلحة الخصوم ومن ثم يجب الدفع به في اول جلسة وقبل التكلم في موضوع النزاع (22).
وهذا يعني ان المحكمة لا تقضي بعدم اختصاصها من تلقاء نفسها بل لابد ان يثيرالدفع بالتحكيم احد الخصوم والا اعتبر السكوت والاستمرار في الدعوى بمثابة تنازل من الخصوم عن شرط التحكيم.

والتنازل عن شرط التحكيم يمكن ان يكون صريحا قبل اوخلال رفع الدعوى امام  القضاء ويمكن ان يكون ضمنيا كالسكوت عن الدفع به امام المحكمة السير في الدعوى دون اثارة الشرط التحكيمي.
ونخلص من ذلك ان شرط التحكيم ملزم لاطرافه في حدود ارادتهم وهي الزامية ليست من النظام العام انما مقررة لصالح الاطراف ويجوز لهم في أي  وقت ان يتنازلوا عن حقهم في التحكيم صراحة او ضمنا.

--------------------
(21) المادة الرابعة  من قانون التحكيم الادرني والمادة 233 من مرافعات بحريني والمادة 253 من قانون المرافعات العراقي.
(23) المادة 6 من قانون التحكيم الاردني والمادة 253/2 مرافعات  عراقي والمادة 256 من قانون المرافعات البحريني.
الخاتمة 
من هذا العرض الموجز للمبادىء العامة للشريعة الاسلامية  والقانون الوضعي العربي فميا يتعلق بشرط التحكيم يمكن ان نستخلص ان التحكيم في  الشريعة الاسلامية  عمل مشروع في المعاملات المدنية والتجارية وان الاباحة في اللجوء الى التحكيم هي الاصل، والاستثناء هوما حرمته الشريعة الاسلامية من الامور غير القابلة للصلح.

ويمكن اعتبار شرط التحكيم الوارد في العقد اواتفاقية التحكيييم الناشئة عن نزاع صحيحا وملزما في الفقه الاسلامي ولكن يتجه الفقه الاسلامي الى اعتبار التحكيم نوعا من انواع التفويض للمحكم يجوز الرجوع عنه في  اية لحظة قبل بداية التحكيم ولايسلب اختصاص القاضي الا اذا شرع المحكم في مهمته باعتبار التحكيم عملا اختياربا.

وجاءت التشريعات العربية الوضعية مقررة لمبدا التحكيم في حدود قواعد الشريعة الاسلامية ومطورة للتحكيم وفقا لحاجات العصر وفصلت بين شرط التكيم في العقد والاتفاق التحكيمي اللاحق واجازت اللجوء الى التحكيم بين الافراد وكذلك الدولة في عقودها ومعاملاتها الدولية.
واعتبرت شرط التحكيم اواتفاق التحكيم ملزما لاطرافه ومقيدا لاختصاص المحاكم المختصة بنظر النزاع ولكن باعتبار التحكيم عملا اختياريا فانه يجوز الرجوع عنه باتفاق الاطراف صراحة اوضمنا بقبول نظر الدعوى اما المحكمة المختصة وعدم الدفع بشرط التحكيم امام القاضي لانه ليس دفعا من النظام العام وانما قرر لمصلحة الافراد ولايمكن للمحكمة ان تثيره من تلقاء نفسها.

وبذلك يمكن ان نخلص الى انه ليس هناك تعارض بين الشريعة الاسلامية  والقانون الوضعي العربي في ما يتعلق بالتحكيم بل ان التشريعات الوضعية هي تفسير لاحكام الشريعة الاسلامية في هذا المجال وتقنين لمبادئها العامة في ان التحكيم يحقق منفعة الناس واصبح اليوم عرفا للتعامل خصوصا في عقود التجارة الدولية وان التشريعات العربية المعاصرة التي اتخذت موقفا سلبيا من التحكيم في فترة من الفترات لم يكن  ذلك نتيجة مخالفته لقواعد الشرع الاسلامي  بل لاسباب موضوعية وسياسية سرعان ما عدلت عنها كافة التشريعات العربية المعاصرة واصبح التحكيم بصفة عامة والتحكيم التجاري الدولي لدى المؤسسات المتخصصة مثل غرفة التجارة الدولية يشكل عنصرا هاما من عناصر التجارة الدولية والثقة في قضاء التحكيم الذي اصبح يثبت يوما بعد يوم كفاءته وقدرته على فض المنازعات التجارية الدولية بسهولة وعدالة.


(18) فتاوى ابن تيمية - الجزء 3 ص 336.
ويترتب على ذلك ان الاتفاق التحكيمي وان كان  لايعتبر عقدا من العقود المساماة التي درسها وفصلها فقهاء الشريعة الاسلامية الا انه يعتبر  عقدا صحيحا والزاميا بين اطرافه وذلك على النحو الذي ذهب اليه السنهوري من تحليله من ان العقود التي ذكرتها كتب الفقه الاسلامي انما هي التي كان يغلب التعامل فيها في زمنهم ولاشىء يمنع من اضافة عقود جديدة اليها كلما تطلبت حاجة التعامل والتطورذلك (19).
ان اتفاقية التحكيم باعبتارها عقدا مستقلا، يشترط لصحتها ما يشترط لصحة باقي العقود. واهم شروط  صحة الاتفاق التحكيمي مايلي: 
اولا - الرضى
ان عقد التحكيم لايختلف عن غيره من العقود التي يجب لصحتها ان تكون صادرة عن رضى معطى بصورة سليمة والا يكون الرضى مشوبا باي عيب من العيوب التي تخل به.
ولقد احتوت الشريعة الاسلامية على ذات المبادىء المتعلقة بالرضى وعددت العيوب المتعلقة بصفات موضوعية كالغبن والاكراه اوبصفات شخصية كالخطا والخداع.
وبذلك فان الشريعة الاسلامية سبقت التشريعات الوضعية المعروفة اليوم في تقرير المبادىء  العامة بصحة الرضى في العقود والعيوب التي يمكن ان تشوبه.
ثانيا - الاهلية:
ان عقد التحكيم يجب ان يكون صادرا عن شخص متمتع بالاهلية القانونية للتصرف وبذلك  لايصح عقد القاصر والمجنون والمعتوه وذي الغفلة والمحجوز عليه .
ثالثا - المحل:
القاعدة العامة هي ان التحكيم جائز فيما لم يرد بشانه نص شرعي يمنع ذلك وقد استثنت الشريعة الاسلامية بعض المواضيع من التحكيم وهي التي  تتعلق بحقوق الله والمواضيع المتلقة بالوصاية على الايتام القاصرين وكل ما يتعلق بالنظام العام (20).
وتطبيقا لهذه المبادىء جاءت التشريعات الوضعية العربية متفقة مع احكام الشريعة الاسلامية حيث اقرت اغلب هذه التشريعات شرعية عقد التحكيم اللاحق للنزاع بمشارطة 
----------------------
(19) د/ عبد الرزاق السنهوري - المرجع السابق ص 8.
 (20) فتاوى ابن تيمية -ج 3 ص 340.

تحكيم خاصة فمثلا نصت المادة 258 في قانون المرافعات التونسي على انه يجوز الاتفاق على التحكيم في كل نزاع معين موجود…. "ووردت نصوص مشابهة في القانون المصري والليبي والبحريني وغيرها من التشريعات العربية الاخرى في نصوص مشابهة  وافردت هذه التشريعات نص خاصا باتفاق التحكيم اللاحق اوكما سمتها بعض التشريعات مشارطة التحكيم  الخاصة وفرقت  بينها وبين شرط التحكيم اوبند التحكيم الوارد في عقد من العقود.
وقد نصت التشريعات العربية على ان يكون  اتفاق التحكيم مكتوبا وان يكون موضوع النزاع محددا في عقد التحكيم او مشارطة التحكيم وذلك  على اعتبار ان النزاع قد نشا قبل الاتفاق على التحكيم ولانه استثناء من الاصل العام لاختصاص القضاء.
ولكن لاشيء يمنع ان يعقد اتفاق التحكيم في شان  عقد من العقود القائمة والتي لا تحمل شرطا للتحكيم بمعنى انه يجوز للمتعاقدين باتفاق تحكيمي خاص تعديل الاختصاص القضائي الوارد في عقد من العقود والنص  على احالة النزاع  على التحكيم .
ويتبين من دراسة  التشريعات العربية انها اقرت المبدا العام للتحكيم ولكنها على غرار الشريعة الاسلامية استثنت بعض الامور من التحكيم ونجد في كل التشريعات العربية النص التالي " لايجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح…".
وهي الامور التي لايجب ان تدرج في شرط التحكيم التعاقدي اواتفاقية التحكيم اللاحقة والا عدت باطلة وهي مثل الامور المتعلقة بالحدود والاحوال الشخصية، والارث والامور المتعلقة بالنظام العام.

اثار شرط التحكيم :
لقد راينا ان الفقه الاسلامي يتجه الى اعتبار شرط التحكيم في الامور المدنية والتجارية ذا طبيعة توافق ومصالحه اكثر من كونه  اختصاصا قضائيا تحكيميا. وبالتالي يرى الفقهاء ان عقد اوشرط التحكيم وان كان عقدا صحيحا الا انه ليس ملزما لاطرافه وبامكان أي من الاطراف ان يتحلل منه طالما ان المحكم لم يباشر بعد النظر في النزاع.

كما يرى الفقه ان الاتفاق التحكيمي لا يجرد القاضي من اختصاصه الاصيل فاذا لجا احد الاطراف الى القاضي فانه ينظر في النزاع دون ان ياخذ بعين الاعتبار الاتفاق التحكيمي. ويخلص الفقه الاسلامي من ذلك الى اعتبارعقد التحكيم والعلاقة بين المحكم والاطراف ترتكز الى تفويض منهم ويجوز بالتالي لاي منهم سحبه قبل الدعوى.
وبذلك يمكن القول انه في ظل اراء الفقه الاسلامي فان شرط التحكيم يظل عقدا معلقا على ارادة الاطراف المعنية ولا ينتج اثره الالزامي الاعند نظر المحكم في النزاع.

اما التشريعات الوضعية العربية فقد طورت تفسير قواعد الشريعة الاسلامية بما يتفق وتطور العلاقات الانسانية ويمكن ايجاز اثار شرط التحكيم في العقد اواتفاقية التحكيم اللاحقة في ظل هذه التشريعات كما يلي:
1 استقلال شرط التحكيم عن العقد المدرج ومن ثم يبقى شرط التحكيم قائما عند انتهاء العقد اوبطلانه لاي سبب من الاسباب. 
(2) يترتب على شرط التحكيم تنازل الخصوم عن حقوقهم في ا لالتجاء الى المحكمة المختصة اصلا بنظرالنزاع ولايجوز الرجوع عن التحكيم الا باتفاق الطرفين (21).

اذا قام احد الاطراف برفع دعوى امام القضاء المختص  فان يجوز للطرف الاخرالتمسك بشرط التحكيم وهو دفع بعدم القبول ليس من النظام العام وانما مقرر لمصلحة الخصوم ومن ثم يجب الدفع به في اول جلسة وقبل التكلم في موضوع النزاع (22).
وهذا يعني ان المحكمة لا تقضي بعدم اختصاصها من تلقاء نفسها بل لابد ان يثيرالدفع بالتحكيم احد الخصوم والا اعتبر السكوت والاستمرار في الدعوى بمثابة تنازل من الخصوم عن شرط التحكيم.
والتنازل عن شرط التحكيم يمكن ان يكون صريحا قبل اوخلال رفع الدعوى امام  القضاء ويمكن ان يكون ضمنيا كالسكوت عن الدفع به امام المحكمة السير في الدعوى دون اثارة الشرط التحكيمي.
ونخلص من ذلك ان شرط التحكيم ملزم لاطرافه في حدود ارادتهم وهي الزامية ليست من النظام العام انما مقررة لصالح الاطراف ويجوز لهم في أي  وقت ان يتنازلوا عن حقهم في التحكيم صراحة او ضمنا.
--------------------
(21) المادة الرابعة  من قانون التحكيم الادرني والمادة 233 من مرافعات بحريني والمادة 253 من قانون المرافعات العراقي.
(23) المادة 6 من قانون التحكيم الاردني والمادة 253/2 مرافعات  عراقي والمادة 256 من قانون المرافعات البحريني.

الخاتمة :
من هذا العرض الموجز للمبادىء العامة للشريعة الاسلامية  والقانون الوضعي العربي فميا يتعلق بشرط التحكيم يمكن ان نستخلص ان التحكيم في  الشريعة الاسلامية  عمل مشروع في المعاملات المدنية والتجارية وان الاباحة في اللجوء الى التحكيم هي الاصل، والاستثناء هوما حرمته الشريعة الاسلامية من الامور غير القابلة للصلح.
ويمكن اعتبار شرط التحكيم الوارد في العقد اواتفاقية التحكيييم الناشئة عن نزاع صحيحا وملزما في الفقه الاسلامي ولكن يتجه الفقه الاسلامي الى اعتبار التحكيم نوعا من انواع التفويض للمحكم يجوز الرجوع عنه في  اية لحظة قبل بداية التحكيم ولايسلب اختصاص القاضي الا اذا شرع المحكم في مهمته باعتبار التحكيم عملا اختياربا.

وجاءت التشريعات العربية الوضعية مقررة لمبدا التحكيم في حدود قواعد الشريعة الاسلامية ومطورة للتحكيم وفقا لحاجات العصر وفصلت بين شرط التكيم في العقد والاتفاق التحكيمي اللاحق واجازت اللجوء الى التحكيم بين الافراد وكذلك الدولة في عقودها ومعاملاتها الدولية.
واعتبرت شرط التحكيم اواتفاق التحكيم ملزما لاطرافه ومقيدا لاختصاص المحاكم المختصة بنظر النزاع ولكن باعتبار التحكيم عملا اختياريا فانه يجوز الرجوع عنه باتفاق الاطراف صراحة اوضمنا بقبول نظر الدعوى اما المحكمة المختصة وعدم الدفع بشرط التحكيم امام القاضي لانه ليس دفعا من النظام العام وانما قرر لمصلحة الافراد ولايمكن للمحكمة ان تثيره من تلقاء نفسها.

وبذلك يمكن ان نخلص الى انه ليس هناك تعارض بين الشريعة الاسلامية  والقانون الوضعي العربي في ما يتعلق بالتحكيم بل ان التشريعات الوضعية هي تفسير لاحكام الشريعة الاسلامية في هذا المجال وتقنين لمبادئها العامة في ان التحكيم يحقق منفعة الناس واصبح اليوم عرفا للتعامل خصوصا في عقود التجارة الدولية وان التشريعات العربية المعاصرة التي اتخذت موقفا سلبيا من التحكيم في فترة من الفترات لم يكن  ذلك نتيجة مخالفته لقواعد الشرع الاسلامي  بل لاسباب موضوعية وسياسية سرعان ما عدلت عنها كافة التشريعات العربية المعاصرة واصبح التحكيم بصفة عامة والتحكيم التجاري الدولي لدى المؤسسات المتخصصة مثل غرفة التجارة الدولية يشكل عنصرا هاما من عناصر التجارة الدولية والثقة في قضاء التحكيم الذي اصبح يثبت يوما بعد يوم كفاءته وقدرته على فض المنازعات التجارية الدولية بسهولة وعدالة.

 مجلة المحاكم المغربية عدد 72،ص 46 


Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : التحكيم التجاري