-->

القضاء الاداري المغربي ورقابة المشروعية والملائمة





يمكن القول منذ البداية ان الغرفة الادارية بالمجلس الاعلى مارست رقابة الملائمة الى جانب رقابة المشروعية، لكن بطرق مختلفة وبدون ان تعلن عن ذلك صراحة، وقد اوردنا امثلة كثيرة عن ذلك  في ابحاثنا ومداخلاتنا المنشورة بالمجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية (1) لكن الغرفة الادارية اعلنت عن ذلك صراحة في قرارها التاريخي الصادر بتاريخ 13 فبراير 1997 تحت عدد 136 في الملف الاداري عدد 289/96 حيث جاء في ديباجة القرار : " القضاء الاداري يتوفر على صلاحية مراقبة مدى ملائمة العقوبة المتخذة في حق الموظف مع حجم المخالفة المرتكبة من طرفه"(2)وبذلك لم تعد الغرفة الادارية تكتفي بالرقابة على المشروعية فحسب، ولكن اخذت تبسط رقابتها ايضا على الملائمة الى جانب الرقابة على المشروعية في ذات القرار نفسه، وهذا لعمري تحول جذري في عمل الغرفة .

كما ان المحاكم الادارية انتهجت  نفس  الموقف بتكريسها لهذه القاعدة في عدة احكام،  ففي حكم للمحكمة الادارية بالرباط  صدر عنها  بتاريخ  19  يناير 1995 تحت عدد 13 قالت وهي بصدد مناقشة المشروعية والملائمة ما يلي : " فباستقراء الفصل 57 من ظهير 11 نونبر 1974 يستفاد منه انه لا يمكن لوزير العدل ان ينتدب قاضيا الا عند الحاجة ولملء فراغ، وعليه فان للانتداب شروطا لابد ان تتوفر حتى يكون مبررا، فاذا  كانت  حجة الادارة في اصدار القرار كما جاء في جوابها هو الخصاص الذي تشكو منه محكمة الاستئناف المنتدب اليها الطاعن، فكيف كانت
______________
1)    انظر الاعداد 13-18-23-24 من المجلة المذكورة على سبيل المثال .
2)    هذا القرار منشور بمجلة " منشورات المجلس الاعلى في ذكراه الاربعين" 1958-1997 ص 457 .
------------------------
شكوى محكمة الاستيناف؟ هل ادلت الادارة بكتاب من رئيسها الاول يشكو لها ذلك الخصاص؟ ام كان ذلك من وحيها؟ هذا ما لم تستطع الادارة اثباته،  ثم ان شرط ملء الفراغ بدوره غير قائم ما دام شرط الحاجة غير ثابت اضف الى ذلك ان المنطق يقضي بانه لا يمكن احداث فراغ في جهة لملء فراغ جهة اخرى ولا كان الهدف من الانتداب غير مبرر : فالطاعن عين بمقتضى ظهير لرئاسة المحكمة الابتدائية بالرباط، وانتدابه الى محكمة الاستيناف يحدث فراغا في المنصب المذكور، وهو الجدير بالاسراع بملئه قبل البحث عن ملء رئاسة غرفة : وقد استقر الفقه والقضاء على انه ايا ما كان مدى السلطة التقديرية التي يعترف القانون بها للادارة في نطاق معين، فان امرا واحدا لا يمكن ان يكون محلا للسلطة التقديرية للادارة وهو الهدف او الغاية (3) .

هذه بعض الحيثيات اردناها لنبين كيف ان المحكمة الادارية بالرباط ناقشت سلطة الملائمة : ( اي السلطة التقديرية للادارة) واثبتت ان الادارة استعملت هذه السلطة عوضا عن السلطة المقيدة المحددة من طرف المشرع في الفصل 57 من ظهير 11/11/1974 المتعلق بالانتداب وشروطه .

والملاحظ ان المحكمة ناقشت في هذه النازلة مشروعية القرار اللاداري،  الى جانب ملاءمته، لكنها لم تصل الى درجة تسليط رقابتها على الملاءمة الى جانب رقابتها على المشروعية نظرا لكون الامر يتعلق في الاصل بسلطة مقيدة وليس بسلطة تقديرية لكن المحكمة راقبت الملاءمة بعد ذلك الى جانب مراقبة المشروعية في عدة احكام نورد منها على سبيل المثال : الحكم عدد 90 الصادر بتاريخ 23 مارس 1995 والذي جاء فيه : ص ان للادارة سلطة تقديرية في اتخاذ العقوبة المناسبة في حق الموظف حسب خطورة الافعال المنسوبة اليه ومدى تاثيرها داخل المرفق العام ولا تكون ملزمة بظروف التخفيف التي تكون المحكمة الجنائية اوالجنحية قد منحتها له اعتبارا لظروفه الاجتماعية وان هذه السلطة التقديرية لا رقابة للقضاء عليها ما لم يشبها غلو في التقدير (4) .
_____________
3)    هذه الحكم منشور بالمجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية العدد : 11 ص 69 وما بعدها .
4)    هذا الحكم منشور ايضا بالعدد 11 من المجلة المذكورة ص 74 وما بعدها .
----------------------
نلاحظ كما اسلف القول بان المحكمة عبرت صراحة عن موقفها بخصوص تسليط رقابة الملائمة على هذا النوع من القرارات الى جانب الرقابة على المشروعية وذلك في حالة ما اذا اتسمت السلطة التقديرية " سلطة الملائمة" بغلو في التقدير، أي التناسب او الملائمة بين المخالفة المرتكبة من طرف الموظف العمومي وبين  العقوبة المتخذة من طرف الادارة، هذه النظرية ( نظرية الغلو) كما يعلم الباحثون والدارسون من ابتداع القضاء الاداري المصري والتي تتقارب في نتائجها مع النظرية المبتكرة من لدن القضاء الاداري الفرنسي
"الحظر البين في التقدير" واللتين سبق ان اشرت اليهما بتفصيل في بحثي المنشور بالعدد 17 من المجلة المغربية للادارةالمحلية والتنمية، الا ان الغرفة الادارية بالمجلس الاعلى تبنت نظرية الخطا البين في التقدير في قرارها المشار اليه في  صدر هذا البحث (5) .

واما المحكمة الادارية بمكناس قد راقبت في المرحلة الاولى ظاهر الملائمة في حكمها الصادر بتاريخ 22/06/1995 تحت عدد 22/95 حيث جاء فيه :" للقاضي الاداري ان يفحص ظاهر الملائمة كي يتاكد من خلو القرار الاداري من اي عيب من عيوب عدم الشرعية دون ان يمس هذه الملائمة في حد ذاتها" .
نقل معلمة تتوفر على اقدمية عامة (27 سنة) وعلى اقدمية في المؤسسة التعليمية (15 سنة ) من غير تبيان وجه المصلحة العامة في ذلك يشكل انحرافا في السلطة ويعرض القرار للالغاء (6) .

يستنتج من خلال هذين الحيثيتين على الاقل ان المحكمة راقبت ظاهر الملائمة عن طريق الانحراف في السلطة بعدما ثبت لها هذا العيب بواسطة اجراء بحث في مكتب القاضي المقرر مع معلمين ومديرين ومفتشين، في حين انها راقبت الملائمة ذاتها الى جانب مراقبة المشروعية في حكم اخر صدر عنها بتاريخ 27 يوليوز 1995 تحت عدد : 39/95 حيث قالت : " ان الاعفاء من التكليف بمسؤولية وان
_____________
5)    راجع في هذا الباب بحثها : " تطور قضاء الالغاء لدى الغرفة الادارية بالمجلس الاعلى" المنشور بالمجلة المذكورة العدد 23 ص 27 وما بعدها .
6)    هذا الحكم منشور بنفس المجلة العدد 12 ص 221 وما بعدها .
--------------------
كان يدخل في صميم السلطة التقديرية للادارة، الا ان ذلك لا يمنع القاضي من مراقبة تصرف الادارة في حالة تسبيب قرارها" (7) .
هكذا نرى أن المحكمة في هذا الحكم راقبت السلطة التقديرية ( الملائمة ) عن طريق مناقشة تسبيب القرار الاداري والمتلخص في ان الادارة اعفت الطاعن من المسؤولية استنادا الى ورقة تنقيط يعود تاريخها الى عشر سنوات قبل اتخاذ القرار، وهو ما يعبر عنه في القضاء الاداري باجترار الاسباب واعادة صياغتها عند الحاجة (8) .

كما ان المحكمة الادارية باكادير في حكمها المؤرخ في : 02/10/1997 راقبت الملائمة عن طريق السبب، فقد جاء في هذا الحكم ما يلي : " القرار الاداري بمنع الطاعن من مزاولة مهنة بمحله التجاري غير مرخص له بممارستها بصفة قانونية لا يترتب عنه حرمان الطاعن من استغلال محله في نشاط اخر طبقا للقانون .

وحيث ان القرار موضوع الطعن لم يكتف بمنع الطاعن من ممارسة مهنة اصلاح النظارات البصرية، بل امر باغلاق المحل التجاري للطاعن وحرمانه من استغلاله في بيع واصلاح النظارات الشمسية التي يمارسها فيه منذ سنة 1969 .

وحيث يستنتج من كل ما سبق ان ما تذرعت به الادارة لغلق محل الطاعن لا يكفي لتبرير قرارها هذا مما يكون معه متسما بالتجاوز في استعمال السلطة في الجزء المتعلق باغلاق المحل التجاري للطاعن وصائب في منعه من ممارسة مهنة اصلاح النظارات الطبية (9) .

هكذا نرى في هذا الحكم ان المحكمة راقبت الملائمة عن طريق السبب في شقين اثنين : اولهما : انها اعتبرت الشق الاول من السبب مبرر وملائم، وان العقوبة المتخذة في حق الطاعن متلائمة مع حجز المخالفة المرتكبة في حين انها لاحظت ان الشق الثاني من السبب غير مبرر وغير ملائم لان العقوبة الثانية المتمثلة في اغلاق
____________
7)    الحكم بنفس المجلة العدد 13 ص 168 وما بعدها .
8)    للمزيد من التفاصيل : انظر بحثنا حول الاعفاء من المهام المنشور بالعدد : 25 من المجلة، ص 63 وما بعدها .
9)    حكم المحكمة الادارية باكادير الصادر بتاريخ 02/10/97 تحت عدد : 40/97 غ والمنشور بالمجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية : العدد 24 ص 121 وما بعدها - قضية شباش / عامل ابركان .
-----------------
المحل التجاري بكيفية نهائية يشوبها غلو كبير في التقدير، ولا تتناسب البتة مع المخالفة المرتكبة، بل ان المحكمة في الحقيقة اعتبرتها عقوبة زائدة غير مؤسسة نظرا لحرمان الطاعن بموجبها من استغلال محله التجاري حتى بالنسبة للمهنة المرخص له بمزاولتها منذ سنة 1969 والمتمثلة في بيع واصلاح النظارات الشمسية، وبذلك تكون المحكمة قد راقبت الملائمة عن طريق نظرية الخطا البين في التقدير انطلاقا من عيب السبب .

وفي حكم صادر عن المحكمة الادارية بوجدة بتاريخ 13/12/95 تحت عدد 116/95 اقرت فيه السلطة التقديرية للادارة ( سلطة الملائمة) واعتبرتها جزءا من مشروعية القرار الاداري، حيث قالت في بعض حيثيات حكمها : " لكن حيث ان حق التعليم وان كان حقا دستوريا، الا ان ممارسة هذا الحق يتم في اطار القوانين والانظمة الجاري بها العمل على جميع المواطنين .

وحيث ان الثابت من وثائق الملف باقرار الطاعن انه تمتع بهذا الحق مرتين متتاليتين : الاولى حينما تم تسجيله في السنة الجامعية 1992-1993 ورسب في الدورتين معا، والثانية حينما تم تسجيله خلال الموسم الجامعي 1993-1994 وتغيب عن المشاركة في الامتحانات خلال الدورتين دون عذر مقبول .
وحيث انه بذلك يكون الطاعن قد اتيحت له الفرصة مرات متعددة لممارسة هذا الحق .
وحيث ان ترك الباب مفتوحا لتكرار واعادة التسجيل بدون قيد ولا شرط من شانه انه يخل بالسير العادي للجامعة حين اكتظاظها بالمسجلين وهذا بدوره يؤدي الى المساس بحق باقي الطلبة الجدد الراغبين في التمتع بحق التعليم .

وحيث انه بما للسيد القيدوم من صلاحيات في تسيير المؤسسة التعليمية الجامعية طبقا للمرسوم رقم 452-78-2 الصادر في 29 شوال 1698 ( 02/10/1978) .
كما تم تعديله بمقتضى مرسوم 1993 بشان اصلاح نظام الدراسات والامتحانات لنيل الاجازة في الحقوق فان له ان يحدد سنويا قبل بداية التسجيل قائمة التخصصات والاختيارات التي تنظمها الكلية مع مراعاة الحاجيات والامكانيات .

وحيث انه اعتبارا لما ذكر فان ما نعاه الطاعن على القرار يكون غير مؤسس (10) .
يلاحظ في هذا الحكم ان القاضي الاداري ساير الملائمة التي اختارتها ادارة الكلية خاصة في الفقرة ما قبل الاخيرة من حيثيات الحكم بقوله : " وحيث انه بما للسيد قيدوم الكلية من صلاحيات في تسيير المؤسسة … الى ان قال : " فان له ان يحدد سنويا، قبل بداية التسجيل، قائمة التخصصات والاختيارات التي تنظمها الكلية، مع مراعاة الحاجيات والامكانيات" .

ومعنى هذا ان القاضي الاداري المغربي، على غرار نظيره الفرنسي، لا يتدخل في الملائمة، وكذا في طريقتها وشكلها، ما دامت قد  عالجت الوضعية الطارئة معالجة عقلانية متزنة، مستندة من جهة على الانظمة والضوابط الجاري بها العمل ومتطلبات المصلحة العامة، ومراعية في نفس الوقت حقوق الطلبة وطموحاتهم وتطلعاتهم من جهة ثانية، وحقوق وتطلعات وطموحات الطلبة الجدد المتحمسين لطلب العلم، والراغبين في الحصول على مقعد في الكلية بين اقرانهم من جهة ثالثة، وعلى العكس من ذلك فالقاضي الاداري يتدخل ليراقب الملائمة عندما تخرج عن المشروعية باهدارها لمبدا المساواة، او لانحرافها بالسلطة، او  باساءة استعمالها، كالانتقام او التمييز او المحسوبية او الزبونية او تصفية الحسابات الخ ….

ويتضح من خلال بعض قرارات الغرفة الادارية بالمجلس الاعلى واحكام المحاكم الادارية ان القضاء الاداري المغربي لا ينساق تلقائيا وعفويا، كما يظن البعض، وراء المزاعم والادعاءات، بل يشترط علىالطاعن ان يثبت هذه المزاعم او هذه الادعاءات كلما تعلق الامر بالانحراف بالسلطة عن اهداف المشرع او اساءة استعمال هذه السلطة من طرف الادارة، وهكذا نجد المحكمة الادارية بالرباط تصرح في احدى احكامكها بما يلي (11) " ان عدم توضيح الطاعنة، بالشكل الكافي، عناصر الانحراف وتجلياته وقيمة الامتيازات التي فقدتها حين نقلها الى مصحلة اخرى، فضلا عن عدم اثباتها اوعلى
_____________
10)    هذا الحكم منشور بالمجلة م ا م و ت العدد 24 ص 111 وما بعدها .
11)    الحكم دد : 635 الصادر في 25/06/1998 والمنشور بنفس المجلة : العدد 25 ص : 241 وما بعدها. قضية غيثة بلحاج " وزير الاقتصاد والمالية" مدير مكتب الصرف .
---------------------
الاقل تبيانها لنوع الحزازات الموجودة بينها وبين الادارة لتعمل المحكمة على دارستها يجعل القرار الاداري المطعون فيه غير متسم بتجاوز  السلطة، وطلب الالغاء غير مرتكز على اساس وموجب للتصريح برفضه" .

يعالج هذا الحكم عيب الانحراف في استعمال السلطة، وبما ان هذا العيب خفي يصعب التوصل الى كنهه بمجرد اقوال او مزاعم لانه يتصل بوجدان مصدر القرار ونواياه وتصوراته الدفينة غير الظاهرة فانه من الصعب على الطاعن الا نادرا ان يثبت الهدف الحقيقي او الغاية القصوى من اصدار القرار، وبالتالي سوء نية مصدره، لذا يؤكد جل الفقهاء في فرنسا ومصر والمغرب على ان الانحراف في استعمال السلطة غالبا ما يدخل في صلب الملائمة التي  يتعين على القاضي الاداري بذل مجهود كبير لسبر اغوارها، قبل تسليط رقابته عليها، حتى يوازن بين المصلحة العامة الحقيقية وبين المصلحة العامة المزعومة في القرار الاداري من جهة وبين مصالح الافراد وحقوقهم من جهة اخرى .

هذه بعض النماذج التي عثرنا عليها من قرارات الغرفة الادارية بالمجلس الاعلى واحكام المحاكم الادارية : التي تراقب فيها ملائمة القرار الاداري الى جانب مشروعيته متخذة في ذلك حلا وسطا دون افراط ولا تفريط قوامه الجمع بين رقابة المشروعية ورقابة الملائمة في ان واحد عند فحص القرار الاداري المطعون فيه وعدم الاكتفاء برقابة المشروعية وحدها، لكن بالمقابل تجنب مراقبة الملائمة وحدها بمعزل عن رقابة المشروعية وذلك تمشيا مع تطور ورقي المجتمع واعرافه وتقاليده وتحقيقا لمبدا التوازن بين المصلحة العامة، ومصالح الافراد وحقوقهم وحرياتهم % .


السيد الحسن سيمو
رئيس المحكمة الادارية بمكناس

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 82، ص 47 .

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : أبحاث قانونية مغربية