-->

توثيق الزواج واثاره على صحته، وقيام فروعه كالنسب والنفقة

تعليق الإشهاد على الزواج على مقتضى الفصل الخامس من مدونة الأحوال الشخصية

يرتبط هذا القرار بموضوع دقيق، في الشريعة الإسلامية و القانون  معا ، وهو توثيق الزواج واثاره على صحته، وقيام فروعه كالنسب والنفقة. وهو أحد قرارات متعددة، صدرت من المجلس الاعلى، في هذا الموضوع الخطر، الذي  مازال الاجتهاد  لم  يستقر فيه على رأي واحد، جدير بان يطرد ويستقر، وان كان قد اوشك، كما سنرى في نهاية هذا البحث.

وقد كان توثيق الزواج  مما  اهتم  به  المشرع،  في  مدونة الاحوال الشخصية، فنظمه وقننه بالفصل الخامس من المدونة، ولكن هذا لم يمنع من اختلاف المحاكم، في فهم مقتضيات الفصل وتفسيره وتطبيقه، على نوازل الزواج، المبرم من غير توثيق رسمي.

ولأجل دراسة القرار وفهمه وتقديره، لا بد من  مراجعة  لقواعد  الفقه  الإسلامي ،  بمختلف  مذاهبه ، وخصوصا منها المذهب المالكي المعمول به عندنا بالمغرب، والمرجوع إليه من المحاكم في قضية الاشهاد على الزواج،  وفي  حكم  الزواج  الخالي من  الإشهاد والزواج الفاسد ومعناه ونتائجه. ولابد من دراسة للفصل الخامس من مدونة الأحوال الشخصية،  لفهم  معناه ،  وعرض  اجتهاد  القضاء   في تطبيقه، والاتجاهات المختلفة، التي سار فيها المجلس الاعلى في تفسيره، لنستطيع من هذا ان نعرف منزلة القرار، ومدى صوابه وصلاحه للاطراد.
ثم نختم أخيرا بتكملة في وضع ضوابط للبت في دعوى المنازعة في الزواج، بقصد رفع الاضطراب الواقع في اجتهاد القضاء والأحكام الصادرة في ذلك.

الإشهاد على الزواج في الشريعة الإسلامية
المقصود بالإشهاد على الزواج، هو ان يعلم الزوجان بزواجهما،  رجلين  عدلين على الأقل، ليوثقاه بعقد مكتوب، او يتحملا على الأقل الشهادة به ليؤدياها امام القاضي، حين يتوقف الزواج على الإثبات.

وللإشهاد بهذا الاعتبار عدة غايات ونتائج قانونية، أهمها او ان يزول الخفاء  عن الزواج، وان يكون معلوما لدى الغير، ان الزوجين عقدا النية فعلا على الزواج. والمقصود الاساسي للشريعة الإسلامية من هذا، هو ان تضع حدا  فاصلا بين الحلال والحرام، في هذه المعاملة الخطرة، وان تميز الزواج تمييزا بينا عن السفاح، حتى ينعدم او يقل النزاع والشك في ذلك، فلا يستطيع رجل وامرأة اجتمعا على الحرام، ان يدعيا انهما زوجان، ولا يستطيع الزوجان ( أو أحدهما) ان ينكرا زواجهما ويتحللا منه، ومن الالتزامات المترتبة عنه.

ومن الغايات العملية المفيدة، التي تحقق من هذا حتما، ان تكون أحكام القضاء الصادرة في نزاعات الزواج في اغلبها، مطابقة للواقع والقانون معا. اذ ان من المفارقات المطردة في ميدان التقاضي، ان تصدر أحكام مطابقة للقانون، ومخالفة للواقع في ذات الوقت،  لكون القاضي يحكم حسب منهج التقاضي وحسب الحجج المدلى بها لديه، عملا بقاعدة البينة على المدعى  والحكم بحسب الظاهر. وليس غريبا ولا نادرا ان يخفق مدع في إقامة الحجة على حقه، ويفلح المدعى عليه في إبطال دعوى صحيحة او العكس، فتصدر أحكام تأخذ الحق من صاحبه لغاصبه، وتكون على الرغم من ذلك صحيحة ملزمة(1).

وإذا كانت هذه المفارقة تبدو قبيحة خطيرة، في المعاملات المالية، فانه اقبح واخطر، في غير المعاملات المالية، وأهمها عقد الزواج، الذي هو المصدر القانوني لوجود الإنسان وانتمائه لأسرته. والشريعة الاسلامية تتغيى من إيجاب الاشهاد، ان تنزه عقد الزواج، وتبعده عن هذه المفارقة الشاذة، لتضمن له الاستقرار والجد الواجبين له.

والغاية الكبرى المقصود تحصيلها، بهذه النتائج والغايات جميعا، هي حفظ نسب الإنسان وتوثيقه، ليبقى نقيا بعيدا عن كل نزاع وكل شبهة وتلاعب، فلا يولد الإنسان الا بناء على زوج صحيح صريح، يكون فيه أبوه وأمه، قد أعلنا بجهر وصراحة، انهما زوجان وأبوان له.

وفي هذا عناية ورعاية لأعظم حق من حقوق الإنسان على الإطلاق، اذ لا يجوز ان يكون هناك خلاف، في ان اعظم حقوق الإنسان واجلها على الاطلاق، هو حقه في ان يولد ولادة شرعية، من أبوين يجمعها زواج معلن معروف لدى الناس جميعا، تحصينا للإنسان من ان يخرج الى الوجود، نتيجة لنزوات الطيش والشهوات الشخصية العابرة.

وعصرنا الحاضر شاهد لصلاح الشريعة الإسلامية، فيما أوجبته وتوخته، من الاشهاد على الزواج، على هذا النحو، ففي كل لحظة وفي كل بقعة من عالمنا، تدفع الأرحام عشرات اللقطاء، المجنى عليهم من الرجال والنساء، الذين ينساقون لشهواتهم في مجتمعات الحضارة الغربية، التي تحررت من القيود والضوابط الفاصلة بين الزواج والسفاح، حتى اختلط الحرام بالحلال، اختلاطا جنى على الإنسان الذي اصبح يولد كما تولد البهائم في الحظائر‍‍‍‍‍. !
----------------------------
(1) ولذا كان من القواعد المرعية ان حكم القاضي لا يحلل الحرام، اذ ان هذا يعني ان القاضي قد يحكم لأحد بحق ليس له يكون المحكوم له وحده المسؤول عن ذلك دينيا.
---------------------------
وقد كان من نتيجة هذا، ان صار عقد الزواج، وهو ذلك الميثاق الغليظ المقدس، اضعف عقود المعاملات وأبعدها عنا الاحترام والتطبيق الفعلي، وهو لا ريب ان الإنسان لابد ان يأخذه العجب، حين يرى الناس في الغرب يتنافسون في الوفاء بالتزاماتهم في كل عقودهم، بذلك الإتقان والإخلاص المعروفين، ثم يفاجأ بهم في عقد الزواج على خلاف ذلك تماما، حتى انه يمكن ان يقال، من غير مبالغة، ان من النادر ان نجد زوجين يبرمان عقد الزواج، كما يبرمان عقد الكراء او البيع معولين على الوفاء بمقتضياته بإخلاص، فلا يرتكبان فيه غشا ولا خيانة‍.

والأغرب من هذا ان الدول الغربية، على كثرة تدخلها لحماية العقود المدنية، بالقواعد القانونية الآمرة، والعقوبات الجنائية الزاجرة أحيانا، تركت عقد الزواج اعزل امام العواطف والاهواء البشرية، وضحية لعبثها وتلاعبها، حتى ان بعض الدول ألغت جريمة الخيانة الزوجية من قوانينها الجنائية، وهو اتجاه يوشك ان يعم الدول الغربية كلها‍‌‌‌!
***
يرجع اصل الاشهاد والشريعة الإسلامية الى عدة أحاديث نبوية تأمر بالاشهاد على الزواج بإعلام شاهدين به وإعلانه بإظهار الفرح واقامة الولائم ليزول عنه الخفاء الذي يقترن بضده.
وقد اخذ الأئمة الثلاثة ابو حنيفة والشافعي واحمد بن حنبل، من هذه الأحاديث انه لا يصح زواج بدون حضور شاهدين عدلين عند انعقاده، وان ماعدا ذلك من الوسائل الإعلان كإقامة الأفراح والولائم، مندوب لا يغني عن الاشهاد.
واما الإمام مالك، فانه يوافق الأئمة الثلاثة في وجوب الاشهاد، ولكنه يخالفهم بأنه ليس واجبا، ان يكون عند العقد بالذات. فهو عنده ليس شرطا لإنشاء عقد الزواج وصحته ابتداء، ولكنه شرط عند الدخول انتهاء. وهو شرط تمام يؤمر به عند الدخول، وليس شرط صحة يؤمر به عند العقد، كما يعبر الفقيه ابن رشد وبعبارة أخرى للشارح الدسوقي، هو واجب وكونه عند العقد مندوب زائد. فان حصل الإشهاد عند العقد، فقد حصل الواجب  والمندوب معا، وان لم يحصل عند العقد، كان واجبا عند البناء (2).
----------------------
(2) أحكام الأحوال الشخصية في الفقه الإسلامي للدكتور محمد يوسف موسى ط. 1958 ص. 73 وما بعدها.
-----------------------
وهذا الخلاف هين، يكاد يكون نظريا محضا، لان المالكية وان كانوا يرون ان الاشهاد ليس واجبا عند العقد، فانهم يرون انه واجب عند الدخول ( أي عند تنفيذ العقد) ، بمعنى ان الزوج لا يصح له الدخول بدون إشهاد. واذا دخل بدونه كان الزواج فاسدا، أي باطلا، فالمآل إذن ان اراء الائمة الأربعة، مجمعة، على ان الاشهاد واجب لصحة الزواج، لأنهم مجمعون على ان تنفيذه بالدخول، لا يصح الا به.

وبجانب هذا الأصل النقلي لوجود الاشهاد، المؤسس على السنة، فان الفقهاء يذكرون تعليلا اخر عقليا، هوان عقد الزواج يتعلق به حق الغير، وهو الولد الذي يجب الحرص على حفظ نسبه، بتوثيق زواج ابويه، ليكون ثبوت نسبه مضمونا، ومحصنا من المنازعة والإنكار.
* * *
وإيجاب الإشهاد في عقد الزواج، يجعله عقدا شكليا، لانه لا يكفي لصحته تراضي طرفيه عليه، بل لابد من شيء زائد على التراضي. وهذه هي الخصيصة، التي تميز العقد الرضائي عن الشكلي.

وهذا واضح من الجزاء الذي يقرره الفقهاء للزواج الخالي من الاشهاد، حيث نجدهم يحكمون، بأنه زواج فاسد او باطل. فحتى بالنسبة للمذهب المالكي، الذي يجعل الاشهاد واجبا، عند البناء او الدخول، لا عند العقد، فان المنصوص عليه في مذهبه، ان الزواج يكون باطلا، اذا دخل الزوجان بدون إشهاد.

الزواج الفاسد وآثاره
اذا خلا الزواج من الاشهاد، على النحو الذي سلف، كان غير صحيح، وكان من انواع" الزواج الفاسد لعقده" حسب تعبير الفقهاء وجزاؤه الشرعي، هو الفسخ الإجباري. وفي هذا يقول صاحب " المختصر" بأسلوبه الاختزالي المعروف " وفسخ ان دخلا بلاه ولاحد ان فشا ولو علم" أي فسخ الزواج إجباريا، اذا دخل الزوجان ، بلا إشهاد سابق على الدخول. ولأحد عليهما، اذا فشا الدخول واشتهر، ولو علم كل منهما وجوب الاشهاد. ومفهوم الشرط ان الدخول اذا لم يشتهر بان جرى على وجه الكتمان فان هذا يوجب إنزال عقوبة الزنى عليهما(3). وهذا يعني ان الفقهاء يقررون للزواج، الذي يتم بدون إشهاد عند الدخول، جزاء جنائيا، كالزنى تماما، اذا لم يشتهر الدخول ويفشو. ولا يكون هذا الا إذا تعمد إخفاءه وكتمانه، ولا يكون هذا الإخفاء الا لتهمة تناقض غاية الزواج.
---------------------------------
(3) انظر شراح الشيخ خليل في باب النكاح
--------------------------------
والمعنى المقصود من الفسخ، ان التقاضي يحكم التفريق بين الرجل والمرأة بطلاق.
وشرح هذا يقتضي تقديم بيان عن الزواج الفاسد، وأنواعه واحكامه.
والمراجع الفقهية في المذهب المالكي، تذكر في هذا الموضوع، ان النكاح الفاسد، اما يكون فاسدا لعقده، كالزواج بالمحرمة شرعا كان تكون أختا من الرضاع او النسب او زوجة رجل اخر، وكالعقد على المرأة، او الدخول بها بدون اشهاد على الخلاف الذي راينا، واما ان يكون فاسدا لصداقه، وهو الذي يأتيه فساده من المهر، كان يتفقا على اسقاطه، او يكون شيئا لا يحل التعامل فيه، كالخمر والخنزير.

والفاسد لعقده على ضربين، متفق على فساد، ومختلف فيه. وهذا لان بعض أسباب الفساد، مقررة بنصوص قطعية الدلالة لا تقبل الاجتهاد، ولا يجوز فيها الخلاف، وبعضها مقرر بنصوص ظنية الدلالة، فكانت موضوع اجتهاد واختلاف، بين الفقهاء. ومن هنا جاء هذا التقسيم، المقصود به تخصيص كل نوع بحكم يناسبه، مع ملاحظة انه ليس المقصود بالمتفق على فساده، ان الإجماع منعقد على ذلك من غير مخالف.

والجزاء الشرعي للنكاح الفاسد، هو اما الفسخ او التلافي، أي التدارك حسب نوع الفساد.
فالفاسد لعقده حكمه الفسخ، بمعنى التفريق وقطع المعاشرة، بين الرجل والمرأة. غير انه اذا كان من المتفق على فساده، اعتبر في منزلة المعدوم كليا بدءا وانتهاء وكان الفسخ بدون طلاق، وبدون صداق قبل الدخول وبعده.

وإذا كان من المختلف في فساده، وجب الفسخ بلا طلاق ولا صداق، على نفس النحو، إذا اكتشف قبل الدخول. واما إذا اكتشفت بعده، فان الفسخ يكون بطلاق، وتستحق المرأة صداقها المسمى، او صداق المثل ان لم يسم، ويقع التوارث بين الرجل والمرأة، اذا مات أحدهما قبل الفسخ، ويلتحق الولد بوالده مراعاة للرأي المخالف الذي يقول بصحته.

الا انه يجب التنبيه الى ان هذا الفسخ القضائي، لا يمنع الزوجين من أن يعودا الى المعاشرة بزواج جديد، يبرمانه بوجه صحيح، بشرط استبراء المرأة للفصل بين المعاشرة المفسوخة والزواج الجديد. وهذا ما لم يكن هناك مانع اخر، يحرم الزواج بينهما.

واما الفاسد لصداقه، فلا يكون فيه الفسخ الا اذا اكتشف قبل الدخول، واما بعده فيجب فيه التلافي والتدارك، بمعنى انه يجب اقراره، مع تصحيحه برفع الفساد الذي بصداقه، بتعيينه ان لم يعين، او إلغاء ما به من الشروط المفسدة له.

وبقي في المسألة مباحث فرعية، تتعلق ببعض نتائج الزواج الفاسد\ن كأثره على التوارث، بين طرفيه، اذا مات أحدهما قبل الفسخ، واثره على نسب الولد الناتج عنه، وهذا اهم هذه المباحث وأخطرها.
وموضوع الزواج الفاسد، كان مما اختار المشرع المغربي تقنينه في مدونة الأحوال الشخصية، ليرسم للقضاة ضوابط ملزمة غير قابلة للاجتهاد، حرصا على رفع الخلاف في هذا الجانب الدقيق، من الأحوال الشخصية.
وقد افرد المشرع المغربي للزواج الفاسد، في مدونة الأحوال الشخصية فصلين، هما الثاني والثلاثون، الذي عرف فيه الزواج الفاسد بالنص على ان "  كل زواج تم ركنه بالإيجاب والقبول واختلت بعض شروطه، فهو فساد" السابع والثلاثون الذي يقرر فيه اثار الزواج الفاسد على طرفيه، وعلى الأولاد الناتجين عنه بنصه على الاتي:
1) النكاح الفاسد لعقده يفسخ قبل الدخول وبعده وفيه المسمى بعد الدخول، والفاسد لصداقه يفسخ قبل الدخول، ولا صداق فيه، ويثبت بعد الدخول بصداق المثل...
2) كل زوج مجمع على فساد، كالمحرمة بالصهر، يفسخ بدون طلاق قبل الدخول وبعده، يترتب عليه الاستبراء وثبوت النسب، ان كان حسن القصد. واما اذا كان  مختلفا في فساده، فيفسخ قبل الدخول وبعده، بطلاق ويترتب عليه وجوب العدة وثبوت النسب ويتوارثان قبل وقوع الفسخ".

والملاحظ ان الفصل الثاني والثلاثين، لم يعبر عن الزواج الفاسد، بصياغة قانونية تفيد معناه المصطلح عليه، لان التعبير عنه بكل زواج تم ركنه بالإيجاب والقبول، واختلت بعض شروطه، ربما يفيد ان الزواج لا يكون فاسدا، الا اذا فقد بعض شروطه، والحال ان استقراء صوره ينتج انه يشمل الفاقد لبعض شروطه، والفاقد لبعض أركانه كذلك، ولا يستقيم معنى الفصل، الا اذا اعتبرنا الشرط مستعملا بمعناه العام، الشامل للركن كذلك.
وبالنسبة لجزاء الزواج الفاسد فان المشرع اخذ بالتصنيف الذي وضعه الفقهاء من حيث تقسيمه الى فاسد لعقده وفاسد لصداقه، والى متفق على فساده ومختلف فيه. ونص على الحكم المقرر لذلك وهو الفسخ، أي التفريق بين طرفيه، بوجه عام، إلا في حالة واحدة، هي اذا كان الزواج فاسدا لصداقه، واكتشف بعد الدخول، حيث يجب إبقاؤه نافذا، مع تدارك الاختلال الذي به، على النحو الذي سلف تفصليه.

واهتم المشرع باثر الزواج الفاسد على نسب الأولاد، الناتجين عنه وهذا اخطر اثاره، وهي مسالة اختلف فيها اجتهاد الفقها نظرا لدقتها.
ويفهم من المنصوص عليه في الفقرة الثانية من الفصل، ان المشرع، رجح من ذلك، ثبوت نسب الولد من الزواج الفاسد بوجه عام، أي في جميع صوره، سواء كان فساده لعقده او لصداقه، وسواء كان متفقا على فساده، او مختلفا فيه، مع ملاحظة انه اشترط لثبوت النسب، في المتفق على فساده، كالزواج بالمحرمة ان يكون المتزوج حسن القصد، ويفهم من الشرط ان من تزوج بمحرمة عليه، عن علم فان الولد لا ينتسب إليه شرعا، لان علمه هذا يوجب عليه الحد أي عقوبة الزنى في الشريعة الإسلامية.

وهذا تطبيق للقاعدة التي نظمها ابن عاصم صاحب تحفة الحكام في هذا البيت:
وحيث درء الحق يلحق الولد        في كل ما من الزواج قد فسد

ومقتضى القاعدة انه كلما انتفى حد الزنى عن الرجل في الزواج الفاسد، لعدم ثبوت علمه بسبب الفساد، او لوجود خلاف فيه، او وجود شبهة اخرى تدرأ الحد، فان الولد يلتحق بوالده شرعا، وكلما تقرر الحد لانتفاء الشبهة المسقطة له، فان الولد لا يلحق.

والقاعدة مطردة منعكسة في بعض أحوال انعكاسها دون بعض، بمعنى ان النسب يثبت كلما انتفى الحد في كل الأحوال، وينتفي النسب كلما ثبت الحد في بعض الأحوال، دون البعض وهذا لان الشراح، يوردون على القاعدة، حالات يحد فيها الرجل، ويلحق به الولد، منها ان يتزوج المرأة فتلد منه ويقر انه كان طلقها ثلاثا، وراجعها قبل ان تتزوج غيره، وهو عالم بحرمة ذلك ولها نظائر أخرى ضبطها الفقهاء بقاعدة أخرى، هي قولهم. " كل حد يثبت بالإقرار، ويسقط بالرجوع عنه، فالنسب فيه ثابت" (4).

معنى الفصل الخامس من م/ح/ ش
وقواعد العقود الشكلية
اتجهت نية المشرع المغربي بمناسبة اصدار مدونة الأحوال الشخصية الى تنظيم عقد الزواج من حيث توثيقه واثباته فخصص لذلك الفصل الخامس من المدونة الذي نص على انه:
1) يشترط في صحة عقد الزواج حضور شاهدين عدلين سامعين في مجلس واحد الايجاب والقبول من الزوج او نائبه ومن الولي بعد موافقة الزوجة وتفويضها له.
2) لابد من تسمية مهر للزوجة ولا يجوز العقد على إسقاطه.
-------------------------
(4) انظر شرح التسولي على تحفة الحكام لابن عاصم عند شرحه للبيت المذكور سابقا، وانظر كذلك مقال الولد للفراش، للأستاذ احمد الغازي الحسيني بمجلة القضاء والقانون. العدد 130 صفحة32.
-----------------------
3) يجوز للقاضي بصفة استثنائية سماع دعوى الزوجية واعتماد البيئة الشرعية في إثباتها".
وجاء في المذكرة الإيضاحية التي قدمت بها وزارة العدل مسودة المدونة، تعليلا لاشتراط توثيق الزواج، على هذا النحو، ان الغاية من ذلك، هي حسم النزاع الذي قد يثور في قدر المهر، وما قد يحدث من التردد عند الفصل بين الايجاب والقبول، ولو بمدة يسيرة، مع ما قد يحدث من اعتراض ولي الزوجة لها إذا كانت قاصرة… الخ.

والجدير بالذكر ان الفصل الخامس، ورد في مسودة وزارة العدل مطلقا، أي غير مقيد بالاستثناء الذي يجيز سماع دعوى الزوجية، دون وجود رسم عدلي، على النحو المذكور، في صدر الفصل. ولكن مقرر لجنة التدوين، اقترح زيادة فقرة، تنص على جواز سماع دعوى الزوجية بدون مؤيد، واعتماد البينة الشرعية في إثباتها، استنادا الى انه ينبغي ان يبقى حق إثبات الزوجية قائما، للذين لم يسبق لهم كتابة العقود، وهم الأغلبية الساحقة من رجال البادية.

وقد أخذت لجنة التدوين بهذا الاقتراح، فعدلت النص الوارد من الوزارة، بإضافة الفقرة الثانية، التي تجيز سماع دعوى الزوجية، بالاستناد الى البينة الشرعية.

الا انه يلاحظ ان التعليل الذي أورده مقرر اللجنة، لاقتراح هذا الاستثناء لا ينسجم مع مقتضى النص، لان الذين لم يسبق لهم كتابة عقود زواجهم في الماضي، محميون بداهة بقاعدة عدم رجعية القانون، التي من مقتضاه الا تسري القيود المستحدثة بالفصل الخامس، الا على الأنكحة المعقودة بعد نفاذه، وان يصح للمتزوجين قبل ذلك، إثبات زواجهم بشهادة الشهود، كما كانت الحال، قبل العمل بالقانون الجديد.

ولذلك فان هذا التعليل لا يستقيم ولا يصح، الا إذا أولناه بان المقصودين به هم الذين لا يتـأتى لهم توثيق زواجهم، برسم عدلي مستقبلا، بعد صدور المدونة لأسباب قاهرة.
لتمكينهم من الثبات زواجهم، بشهادة الشهود، على سبيل الاستثناء والاتجاه الى الإلزام بتوثيق عقد الزواج، على هذا النحو، سبق ان ظهر في تشريعات بعض الدول الإسلامية، ومنها التشريع المصري، الذي اشترط لسماع دعوى الزوجية، وجود وثيقة رسمية، تثبت ذلك، في قانون صدر منذ سنة1931 بالضبط أي منذ حوالي ستين سنة.

وقد اظهر واقع الناس، وما اشتهر من تفكك الأسرة، منذ أخذت الدول الاسلامية، تتاثر بالحضارة الغربية، وتقلد سلوكها في الحياة، ان عقد الزواج، يحتاج فعلا الى تدخل المشرع، لصيانته من التلاعب، وفرض احترامه على الناس.
وقد عبر المشرع المصري عن هذا بوضوح وصراحة، في المذكرة الإيضاحية لقانون سنة1931 المشار إليه، التي جاء فيهات ان الحوادث قد دلت، على ان عقد الزواج، وهو اساس رابطة الأسرة، لازال في حاجة الى الصيانة والاحتياط فقد يتفق اثنان على الزواج، بدون وثيقة، ثم يجحده أحدهما، ويعجز الآخر عن إثباته أمام القضاء وقد يدعي الزوجية بعض ذوي الأغراض، زورا وبهتانا، او نكاية وتشهيرا، وابتغاء غرض أخر، اعتمادا على سهولة إثباتها، خصوصا وان الفقه يجيز الشهادة بالتسامع في الزواج وقد يدعي الزوجية بورقة عرفية ان تثبت صحتها مرة، لا تثبت مرارا، وما كان لشيء من ذلك ان يقع، لو اثبت هذا العقد دائما، بوثيقة رسمية، كما في عقود الرهن، وحجج الأوقاف، وهي اقل منه شانا، وهو اعظم منها خطرا(5).

ولا ريب ان هذه الاسباب الاجتماعية، التي استشعرها المشرع المصري في سنة1931، هي التي استشعرها المشرع المغربي، في سنة1975، ودفعته الى الإلزام بتوثيق الزواج، بعقد رسمي واعتبار ذلك شرطا لصحته.
ونستطيع ان نستنتج، من ألفاظ الفصل الخامس من م/ ح/ ش القاضي بذلك، والأعمال التحضيرية التي صاحبته. والقانون المصري الذي سبق الى ذلك، ان مراد المشرع المغربي من الفصل، هو ان يجعل توثيق عقد الزواج، بوساطة عدلين شرطا لوجود الإيجاب والقبول، بحيث صار الإشهاد الرسمي العلني، ركنا من أركانه، لا يكون صحيحا الا بإشهاد عدلين، يسمعان الإيجاب والقبول في مجلس واحد، ويتوليان تضمينه في رسم عدلي، يتضمن اسم الزوجين وبقية البيانات المفصلة في الفصل الثاني والأربعين من م/ ح/ ش وبهذا صار عقد الزواج شكليا.

غير ان هذا لا يعني ان عقد الزواج، لم يصر شكليا الا بصدور المدونة، لأننا رأينا في العرض السالف، ان الفقه المعمول به، كان يوجب الاشهاد على الزواج عند التعاقد، او عند الدخول، فكان بذلك عقدا شكليا، منذ البداية، لان اشتراط الاشهاد، يجعل التراضي المجرد غير كاف، لإبرامه وصحته، ولكن المشرع زاد في هذه الشكلية، ورفع درجتها، الى المدى الأقصى، باشتراط ان يتلقى الاشهاد عليه، عدلان رسميان، وان يضمناه في رسم عدلي مكتوب، بصيغة معينة من المشرع.

ومقتضى كون عقد الزواج شكليا، على هذا النحو، انه لا ينشأ صحيحا منتجا لآثاره،الا اذا تم بالشكل المعين والنتيجة العملية لهذا، انه اصبح يجب لإثبات عقد الزواج، وسماع الدعوى، امام القضاء، بحسب الأصل العام، الآلاء بوثيقة رسمية، أي بحجة كتابية، من نوع خاص، هو الرسم العدلي المعين شكله، في الفصول الخامس والواحد والأربعين والثاني والأربعين من م/ ح/ ش.  ومفهوم هذا ظاهر، وهو ان إثبات الزواج بشهادة الشهود، لم يبق جائزا، كما كان من قبل، ولا يجوز الا على سبيل الاستثناء بوجود ضرورة تسوغ تطبيق الاستثناء. المنصوص عليه، في الفقرة الأخيرة من الفصل الخامس.
-----------------------------
(5) أحكام الأحوال الشخصية في الفقه الإسلامي للدكتور، محمد يوسف موسى ط. 1958. ص.
-----------------------------

ولأجل التمييز بين ما كان، وما اصبح واجبا، بعد نفاذ الفصل الخامس، فيما يرجع لإثبات الزواج، يحسن التذكير بالقواعد الفقهية، التي كانت المحاكم تطبقها، لإثبات الزواج قضاء وهي المجملة في قول الشيخ خليل بن إسحاق في مختصره: " اذا تنازعا في الزوجية ثبتت بينة ولو بالسماع بالدف والدخان"

ويفهم مما كتبه الشراح تفسيرا لهذا، ان دليل إثبات الزوجية يتراوح بين حد أقصى لا يطلب اكثر منه، وهو شهادة شاهدين بمعاينة العقد وحد ادنى لا يقبل اقل منه، وهو شهادة السماع الفاشي، بان يشهدا بأنهما ما زالا يسمعان، من الثقات وغيرهم، ان فلانا زوج فلانة وان فلانة زوج فلان.

وهذا لان الفقه المعمول به وان كان يوجب الاشهاد على الزواج، عند العقد، او عند الدخول، فانه لم يكن يشترط توثيق ذلك بالكتابة، ولهذا كانت شهادة من عيان العقد، او سمع به سماعا فاشيا، كافية لإثبات الزواج.
وقد تطور العمل بشهادة الشهود، باجتهاد من الفقه والقضاء، الى ان أصبحت تؤدى بنصاب محدد في اثني عشر شاهدا، يؤدون شهادتهم امام عدلين يتلقيانها، بعد ادن قاضي التوثيق بذلك، ويدونانها في وثيقة، مختومة بامضاء القاضي وامضائهما وهي شهادة اللفيف التي جرى بها العمل منذ اكثر من أربعة قرون.

ونتيجة لهذا، تطور العمل في دعاوى الزواج، الى ان اصبح يثبت بموجب لفيفي، من اثنى عشر شاهدا، يشهدون بمعرفة فلان وفلانة، وثبوت الزوجية بينهما واتصالها، بولي وصداق معلومين، الى اخر الصيغة التي تنكر في لفيفات الزوجية.
وقد صدرت مدونة الأحوال الشخصية، والمحاكم مستقرة على العمل بشهادة اللفيف لإثبات الزوجية، وكان المتوقف ان تحد مقتضيات الفصل الخامس من العمل بها، باعتبار ان إثبات الزواج برسم عدلي، اصبح هو الأصل الذي لا يجوز العدول عنه، الا على سبيل الاستثناء، وان شهادة الشهود لا تقبل الا بوجود ضرورة تسوغ الاستثناء. ولكن المحاكم ظلت مدة طويلة، تتجاهل مقتضيات الفصل الخامس، وتقبل شهادة اللفيف لإثبات الزوجية، من غير تعليل خاص يقنع بالعدول عن الأصل الى الاستثناء .

 ثم تطور التشريع المغربي، بوجه جعل شهادة اللفيف، غير مقبولة في الإثبات حتى فيما يجوز اثباته بشهادة الشهود. كان هذا حين صدر قانون توحيد المحاكم في سنة1965 وحين اصدر المجلس الاعلى بناء عليه قرارا بتاريخ11/2/1970 تحت عدد 144 بهيئة من غرفتين برئاسة الرئيس الاول، يؤكد فيه ان قانون المسطرة المدنية، اصبح يعم جميع القضايا المدنية، من غير فرق، بمعنى ان تطبيقه يمتد الى القضايا الشرعية، التي تطبق قواعد الفقه الإسلامي. اذ ان من قواعد المسطرة الجوهرية، ان الشهود لا بد ان يؤدوا شهادتهم حضوريا، امام قاضي الحكم، بعد اليمين، وهذا شرط مفقود في شهادة اللفيف، بطبيعة الحال.

وعلى الرغم من هذا، فقد ظلت المحاكم متمادية في قبول شهادة اللفيف، لإثبات الزوجية، على الرغم من انها اصبحت غير جائزة شكلا وموضوعيا، متجاهلة ما استحدثه الفصل الخامس من المدونة، وما اصبح واجبا بصدور قانون توحيد المحاكم، من إجراءات مسطرية، لابد منها لصحة الشهادة.

ولذلك رأينا المجلس الاعلى،  يتدخل لحمل المحاكم على تطبيق الفصل الخامس تطبيقا صحيحا بعدة قرارات قضى فيها باثارة تلقائية في بعض الأحيان، بنقض احكام قبلت شهادة اللفيف مقررا ان على القاضي اذا اراد ان يقبل شهادة الشهود ان يبين الاسباب المسوغة لذلك ومحيلا القضية للبث فيها من جديد على مقتضى علة النقض هذه.

وعلى مقتضى توجيه المجلس الاعلى أخذت المحاكم تقضي برفض دعاوي الزوجية، لعدم إثباتها برسم عدلي، او تحكم بتطبيق الاستثناء، مع تعليل ذلك بإبراز ما يسوغ الانتقال الى الاستثناء.
غير انه يلاحظ ان المجلس الاعلى، ظل يقر المحاكم على قبول شهادة اللفيف، باعتباره شهادة صحيحة شكلا، على الرغم من ان الإجراءات المقررة لسماع الشهادة، مفقودة  فيها.
وهذا واضح من القرار المعلق عليه، الذي يفيد ان شهادة اللفيف، مقبولة وكافية في الإثبات.
وهناك قرارات اخرى، اقر فيها المجلس قبول شهادة اللفيف وصحتها صراحة، وكان الواجب ان يقترن توجيه المحاكم، الى ضرورة وجود العذر المسوغ لتطبيق الاستثناء بتوجيهها كذلك الى انه لا يجوز قبول شهادة اللفيف، بحالتها الراهنة، لوجود نص قانوني آمر يوجب حضور الشهود امام قاضي الحكم وتحليفهم.

 مصير دعوى الزوجية على مقتضى الفصل الخامس من م/ ح/ ش
مقتضى القواعد العامة، اذا أخذناها مجردة، ان كل عقد خلا من احد أركانه كان باطلا حتما. وحين يكون الشكل ركنا في صحة العقد، فان خلوه منه، يجعله فاقدا لاحد أركانه، ويكون باطلا بقوة القانون لان معنى كون العقد شكليا ان التراضي وبقية الأركان المكملة له، لا تكفي لإبرامه، وانه لابد لصحته وانتاجه لحقوق طرفيه والتزاماتهما المقصودة، من صياغته وتدوينه، بالشكل الذي يوجبه القانون.

الا ان تطبيق هذه القاعدة مجردة، والأخذ بمقتضاها بعمومه، كثيرا ما يكون جالبا لضرر، يعدل او يفوق الضرر المتوخى دفعه، بجعل الشكل ركنا في العقد ولذلك فان المشرع، يتدخل عادة لتنظيم مصير العقد الشكلي، حين يتراضى طرفاه على محله وسببه، من غير ان يصوغاه بالشكل المفروض. وعلى هذا فان القانون، قد يسمح بإجازة العقد الخالي من الشكل، كليا او جزئيا، بإقرار اثاره، او البعض منها، لمقتضى اجتماعي يوجب ذلك (6).

والشكل الذي فرضه القانون، لصحة عقد الزواج، هو توثيقه، بورقة رسمية يكتبها عدلان،  سامعان للإيجاب والقبول بمجلس واحد، وتتضمن النص على أركان الزواج، حسب المبين بالفصل الخامس، والواحد والأربعين من م. ح. ش.

وعليه فاذا اعتبرنا هذا الشكل ركنا في عقد الزواج، فانه لا يعتبر موجودا الا بوجود رسم النكاح، الذي يثبته. ومن مقتضى هذا بداهة، ان طرفي عقد الزواج، لا يستطيعان ان يطالبا قضاء، بحق من الحقوق المتفرعة عنه، الا اذا أيدا دعواها برسم الزواج: بمعنى ان دعوى الزواج لا تكون مقبولة، ولا يجوز سماعها، الا بالإدلاء برسم الزواج.

الا ان المشرع، مدفوعا بذات المصلحة، التي دفعته لجعل عقد الزواج شكليا، ارتأى ان يتدخل لتنظيم مصير عقد الزواج الخالي من الإشهاد فقرر إجازته كليا او جزئيا، حسب المستفاد من الفصول الخامس والسابع والثلاثين، والسادس والثمانين، من  مدونة الأحوال الشخصية.
فقد نص الفصل الخامس في فقرته الأخيرة، على انه يجوز للقاضي بصفة استثنائية، سماع دعوى الزوجية، واعتماد البينة الشرعية، في إثباتها. وهذا معناه ان للقانون، اذن للقاضي بإجازة عقد الزواج كليا، على رغم بطلانه بعدم توثيقه، بالشكل القانوني الواجب، واعتباره منتجا لجميع اثاره المقصودة، بمجرد إثبات تراضي طرفيه عليه، مع بقية الأركان،
------------------------------
(6) الوسيط ج. 1. ص. 539 الطبعة الثانية
-------------------------------
من ولي وصداق، بشهادة الشهود بدلا من رسم النكاح، والحكم للمدعي بحقه المتفرع عن عقد الزواج ولكن بشرط وجود عذر يبرر ذلك حسب المستفاد من النص وسياقه.
والمقصود بالبينة حسب الاصطلاح الشائع، وحسب المستفاد من سياق النص، هو شهادة الشهود، وان كان هناك من يعتبر البينة، شاملة لكل وسائل الإثبات، الا ان هذا المدلول، لا يمكن الاخذ به هنا.
وعمل القضاء مطرد، على ان البينة التي يجوز قبولها بديلا عن رسم الزواج، هي شهادة الشهود، والتي تكون حاليا في شكل الموجب اللفيفي. وهي الوثيقة العدلية، التي تتضمن شهادة اثنى عشر شاهدا، مبدوءة باذن قاضي التوثيق، ومختومة بخطابه وتوقيعه وتوقيع العدلين، المتلقيين لأقوال الشهود.

ونظريا يمكن ان يقال، انه اذا جاز الاثبات استثناء بشهادة الشهود، فانه يجوز قبول ما هو اقوى منها، هو الاقرار. غير ان طبيعة عقد الزواج الخاصة التي من اجلها كان الاشهاد واجبا لصحته، تقتضي عدم قبول الاقرار لاثباته، وان كان أقوى.
وقد تضمنت مدونات الفقه، النص الصريح، على ان الزواج لا يثبت بالإقرار او التقارر، ولا يجوز ذلك الا استثناء حين يكون الزوجان طارئين أي ليسا من أهل البلد، وبشروط منها الا يتقدم بينهما نزاع، وان يكون التقارر في الصحة(7).

واستنادا الى هذا، اطرد عمل القضاء على إلزام المدعي، بالإدلاء برسم الزواج او بديله، حين يجوز ذلك،  ولو اجاب المدعى عليه بالإقرار بالزوجية.
واما القرائن القضائية فلا يمكن قبولهما بمفردهما، لانها دون الشهادة في القوة، الا ان هذا لا يمنع من القول، بان القرائن القضائية السليمة القوية، يجب ان يكون لها اعتبار، لترجيح بينة المدعي، او تكميل ما يمكن ان يعترها من نقص او خلل، لا سيما اذا عارضها المدعى عليه، او كان هناك رجوع من بعض الشهود، او غير ذلك.
* * *
ولم يبين المشرع الأعذار التي يمكن قبولها، للعمل بهذا الاستثناء، واجازة عقد الزواج، الخالي من الاشهاد الموثق. وقد سلف ان مقرر لجنة وضع المدونة، الذي اقترح هذا الاستثناء، علل ذلك بتمكين الذين لم يتأت لهم توثيق زواجهم برسم عدلي، من اثبات زواجهم، 
-------------------------
(7) انظر كتاب قواعد الفقه للقاضي محمد العلوي العابدي طبعة دار الكتاب. ص.57.
-----------------------
غير ان هذا التعليل، بعيد عن الموضوع كما سبق ان لاحظنا لان هؤلاء محميون بداهة بقاعدة عدم رجعية القانون.
وربما كانت الحال النموذجية لهذه الأعذار، هي التي يتعذر فيها استحضار العدلين، او الحضور لديهما لتوثيق الزواج، بسبب المكان الذي يوجد به الزوجان كأن يكونا بمكان ناء عن العمران او يكونا خارج الوطن، او يحدث طارئ مانع، مثل الفتن السياسية والكوارث الطبيعة.

وقد صدر في المسالة قرار من المجلس الاعلى، وظهير تشريعي، متبوع بمنشور وزيري، يحسن ان يعرض لها، لان ذلك يعين على تصور مجال تطبيق الاستثناء.
اما القرار فهو الصادر بتاريخ 19 مارس1962. الذي ورد فيه عرضا، ان تطبيق الاستثناء يكون حين يجد القاضي نفسه، امام واقع يفرض عليه شرعا، ان يحفظ على زوجين تم زواجهما بواسطة جماعة من المسلمين، لأسباب قاهرة، بعد فاتح يناير1958، ترابطهما ونسلهما، فهاذ يؤكد ان الاستثناء مقصود به عقود الزواج المبرمة بعد صدور المدونة كما سلف (8).

واما الظهير فهو الصادر بتاريخ 4 مارس1960، الذي نص فيه المشرع، على تصحيح الانكحة، التي يعقدها المغاربة والأجنبيات، والمغربيات والأجانب ( عقد جواز ذلك)، امام ضابط الحالة المدنية.
واما المنشور فهو الصادر بتاريخ 28 ابريل1960، لتفسير مقتضيات الظهير المذكور، وبيان أسبابه واعلام الجهات المختصة بالتوثيق، بوجوب تمكين الذين عقدوا زواجهم امام ضابط الحالة المدنية، المغرب او خارجه من تصحيح زواجهم ليكون مبرما. طبقا لمقتضيات مدونة الأحوال الشخصية.

فهذا الظهير والمنشور المفسر له، يفيد ان المشرع راعى حالة المغاربة، من الرجال والنساء، الذي يبرمون زواجهم، على يد ضابط الحالة المدنية، وقرر إجازة هذا الزواج كليا، لا سيما بعد توثيقه، حسب مقتضيات الفصل الخامس من المدونة. وعليه يمكن ان يقال، ان هذه الحالة، داخلة في مجا الاستثناء بنص القانون، بحيث تكون دعوى الزواج المؤسسة على عقد مدني، مقبولة، ولو ان الاشهاد عليه، لم يقع امام عدلين شرعيين، حسب نص الفصلين الخامس والثاني والأربعين.
-----------------------------
(8) انظر في مجلة القضاء والقانون. العدد 54. ص. 184.
---------------------------
واما الإجازة الجزئية، لعقد الزواج الخالي من شكل الاشهاد العدلي، فهي المستفادة من الفصلين 32 و37 من م. ح. ش. فقد نص الفصل32 على ان كل زواج تم ركنه بالإيجاب والقبول، واختلت بعض شروطه، فهو فاسد، وهو يفيد ان الزواج الفاقد لشكل الاشهاد، يعتبر فاقدا لركن من الأركان، الواجبة لانعقاده، فهو بذلك من الفاسد لعقده، والمختلف في فساده، حسب التفصيل السابق.

وقد افاد الفصل37 من المدونة، حسبما سلف، ان الزواج الفاسد لعقده المختلف في فساده، يفسخ قبل الدخول وبعده بطلاق، ويترتب عنه وجوب العدة، وثبوت نسب الولد الناتج عنه توارث الزوجين ان مات أحدهما قبل الفسخ، وبهذا يمكن ان نقول، ان المشرع هنا، يقرر إجازة جزئية لعقد الزواج الخالي من الشكل الرسمي، باعتباره فيما سبق، وإلغائه فيما لحق، وإقرار بعض اثاره ومنها بالخصوص، نسب الولد الى والده، وامكان التوارث بين الوالدين.

ولهذه الإجازة الجزئية شرط ضروري، وهو ان يثبت المدعي وجود الايجاب والقبول، أي التراضي بين الطرفين على الزواج، بمعنى ان يثبت ان نيتهما، قد انصرفت الى الزواج، وليس الى ضده.  وهذا مستفاد من تعريف الفصل للزواج الفاسد، بأنه كل زواج تم ركنه بالإيجاب والقبول، اختلت بعض شروطه.

كما ان هناك شرطا اخر ظاهرا فيما يرجع للنسب، هو ان يجئ الولد بعد ستة اشهر فاكثر، من تاريخ الدخول، وهو المنصوص عليه في الفصل86 من م. ح. ش.
* * *
والجدير بالذكر ان بعض الفقهاء، قاس على حالة الزواج الفاسد، فيما يرجع للنسب، الحالة التي تحمل فيها المخطوبة من خاطبها، قبل الاشهاد على الزواج او تضع حملها لأقل من ستة اشهر، من تاريخ الاشهاد، ويقترح تكميل الفصل86 من المدونة، بالنص على انه " اذا ظهر حمل بالخطيبة قبل الاشهاد بالعقد، او وضعت بعد الاشهاد لأقل من ستة اشهر، فالحكم اللحوق بالخطيب، بشروط أربعة وهي اذا امكن اتصال الخطيب بالخطيبة، وتوفرت الخطبة على الايجاب والقبول، وفشا بينهما، ولم ينف ذلك الحمل او الولد بلعان والا فلا لحوق(9).
-------------------
(9) صاحب الاقتراح هو المرحوم محمد الجواد الصقلي رئيس المجلس العلمي بفاس انظر تفصيل ذلك في مقال الولد للفراش للأستاذ احمد الغازي الحسيني بمجلة القضاء والقانون العدد 130. ص.45.
-----------------------
وأميل شخصيا الى التوسع في هذا الراي، ليشمل حالة المرأة التي تحمل نتيجة لوعد كاذب بالزواج، يستعمله المغرر بها، لاستدراجها الى وطره، و أولى اذا كان صادقا في وعده، ثم بدا له ان ينكل عنه، عند ظهور الحمل، وهي ظاهرة شائعة عمت بها البلوى في عصرنا، كما يقال،  فكان لابد من علاج وحل قانون، لإنقاذ ما يمكن انقاذه، من انساب عشرات المواليد، الذين يخرجون الى الوجود بسببها فتضيع أنسابهم بغير حق.

اذ ان من الشائع المألوف ( والمقبول عرقا كذلك) ان يقيم الرجل والمرأة في عصرنا، تعارفا يتطور في كثير من الأحيان ليتجاوز التعارف العادي البديء، إلى شيء اخر، قد يكون انحرافا صريحا، وقد يكون منطويا على ( نية الزواج) في صورة تواعد عليه، فيكون خطبة او قريبا منها، او في صورة اتفاق وتراض عليه، فيكون بداية زواج، تنقصه بقية الأركان والشروط، حتى اذا حملت المرأة هجرها الرجل، اما لأنه لم يكن صادقا اصلا، واما لانه ظهر له ان ينكل، مستغلا انعدام الإشهاد ليخرج الحمل الى الوجود، بدون نسب يقيه من ان يندرج ضمن اللقطاء، والحال انه يجب إلحاقه بوالده، لوجوده الشبهة الكافية لذلك، وهي نية الزواج، التي تعتبر علة كافية، لقياس هذه الحالات جميعها، على الزواج الفاسد، في لحوق النسب.

غير انه لابد من الاحتياط عند التطبيق، لئلا تنفتح الذريعة لما لا يجوز، وتلتبس الحالات المقصودة بالقياس، بحالات المخاذنة والمخاللة، التي لا يصح ان يترتب عنها أي اثر شرعي، لأنها زنى محض.
ولهذا لابد سدا للذرائع ، من مراعاة قيود وشروط، تقتضيها دقة الحالة، وقربها من الحرام، وما تستوجبه من احتياط شديد. من ذلك انه لابد من ان تشتهر علاقة الرجل بالمرأة ويفشو خبرها. ويفشو معها تواعدهما على الزواج، او تعاهدهما وتراضيهما عليه، بوجه يمكن اثباته بالشهود والقرائن، مثل الصور والمكاتبات، وكل الأفعال والمظاهر، الدالة على انطواء علاقتهما على نية الزواج، ولابد ان يكون ظهور الحمل او وضعه، متناسبا ومنضبطا، مع تاريخ العلاقة، والزمن المقرر لأمد الحمل، حسب نص الفصل84 من المدونة، ولابد الا يكون في سيرة المراة، ما يشكك في براءتها وسوء سلوكها، احتياطا من ان تنسب للرجل حملا ليس منه.

واعتقد ان حالة الطرفين، من حيث عمرهما وطبقتهما وبيئتهما واوضاعهما العائلية والاجتماعية، لابد ان تكشف عند البحث والتحري، عن عدة قرائن، تحدد طبيعة العلاقة ونوعها، وما اذا كانت بريئة سليمة تنطوي على نية الزواج على نحو ما، ام مجرد واقعة من وقائع الانحراف، التي لا يجوز ان يترتب عنها، أي اثر قانوني. ان مجتمعنا يعج بكثير من المواليد الذين يخرجون الى الدنيا نتيجة لهذه العلاقات التي تقبلناها تقليدا للمجتمعات الغربية. ومن العدل إلحاق هؤلاء المواليد بالمسؤولين عنهم، اذا تحققت الشروط المثبتة لوجود نية الزواج. وتأبى شريعتنا بمقاصدها السامية وضوابطها الحازمة ان تترك لهؤلاء الفرصة، للإفلات من التزاماتهم، حتى في الحالة التي يستعملون فيها الوعد بالزواج، او التعهد به، وسيلة للاحتيال والمكر، والتلاعب بالأعراض. اذ ان روح الشريعة، تقتضي ان يكون لهذا الالتزام جزاؤه الزاجر، لذوي النيات السيئة، عملا بقواعد المصالح المرسلة والاستحسان، وتطبيقا لقاعدة ( تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) التي أصبحت أحوالنا، تقتضي العمل بها، لتقويم الكثير مما اعوج من شؤوننا، بتأثير الحضارة الغربية.
* * *
يمكننا بهذا ان نخرج بخلاصة الأحوال الخالي من التوثيق برسم عدلي، هي ان مصير هذا الزواج، ينتهي الى ثلاثة أحوال:
1) اما الإجازة الكلية، وهي المنصوص عليها في الفقرة الاخيرة، من الفصل الخامس، ويشترط لها ثبوت العذر المانع، من الاشهاد على الزواج، برسم عدلي، وثبوت وجود الزواج بجميع أركانه. من التراضي والصداق والوالي، بالبينة الصحيحة، حسب التفصيل السابق.
2) واما الإجازة الجزئية، بتصحيحه فيما مضى، وإقراره بعض آثاره، وخصوصا منها نسب الولد والنفقة، وإلغائه فيما يستقبل، والتفريق بين طرفيه. وهي المنصوص عليها في الفصلين 32 و37. ويشترط لها ثبوت التراضي، وانصرف نية الطرفين الى الزواج، مع العجز عن إثبات العذر المعفي من الاشهاد عليه برسم عدلي.
3) واما البطلان التام والانعدام الكلي لاثاره، تطبيقا للفصلين الرابع والخامس، بمفهوم المخالفة، اذا لم يثبت شيء مما ذكر، من العذر المبرر لإهمال الإشهاد، ووجود التراضي على الزواج

اجتهاد المجلس الاعلى
في تفسير وتطبيق
الفصل الخامس من المدونة
ظلت المحاكم المغربية كما سلف تتجاهل مقتضيات الفصل الخامس وغيرها من المقتضيات القانونية المكملة له التي استحدثها المشرع المغربي والزم بها المحاكم منذ سنة1957 لأسباب اجتماعية اقتضتها، وهي ضرورة صيانة عقد الزواج من الأهواء وضرورة تحصينه بالإشهاد الكتابي.

والأغرب ان دفاع المتقاضين في دعاوي المنازعات الزوجية، قلما كان يدفع بمقتضيات الفصل الخامس هذه او يطعن بها في مختلف المراحل التي تمر بها الدعوى. ودليل هذا ان المجلس الاعلى كان يثير تلقائيا مقتضيات الفصل الخامس، في قضايا النقض المعروضة عليه، حيث كانت طعون الطاعنين، تدور خاصة حول بطلان شهادة الشهود، لأسباب ترجع لعيوب الشهادة، بمستند الشهود، او صيغة الشهادة الخ…

وكان المستند القانوني، الذي  تعلل به المحاكم قضاءها، في هذه النوازل، هو ما دونه الشيخ خليل بن اسحاق، في مختصره بقوله: " اذا تنازعا في الزوجية تثبت ببينة ولو بالسماع" الذي طالما وجدناه مذكورا، حرفيا او بمعناه، في حيثيات الأحكام، الصادرة في دعاوي الزوجية.

وكانت بعض الأحكام، تأخذ بهذا النص الفقهي حرفيا، من غير اعتبار لمقتضيات الفصل الخامس من المدونة، ومن غير حرص على تعليل تطبيق الاستثناء بوجود ضرورة لذلك، ليكون الحكم معللا على نحو ما، على الأقل.
وربما كان الحامل على تجاهل الفصل الخامس، على هذا النحو، هو حسبان ان الفقرة الأخيرة منه، تجيز الاستناد الى شهادة الشهود، من غير قيد، بنصها على جواز اعتماد البينة الشرعية على سبيل الاستثناء.
وهذا فهم بعيد عن المقصود من الفصل، لانه لا يجيز قبول الشهادة الا على سبيل الاستثناء والضرورة. وهذا يوجب على المحكمة اذا نجحت على قبول  شهادة الشهود، ان تبين الضرورة المجوزة للعدول، عن القاعدة الى الاستثناء .

ولهذا رأينا المجلس الاعلى، يتدخل في مجموع  من الأحكام، لرفع هذا الخرق القانوني الصريح، الذي كان يثيره تلقائيا، اعتمادا على ان قضايا الأحوال الشخصية، تتعلق بالنظام العام، يجب التصدي للقضاء فيها بما يجب، ولو لم يثره أطراف الدعوى.

والملاحظ من تتبع قرارات المجلس الاعلى، الصادرة في هذا الموضوع، ان تدخله اتخذ طريقتين متدرجين. فقد كان في الاول ينقض الأحكام، ناعيا عليها انعدام التعليل، بعدم النص على العذر المبرر لقبول الشهود، بدلا من الرسم العدلي، مقررا انه لابد لقبول شهادة الشهود، على سبيل الاستثناء، من النص على ذلك، وبيان العذر المسوغ له.

ومن أمثلة ذلك القرار عدد 12، الصادر بتاريخ 10 مارس69، الذي نقض قرارا استئنافيا، استند الى موجب لفيفي، ناعيا عليه، بإثارة تلقائية، خرق الفصل الخامس، لكونه اعتمد في دعوى الزوجية، على البينة الشرعية لاثباتها، دون تعليل كاف، لشرح الصفة الاستثنائية، التي اعتمد عليها في الحكم بلحوق الولدين، وانه كان يجب على المحكمة، ان تذكر باللفـظ، انها تعتمد على الصفة الاستثنائية مع شرح هذه الصفة الاستثنائية، كازدياد الأولاد في بيت الوالدين، وتاريخ الازدياد، وما يقع من الحفلات في تلك المناسبة، وسن الأولاد، وشهادة مدرسية لهم، ان اقتضى الحال، ومدة الحياة الزوجية المشتركة، وما يناسب ذلك مما يثبت قطعا علاقة الزوجية (10).

ومن ذلك ايضا، القرار الصادر بتاريخ فاتح فبراير1971 تحت عدد 29، الذي نقض فيه المجلس، بإثارة تلقائية كذلك، قرارا من محكمة الاستئناف بالبيضاء، قضى على امرأة بالاستناد الى موجب لفيفي، بصحة زواجها من المدعي، وإلزامها بالالتحاق، ببيت الزوجية، بعلة خرق الفصل الخامس من المدونة، لأنه انما أجاز للقاضي سماع دعوى الزوجية، واعتماد البينة الشرعية في إثباتها استثناء، وانه يجب على المحكمة ان تبين الدواعي، التي حملتها على اعمال هذا الاستثناء، حتى يتمكن المجلس الاعلى من مراقبة وجود دواعي الاستثناء واسبابه (11).

ومن ذلك أيضا القرار عدد 132، الصادر بتاريخ 5/7/71، الذي نقض فيه المجلس، بإثارة تلقائية مرة أخرى، قرارا استئنافيا، من محكمة الاستئناف ببني ملال، يستند الى موجب لفيفي للحكم بتصديق مدعية، في ان المدعى عليه أرجعها بعد الطلاق، وقرر المجلس ان المراجعة  بمثابة نكاح جديد، يتشرط فيها ان تتم باشهاد عدلين، ولا يجوز للمحكمة ان تعتمد البينة الشرعية في إثباتها، الا اذا بررت ذلك، بوجود أسباب مبررة للعدول، عن القاعدة العامة لاثبات النكاح (12).

والملاحظ في هذا القرار الأخير، ان المجلس الاعلى، اعتبر مقتضيات الفصل الخامس عامة، تسري على الزواج الأصلي والمستأنف معا، أي المبرم بعد الطلاق ولو بالرجعة.
وبعد تدخل المجلس الاعلى على هذا النحو، ونقضه لكثير من الأحكام، موجها المحاكم الى وجوب تعليل أحكامها، في حالة الاستناد الى شهادة الشهود لإثبات الزواج، ببيان انها تطبق الاستثناء، وبيان العذر المبرر لذلك، أخذت المحاكم الدنيا في الأغلب، تقضي بعد الاحالة برفض دعاوي الزوجية، بالاستناد الى انعدام العذر المبرر، لإهمال الاشهاد الكتابي، لتوثيق الزواج، تطبيقا للقاعدة المقررة بالفصل الخامس.
------------------------
(10) قضاء المجلس الاعلى. العدد. 5. ص. 65.
(11) قضاء المجلس الاعلى . العدد. 24. ص. 28
(12) قضاء المجلس الاعلى. العدد. 2. ص. 42.
-------------------------
وهنا تطور اجتهاد المجلس الاعلى، فاتخذ تدخله نهجا آخر، وهو اعتبار الزواج الخالي من الاشهاد، صحيحا جزئيا، فيما يرجع لما مضى منه، وإقرار بعض اثاره، كالنفقة ونسب الأولاد، وذلك بالاستناد الى ان الزواج الخالي من الاشهاد، يعتبر من الزواج الفاسد، الذي يجب تصحيحه جزئيا، بإقرار ما مضى منه، وفسخه بالنسبة للمستقبل، تطبيقا لمقتضيات الفصلين 32 و37، من مدونة الأحوال الشخصية، التي تقرر ان الزواج الذي وقع فيه الايجاب والقبول، ولم يقع فيه اشهاد، يعتبر من الزواج الفاسد.

واقدم ما وصلنا من أحكام المجلس، المسجلة لهذا الاتجاه، القرار عدد 74، الصادر بتاريخ 12 مارس73، الذي قرر فيه المجلس، إبرام قرار استئنافي، صادر من محكمة الاستئناف بالرباط، قضى لمدعية بنفقتها ونفقة الولد، بعد إنكار المدعي عليه، بالاستناد الى شهادة لفيفية، رافضا الطعن بخرق مقتضيات الفصل الخامس من المدونة، مقررا ان الفصل الرابع منها نص على ان الزواج ينعقد بإيجاب من احد العاقدين وقبول من الأخر، كما نصت الفقرة الثانية من الفصل 32 منها، على ان كل زواج تم ركنه بالإيجاب والقبول، واختلت بعض شروطه، فهو فاسد، وبعد ذلك نصت الفقرة الثانية من الفصل37، على انه اذا كان مختلفا في فساده، فيفسخ قبل الدخول وبعده بطلاق، ويترتب عليه وجوب العدة، وثبوت النسب، ويتوارثان قبل وقوع الفسخ.

واحدث ما وصلنا من ذلك، القرار عدد 470 الصادر بتاريخ 15/12/802 الذي نتناوله بهذا التعليق، والذي سار في هذا الاتجاه الجديد، بقضائه بنقض قرار محكمة الاستئناف، فيما حكم به قضاته، من رفض دعوى الزوجية، لانعدام رسم الزواج، وانعدام العذر المبرر للعمل بالاستثناء، وعدم قبول البينة الشرعية لهذا السبب، تأييدا للحكم الابتدائي، الذي سبق الى ذلك، واستند المجلس، باثارة تلقائية مرة اخرى، الى الفصل 32 من م/ ح/ ش في فقرته الثانية الناصة، على ان كل زواج تم ركنه بالإيجاب والقبول، واختلت بعض شروطه، فهو فاسد والى نص الفصل37 منها،  على ان النكاح المختلف في فساده ( ومنه الذي يتم بدون إشهاد)، يفسخ قبل الدخول وبعده بطلاق ويترتب عليه وجوب العدة وثبوت النسب، والى نص الفصل 86 منها على ان ولد الزوجة من الزواج الفاسد اذا جاء لستة اشهر فاكثر، يثبت نسبه الى الزوج حسب الفصل37 منها،  والى ان الزواج تم في هذه القضية ببينة شرعية، لم تعتمدها المحكمة، لفقد شرط الصحة، مما يجعله فاسدا، مستحقا للفسخ.

 ومع اتفاق القرارين في الاتجاه، نحو تقرير الإجازة الجزئية للزواج الخالي من الاشهاد، فان هناك فرقا يوجب إجراء مقارنة بينهما، لبيان ما اتفقا فيه وما اختلفا، وإدراك تطور المجلس الاعلى، في تفسير وتطبيق الفصل الخامس.

فبعد ان سجل القراران مما في حيثياتها، ان خلو الزواج من الاشهاد، يجعله فاسدا، حسب نص الفصل32، ويوجب تطبيق الفصل37 و86، وإجازته جزئيا، نطق قضاة القرار الاول، برفض طلب النقض وإقرار القرار الاستئنافي، الذي قضى بنفقة الزوجة والولد، على اساس ان الزواج كان صحيحا جزئيا قبل الدعوى وان الزوجة تستحق النفقة عما مضى منه، وان الولد يستحقها عما مضى وعما هو آت، باعتبار نسبه ثابتا.

وهذا المنطوق فاسدا، لا ينسجم مع الجزاء القانوني، الذي تقتضيه الحيثيات. لان المجلس كان يجب عليه، بعد ان اتجه الى اعتبار الزواج فاسدا، ان ينقضي القرار الاستئنافي، ويحيل القضية على محكمتها، لتطبيق مقتضيات الفصل37 و86 من م/ ح/ ش، وتنطق بفسخ الزواج لانه فاسد، وتقضي للمدعية بنفقتها عما مضى، ولحوق الولد، واستحقاقه النفقة. بل كان من الجائز ان يتصدى المجلس للقضية، وينطق بالفسخ، واستحقاق النفقة من غير إحالة، لا سيما ان قضاة القرار أنفسهم، نعوا على المحكمة، انه كان يجب عليها ان تقضي بالفسخ تلقائيا.

ولا ريب ان النتيجة القانونية لمنطوق قرار النقض هذا، في قضائه برفض طلب النقض، ان يبقى القرار الاستئنافي المطعون فيه صحيحا بحيث يصح للمدعية، ان تستند إليه في ثبوت الزوجية، والمطالبة بنتائجها ومنها نفقتها اللاحقة.

ومن الصعب التخلص من اثر القرار هذا، على اساس ان قضاءه برفض النقض، يجب تفسيره، على مقتضى حيثياته، التي تضمنت فساد الزواج، لكون المنطوق لا يبرز هذا بالدلالة القانونية الكافية. فالجزاء القانوني لتطبيق مقتضيات الفصلين37 و86 والإجراء المسطري الواجب في هذه النوازل، باعتبار ان الأحوال الشخصية من النظام العام، هوان تقضي المحاكم، كلما وصلتها نازلة زواج خال من الاشهاد، وبمبادرة تلقائية، بفسخ هذا الزواج لما يستقبل، وإقراراه جزئيا، فيما يخص المدة السابقة على الدعوى، واستحقاق النفقة وصحة نسب الأولاد.

وهذا ما أدركه قضاة القرار الثاني، وقضوا بناء عليه بنقض القرار المطعون فيه، وإحالة القضية للبت فيها، حسب توجيه المجلس الاعلى الموجب للنطق بفسخ النكاح، واستحقاق النفقة، ولحوق الولد، وبذلك كان هذا القرار، تطورا اجتهاديا محمودا من المجلس الاعلى، جديرا بان يستقر، وتطرد عليه المحاكم الدنيا.

الا ان الملاحظ على هذين القرارين، وكذا جميع القرارات الصادرة في نوازل الزواج، ان المجلس الاعلى، اعتبر اللفيف شهادة شرعية، يصح الاستناد إليها، لإثبات وجود التراضي على الزواج، وحصول ركن الايجاب والقبول. وفي هذا خطا قانوني لا يخفى، او لا يجوزان يخفى.

اذ ان قانون المسطرة المدينة، اوجب لقبول الشهادة، في الفصل72 وما بعده، إجراءات جوهرية، لا تصح الشهادة الا بها ومنها الحضور امام القاضي الذي يتحقق من هوية الشاهد وانتفاء الموانع، واداء اليمين، التي لا تكون الشهادة صحيحة منتجة الا بها ، بصراحة الفصل 76.

وهذه الإجراءات تعم جميع القضايا المدنية، سواء منها التي تطبق عليها قواعد القانون المدني، او التي تطبق عليها قواعد الشريعة الإسلامية، مثل قضايا الأحوال الشخصية، والعقار غير المحفظ وهذا امر حسم فيه المجلس الاعلى، كل جدال او خلاف، بقراره المشار اليه الذي اعد له إعدادا، بقصد الإشعار بأهميته، واعطائه قوة الحسم، فأصدره بهيئة مؤلفة من غرفتين، ترأسها الرئيس الاول شخصيا، وقضى فيه بان قانون المسطرة المدنية المدون، يجب تطبيقه على جميع القضايا مدنية كانت او شرعية(13).

وشهادة اللفيف، لا يمكن ولا يجوز اليوم، اعتبارها شهادة بالمعنى القانوني للكلمة، لان الشهود يؤدونها امام عدلين يسجلان أقوالهم، خارج مجلس الحكم، في غيبة القاضي والقضية واطرافها، ومن غير يمين.

وقد صدرت قرارات من المجلس الاعلى تؤكد هذا . فهناك قرار صادر بتاريخ 21/9/77 تحت عدد 529، جاء فيه ان اللفيف انما هو مجرد لائحة شهود لم يطلب الاستماع إليهم، حتى تكون شهادتهم عاملة، وان شهادة الشهود التي يعتبرها الفصل444 من ق. ع. ل وسيلة من وسائل الاثبات، في الحالات الخاصة، هي الشهادة التي يدلي بها الشاهد امام القاضي، بعد اداء اليمين القانونية(14).

وهناك قرار اخر، صادر بتاريخ 8/12/76، تحت عدد 717، جاء فيه ان اللفيفية يمكن الاستئناس بها، لإثبات وقائع مادية، وعلى من يتمسك بعدم صحتها، لمخالفتها للإجراءات المسطرية اللازمة لسماع، شهادة الشهود، ان يثير ذلك لدى قضاة الموضوع، ويطلب منهم سماع الشهود، بمحضر الأطراف، ويتمسك بأدائهم اليمين القانونية(15).
-------------------
(13) انظر القرار في  مجموعة قرارات المجلس الاعلى المادة المدنية 66-82 ص. 634.
(14) انظر القرار في مجلة المحاماة العدد الثاني عشر ص.80
(15) انظر القرار في مجموعة قرارات المجلس الاعلى (المادة المدنية) ص. 577.
--------------------

والملاحظ ان المجلس، ذهب في هذا القرار، الى تصويب رأي محكمة الاستئناف التي استندت الى شهادة اللفيف، رافضا منازعة الطاعن، بان في ذلك خرقا للإجراءات المسطرية، المقررة لقبول الشهادة، بعلة انه لم يتمسك بذلك امام قضاة الموضوع وهذا التعليل على ما فيه، لا ينفي ان القرار يفيد ضمنا، ان شهادة اللفيف، ليست شهادة صحيحة، بالمعنى القانوني.

الا ان الملاحظ ان الغرف الشرعية بالمجلس، مازالت دائبة على قبول شهادة اللفيف، في قضايا الأحوال الشخصية، لإثبات الزواج، ولا ندري الأساس القانوني، الذي يعول عليه المجلس في هذا. الا ان يكون قد ارتأى ان الإجراءات  المسطرية المقررة لصحة الشهادة، غير واجبة في دعاوي الأحوال الشخصية. وهذا راي سبق ان خطاه المجلس الاعلى ، بقراره المشار اليه، الذي أصدره بغرفتين، وأكد فيه ان قواعد المسطرة المدنية المدونة، أصبحت مطبقة منذ نفاذ قانون توحيد المحاكم، على جميع القضايا من غير فرق.

فرع حول اصل اللفيف
وتطوره وقيمته القانونية
ان الواقع يؤكد ان هناك دواعي أخرى جعلت شهادة اللفيف مردودة من قديم، حتى قبل تعميم قانون المسطرة المدنية، على القضايا الشرعية، بحيث كان يجب على القضاء، ان يتصدى لإبطال العمل بها، بحالتها الراهنة، لاثبات الزواج بالخصوص، قبل نفاذ قانون توحيد المحاكم، وما ترتب عنه، من تعميم قانون المسطرة المدنية.
فقد احتف بشهادة اللفيف، في منشأها وتطورها مع الناس، من الشبهات والقوادح المبطلة، ما أحاطها بالريبة والضعف، النافي للحد الأدنى من اليقين الضروري، لتحقيق الإثبات القانوني الواجب.

اذ سيفاجأ كل من سعى الى البحث عن اصلها ومنشأها وسندها، انها اقتحمت واقع الناس، وفرضت نفسها على  القضاء، على الرغم من انها كانت مخالفة للقواعد العامة، والأصول المقررة، لصحة شهادة الشهود، وخصوصا منها العدالة، والأداء العلني للشهادة بمجلس الحكم. وهذا واضح من انها ووجهت اول ما ظهرت، بنقد شديد ومعارضة قوية، من الفقهاء الذين عاصروا ظهورها، وبدء العمل بها.

ومن ذلك قول ابي الحسن علي بن عمران ان اللفيف " لا مستند له، وانما هو شيء اصطلح عليه المتأخرون، لتعذر العدول في كل وقت، وفي كل موضع، وفي كل نازلة. ومن ذلك أيضا قول القاضي ابي سالم ابراهيم الجيلالي: وأدركنا الاشياخ الكبار، ومن بعدهم أشياخنا، منعوا من قبول شهادة اللفيف مطلقا، في كل المعاملات، حتى اشتكى الناس بضياع الأموال والحقوق.

وكما هو ظاهر من النقل الأخير، فقد ظل كبار الفقهاء والقضاء، يمنعون استعمال شهادة اللفيف ويرفضونها في الإثبات، الى ان تضر المتقاضون، من تعذر توثيق معاملاتهم بالإشهاد العدلي، واثبات دعاويهم بشهادة عدلية مطابقة للقواعد العامة، وهنا اضطر الفقه والقضاء، لقبولها استثناء للضرورة الملجئة.

ولأجل تأصيلها وتأسيسها على اسباب قانونية تسوغها، قاسوها على بعض الشهادات المخالفة للقواعد العامة، التي يقبلها القضاء للضرورة، مثل شهادة الصبيان على بعضهم في الجراح والقتل، وكشهادة النساء في المآتم والاعراس، ونص ابن ابي زيد على ان اذا لم نجد في جهة الا غير العدول، أقمنا أصلحهم واقلهم فجورا للشهادة، لئلا تضيع الحقوق والمصالح(16).

وبعد قبولها واجازة اعمالها، قيدوها بشروط كثيرة مراعاة لطابعها الاستثنائي وهكذا رأيناهم يشترطون الا يتولى سماع الشهود، ويدون شهادتهم الاحذاق العدول المبرزين، الذين لهم دراية بأصول الشهادة وكيفية ادائها، بالنطر لكون اداء اللفيف، يقع خارج الخصومة، وفي غيبة القاضي والمشهود عليه، ووجدناهم كذلك يقيدون قبولها، بان تكون فيما يطرأ من الوقائع، ويتعذر إحضار العدول لتوثيقه، وان يكون ذلك بمكان لا عدول فيه، بحيث تتحقق الضرورة الملجئة لغيرهم.

ووجدناهم يشترطون في الشهود، ان تكون حالهم مستورة، وهي عبارة تعني الا يكونوا مشهورين بسوء السيرة والسلوك، بترك الفرائض وارتكاب المحرمات المجرحة مثل المجاهرة بالسكر والقمار.

وجاء القاضي ابراهيم بن عبد الرحمن الجيلالي، وخصص شهادة اللفيف بالأموال، دون غيرها، اوجب كذلك تحليف المشهود له وجاء القاضي ابن سودة بقيد اخر جدير بالاهتمام، باشتراطه تحليف الشهود، لما راه من تهافت الناس، على شهادة الزور. فكان لا يقبل شهادتهم إلا اذا ادوا اليمين، على صحة أقوالهم(17).
-----------------------
(16) انظر تفصيل ذلك في شرح علي بن قاسم السجلماسي الرباطي على العمل الفاسي. ج. 2. ط. الحجرية. ص. 203. وما بعدها.
(17) المرجع السابق. ص. 210. وما بعدها.
---------------------
وهذا اجتهاد سديد منه، وقيد ضروري لمنع كل تلاعب متوقع. لانه ترتب عنه، ان اصبح حضور الشهود امام القاضي واجبا لتحليفهم.
وقد استند في ذلك، الى ما ذكره الفقيه ابراهيم بن فرحون، في كتابة تبصرة الحكام، من ان القاضي يجوز له تحليف الشهود، ولو كانوا عدولا، اذا ارتاب وخاف منهم ان يشهدوا بالزور، عملا بقاعدة " تحدث للناس أقضية، بما أحدثوا من الفجور" وهو عمل اخذ به بعض قضاة الأندلس بالفعل.
وجاء القاضي الفشتالي فزاد قيدا أخر كشف الزمان ضرورة، هو الاستفسار المستقل، الذي يقع امام عدل او عدلين، بعد اداء الشهادة وسماعها وتدوينها، والذي يعتبر امتحانا للشهود وتحقيقا معهم، لرفع كل أشكال او اتهام او إجمال. لأنه يقتضي ان يقوم العدلان، بقراءة الشهادة على الشهود قراءة تفهم، ثم يسال كل شاهد عن شهادته كيف يؤديها، وعن مستند علمه فيها، ويسأله عن كل فصل يتوقف عليه تمام الشهادة، فإذا وافقت اجوبة الشهود ما شهدوا به اولا، صحت واذا جاءت أقوالهم مخالفة لذلك، بطلب كليا، وكذا اذا امتنع الشهود او احدهم من الجواب.

وقد رجحوا ان الاستفسار بمثابة التزكية، لابد منه لصحة شهادة اللفيف، وانه إذا تعذر لموتهم او غيبتهم، بطلت الشهادة. ورجحوا كذلك، انه حق للمشهود عليه، يحق له ان يطلبه، داخل مدة قدرتها ستة اشهر. الا انها لا تعتبر الا من يوم حضوره وعلمه ورشده (18).
وبهذه القيود والضوابط، لاسيما تحليف الشهود واستفسارهم، تحصنت شهادة اللفيف، من العبث والتلاعب بالحقوق، وكان قبول القضاء لها، والاطراد على ذلك سليما جديرا الاحترام، لان تحليف الشهود واستفسارهم، بتلك الطريقة التي راينا، ينطوي على كثير من الإجراءات، التي اصبحت الآن واجبة، بالنصوص القانونية المسطرية الآمرة.

غير انه بمرور الأيام، تسهل كثيرا في أمر اللفيف، من جميع الجوانب، سواء في الاذن بإقامته او سماعه او تدوينه من العدول، او قبوله من المحاكم، لاسيما في النزاعات الخطرة، ومنها العقار والزوجية.
اذ سرعان ما تخلى القضاء عن تحليف الشهود، الذي اصبح اجتهادا مرجوحا متروكا، على الرغم من ان حال الناس وفساد المجتمع، أكد ضرورته لتلافي التلاعب، بالحقوق المادية والمعنوية.
---------------------
(18) انظر مواهب الخلاق لابي الشتاء الصنهاجي. ج. 1. الطبعة الثانية. ص. 316.
-------------------
. وسرعان ما اصبح الاستفسار، الذي كان امتحانا للشهود، وتحقيقا ضروريا، لقمع المتهافتين على شهادة الزور، إجراء شكليا، يتم بارتجال بعيد عن الدقة المطلوبة، لتحقيق الغاية منه.
وآل الأمر الى ان اصبحت المحاكم، تقبل شهادة اللفيف، بكل علاتها، ما دامت تحمل إمضاء قاضي التوثيق الاذن بها، وتوقيع العدول الذين دونها، في جميع الدعاوي، مهما بلغت خطورتها، مثل الحيازة المكسبة للملك والزوجية والإرث.

 واستقر القضاء او كاد، على عدم قبول أي مطعن، يرمي الى تجريح الشهود، على الرغم من ان مدونات الفقه، مجمعة على انه لا بد فيهم، من ستر الحال، وعدم الإشهار بسوء السيرة والسلوك. وصار المشهود عليه لا يستطيع المنازعة، الا بالإدلاء بلفيف اخر، يثبت العكس. وقد ينتهي الأمر بترجيح لفيف المدعي، بكل عيوبه، بناء على قاعدة المثبت مقدم على النافي.

وظل القضاء جامدا على هذا الاجتهاد الفاسد، قبل الحماية وأثناءها. واستمر الحال على ذلك بعد الاستقلال، على الرغم من التنظيم الكبير، الذي ادخل على القضاء، ومنه بالخصوص، إنشاء المجلس الاعلى، الذي تولى الاشراف على مراقبة تطبيق القانون، وتوحيد الاجتهاد، وتوجيه المحاكم الدنيا الى التطبيق السليم للقوانين.

وكان بإمكانه، بل من واجبه، ان يقوم بإدخال الإصلاح الضروري على اللفيف، بإيجاب العمل، ببعض القيود والشروط، التي نصت عليها مدونات الفقه، وعمل بها القضاء ثم تخلى عنها، على الرغم من ان الفجور الذي استحدثها ازداد بمرور الأيام ولم ينقص.

وقد تدخلت وزارة العدل حقا، بإصدار بعض المناشير التوجيهية، تنعي فيها التساهل في إقامة اللفيفات، والتساهل في تلقيها، من غير مراعاة للضوابط الضرورية، المانعة من العبث والزور، غير ان هذا لم يجد شيئا وكان الأجدر بالوزارة، ان توجه المجلس الاعلى، ليقوم بدوره الضروري النافع، بإحياء بعض الاجتهادات السديدة، التي نبذها القضاء بغير حق، ومنها تحليف الشهود، وقبول القدح فيهم بسوء السيرة.

وقد صار مشهورا الآن، ان الإنسان يستطيع ان يثبت كل ما يريد باللفيف، حيث يمكنه بسهولة، ان يزيد في عمره او ينقص، ويمكنه ان يصبح زوجا او زوجة، او حائزا حيازة مسقطة للدعوى، بجمع اثنى عشر فردا، وسوقهم ليقوموا كل ما يريد او يقولهم كل ما يريد.
وصار معروفا ومن قديم، ان تهافت الناس على اللفيف، وكثرة استعماله انشا سوقا للشهادة، فيها محترفون يعرضون خدماتهم، ووسطاء يربطون بينهم وبين طالبيهم.
وطالما كانت شهادة اللفيف، موضوع تهكم وسخرية من فقهائنا القدامى، الذين لاحظوا ان عدم مراعاة بعض القيود التي فرضوها، أدى في بعض الأماكن الى ظهور محترفين، يشهدون بكل ما يراد منهم، مقابل ثمن بخس.
فقد نص الشيخ التاودي في شرحه على " لامية الزقاق" على انه لابد في قبول اللفيف من الاحتياط فلا يقبل كل واحد، وان كان غير منظور فيهم الى العدالة فلا بد من توسم السلامة مما يمنع الركون الى الشهادة كحمية او عصبية تقتضيها الحال، وقد صرحوا بمنع شهادة الزفانة( محترفي الرقص) ومن يجري مجراهم كمن يتعاطى الحشيشة ونحوها " وزاد قائلا: وقد ذكر لي بعضهم انه احتاج الى بينة فأقامها من مثل هؤلاء، بست أواق في ساعة واحدة (19).

ومما كتبه أحد الفقهاء المحدثين عن اللفيف قوله بعد ان سرد الشروط الضرورية لقبوله: ومن الجدير بالذكر، ان هذه الشروط لم تحترم دائما، بل ان اللفيف، كما عاهدناه في القرون المتأخرة، والى عصرنا الحالي، لم تتوفر فيه، أي شروط من هذه الشروط، بل يوتي بالناس كيفما اتفق، وغالبا ما يكونون من ارذل القوم وأجرئهم على قول الزور، بل ان الذين يؤدون الشهادة حاليا، لا يتورعون عن مطالبة المشهود له، باداء قدر من المال، وهم لم يطلعوا على الواقعة ولا علموها، اما الاخيار، فيبتعدون عن أداء الشهادة قدر الإمكان(20).
وما اطرف ما كتبه أحد قضاتنا، وقد استفزه الأمر، فقال وهو يعلل حكمه، " لو اراد شخص، ان يقيم شهادة لفيفية، بعدم طلوع الشمس من المشرق، بل طلعت من المغرب، لوجد من يشهد بذلك" (21).
ومن المفيد ان نجلب مثالا تطبيقا، للطريقة الارتجالية، التي يتم بها إنجاز اللفيف، وليكن في موضوع الزواج بالذات.

اذ من المقرر هنا انه يجب ان يتفق الفريق اللفيفي كله بنصابه الإثنى عشري، على جميع معاني الصيغة، التي يحرر بها موجب الزوجية، وهي معرفتهم للزوجين، وتراضيهما على الزواج، ومعرفة الولي الذي تولى تزويج المرأة والصداق المتفق عليه، وتعاشرهما تعاشر الازواج، واستمرار العصمة الزوجية بينهما.

وقد ثبت بالتجربة، انه ينذر ان لم يستحل، ان يتفق الشهود الإثنا عشر في علمهم بجميع الوقائع، التي تفيدها الصيغة المكتوبة.
---------------------------
(19) انظر مواهب الخلاق لأبى الشفاء الصنهاجي. ج1. طبعة الثانية. ص. 324.
(20) العرف والعمل في المذهب المالكي للأستاذ عمر عبد الكريم الجيدي. الطبعة الاولى. ص. 502.
(21) انظر مقال تكييف الدعوى المدنية للأستاذ عمر بوخدة مجلة رسالة المحاماة. العدد 5. ص. 149.
-------------------------
وقد تأكد هذا مرارا، حين يصر بعض المشهود عليهم، على استعمال حقه في الطعن بالزور، وحين يجيء أوان التحقيق الجنائي، فيستدعي قاضي التحقيق الشهود، لتنكشف مهازل تثير الحيرة والعجب، حيث نجد من علم شيئا من هذه الوقائع المشهود بها، يصرح بأنه لا يعرف الا تعاشر الشخصين، او ترافقهما دون علم بالسبب. وقلما نجد من يجرؤ على ان يجيب، بأنه  يعرف تراضيهما على الزواج، واندر من هذا، ان نجد  بينهم من يجيب، بانه يعرف الصداق وقدره، والولي واسمه.

وهذا كله اذا فرضنا احسن الفروض، وهو ان الشهادة تمت بالفعل وان الشهود حضروا وشهدوا واشهدوا لان هناك حالات، ينكر فيها الشهود  إنكارا تاما، ما هو مدون عليهم!
وقد كان المفروض بطبيعة الحال الا يسمع العدلان من الشهود، ويكاب الموجب على لسانهم، الا اذا اتفقوا كلهم على معاني الصيغة، وان يرفضوا ويردوا كل شاهد يجهل شيئا من ذلك. 
وكان المفروض إجراء تحقيق مع الشهود، بطريق الاستفسار، للتأكد  من صحة ما شهدوا به، وامتحانهم في ذلك امتحانا، يجب ان ينتهي بإبطال اللفيف كله، اذا اخفق الشهود او بعضهم ، في تقديم الجواب الضروري، لصحة الاستفسار.
غير اننا نسلم انه صار في حكم المستحيل الآن على العدول، ان يلتزموا بهذه الضوابط، لأسباب مهنية لا تخفى !
اعتقد ان كل ما سلف، كاف لان يقنع كل واحد، بان قبول شهادة اللفيف، بحالتها الراهنة، لإثبات الزواج في الماضي، على الرغم من اصلها المفتقر الى السند السليم، وما أحاط بها منذ نشأتها، من انتقاد الفقهاء، وما صاحبها من سوء السمعة، لهو من المفاسد التي لا يغتفر السكوت عنها، وان التمادي في ذلك الان، على الرغم من وجود نصوص قانونية امرة تبطلها، لهو خطا قانوني خطير العواقب، وعبث يجب على القضاء ان يتنزه عنه. ويجب على المجلس الاعلى المكلف بحماية القانون، ومراقبة تطبيقه، ان يتصدى له بما يجب، وهو توحيد قضائه حتى تطرد أحكامه على الرأي القانوني السليم، وهوان اللفيف ليس شهادة بالمعنى القانوني للكلمة. وانه لا يمكن قبوله، مهما بلغ عدد الشهود، الا بحضورهم مجلس الحكم وأداء اليمين.

 وكفاه وازعا، ان يرجع الى آراء فقهائنا الاسلاف، وانتقاداتهم التي نقلنا بعضها واشتراط بعضهم اليمين، التي لم تكن واجبة، بحسب الاصل، فيكف وقد أصبحت الشهادة منظمة بإجراءات مقننة بنصوص آمرة، لا يمكن إهمالها بأي وجه!!

تقدير القرار
والآن ينتهي بنا البحث، بفصوله التي عرضنا فيها للإشهاد وحكمه، والجزاء القانوني المقرر للإخلال به، وتفسير المجلس الاعلى للفصل الخامس من المدونة، وتطوره في ذلك، الى استنتاج ان القرار، يسجل التطور الأخير للمجلس الاعلى في تفسيره وتطبيقه للفصل المذكور، ويقرر قاعدة محمودة، يجب على المحاكم الدنيا ان تطرد عليها، وهي انه يجب في دعوى الزوجية، حين يفلح المدعي في إثبات وجود الزواج، ببينة مقبولة، ويعجز عن إثبات العذر المبرر لإهمال الاشهاد العدلي حسب نص الفصل الخامس، ان يحكم القاضي بالإجازة الجزئية للزواج، عملا بمقتضيات الفصلين 32 و37 م.ح. ش وان يقضي بفسخه بطلاق، وإقرار نتائجه فيما مضى، ومنها استحقاق النفقة، ولحقوق الولد بنسب الزوج، وجميع الحقوق المتفرعة عن ذلك.

وهذا مع مراعاة ان الحكم بالتفريق بين الزوجين، لا يحرمها من الحق في استئناف زواجهما، بعقد جديد صحيح، بعد الاستبراء، الواجب كما سلف التنبيه لذلك.

وذلك عدولا ونسخا للاجتهاد منعدما كليا وضياع نسب الأولاد، مع ما يترتب على ذلك من عواقب تلافتها الشريعة، من قديم بما وضعته للزواج الفاسد، من ضوابط نافعة توخت  فيها بالخصوص، إنقاذ نسب الأولاد الناتجين عنه.

غير ان القرار جانب الصواب، بإبرامه للقرار المطعون فيه، فيما يرجع لاستناده الى شهادة اللفيف، لإثبات التراضي على الزواج، لانها ليست شهادة بالمعنى القانوني للكلمة، ولذلك كان القرار معيبا من هذا الجانب.
وعليه فان القرار صالح للاطراد، في جانبه المتعلق بالتفسير الجديد الذي أعطاه المجلس للفصل الخامس، الذي ظل مدة طويلة، معرضا لسوء الفهم والتاويل، والتطبيق على صور متعددة تجلت آلا في إهماله تماما، ثم في التحول الى تطبيق فقرته الاولى تطبيقا حرفيا، من غير مراعاة لمقتضيات الفصول 32 و37 و86، التي يجب تفسيره على مقتضاها.

وعليه أيضا فان القرار غير صالح للتطبيق والعمل في جانبه المتعلق بقبول اللفيف باعتباره شهادة صحيحة صالحة لاثبات الزواج على الرغم مما به من عيوب.

وعليه أخيرا  فان القضاء السديد، الذي يجب العمل به، لإثبات دعوى الزوجية عند انعدام الإشهاد العدلي القبلي, هو تكليف المدعي بإحضار شهوده الى المحكمة، ليؤدوا شهادتهم، حسب الإجراءات المسطرية المقررة بنصوص آمرة.

ولابد من الإشارة الى انه بحضور الشهود لمجلس الحكم، لمواجهة القاضي واداء اليمين، لن تبقى حاجة لان يصلوا في عددهم، الى اثنى عشر، فردا، لان هذا النصاب لا اصل له في مصادر الشريعة، وانما هو اجتهاد مقصود به، ضمان العدالة، بالرفع من كم الشهود بعد ان قلت فيه كيفا.

والنتيجة انه لن يكون شرطا ضروريا، ان يصل الشهود في عددهم، الى النصاب الاثني عشري. بل يجوز الاكتفاء بالحد الأدنى المقرر اصلا، وهو وشاهدان اثنان، خاليان من المجرحات النافية للعدالة، مع مراعاة النسبية في تطبيق شرط العدالة، عملا بما سبق ان قرره فقهاء الشريعة ونصوا عليه، في مدونات الفقه، وهو انه إذا خلا المكان من العدول، فيقدم الأمثل فالأمثل، لان ذلك غاية المقدور(22).

فخير من هذا الفريق العرمرم المجند للزور، شاهدان يحضرهما المدعي لمجلس الحكم، ليواجها القاضي، ويختبرهما في عقلهما وعدالتهما، حتى اذا اطمأن إليهما، قضى في النزاع، مستعينا بما في القضية من قرائن، تنضح بها وقائعها وحالة الطرفين.

الا ان هذا لا يعني الدعوى الى الاستغناء عن كثرة الشهود، وإهمال الاستماع الى اكثر من اثنين، اذا تأتى ذلك.
اذ من المفيد جدا، ومن الضروري كذلك،  حسب الاحوال، ان يستمع القاضي الى اكبر قدر ممكن من الشهود، في حدود نصاب اللفيف اواكثر، ليستوثق ويتأكد.
والمقصود بالضبط، هو ان المدعي اذا لم يكن لديه سوى شاهدين، فانه لا مانع من قبول شهادتهما، والاستناد إليهما، بعد اداء اليمين، اذا توسم فيهما القاضي الجد وخلت أقوالهما مما يريب.

تكملة في وضع ضوابط
للبت في دعوى الزوجية
شغلني الفصل الخامس من مدونة الأحوال الشخصية، وقضية إثبات الزواج، بوجه عام، منذ البدايات الاولى لاتصالي بالقانون، في مجال العمل، حين اثار انتباهي، ان المحاكم الدنيا، تتجاهل مقتضيات الفصل الخامس، الذي أوجب توثيق الزواج، لدواعي اجتماعية مقبولة، وتجنح الى قبول شهادة اللفيف، أخذا بالفقه الذي كان معمولا به، قبل صدور المدونة، من غير اعتبار للضوابط العديدة التي استحدثها المشرع.
-----------------------
تكملة في وضع ضوابط  للبت في دعوى الزوجية
شغلني الفصل الخامس من مدونة الأحوال الشخصية، وقضية إثبات الزواج، بوجه عام،  منذ البدايات الاولى لاتصالي بالقانون، في مجال العمل، حين اثار انتباهي، ان المحاكم الدنيا، تتجاهل مقتضيات الفصل الخامس، الذي أوجب توثيق الزواج، لدواعي اجتماعية مقبولة، وتجنح الى قبول شهادة اللفيف، أخذا بالفقه الذي كان معمولا به، قبل صدور المدونة، من غير اعتبار للضوابط العديدة التي استحدثها المشرع.
-----------------------
(22) قواعد الفقه للقاضي السيد العلوي المدغري. ط. دار الكتاب. ج. 1. ص. 15.
----------------------
وعندما اخذ المجلس الاعلى ينشر أحكامه بانتظام، في مجلة " قضاة المجلس الاعلى"  التي  أصدرها  في  الستينات ، سرني ان اطلع فيها، على قرارات جاءت موافقة لما لاحظته، بادر فيها المجلس، الى نقض أحكام،باثارة تلقائية ناعيا عن المحاكم الدنيا، إهمال مقتضيات الفصل الخامس، في ايجابه لتوثيق الزواج بعقد رسمي، وعدم جواز إثباته بشهادة الشهود، الا على  سبيل الاستثناء  وبناء  على  وجود  عذر، موجها، محاكم الإحالة، الى وجوب بيان العذر المسوغ للانتقال الى الاستثناء، بدل القاعدة.

واليوم يغمرني الارتياح والانشراح، اذ تجئ الفرصة لأكتب في الموضوع، وأدون فيه  ملاحظات طالما، تمنيت ان تأتيها المناسبة للظهور، عسى ان تكون من العلم النافع، الذي يثمر الخير والصلاح.

وبعد بحث قضية الإشهاد فقها وقضاء، واجتهاد المجلس الاعلى، في تفسير الفصل الخامس، والراي السديد الذي يجب ان يأخذ به القضاء، ويطرد في هذه المسالة الكبيرة  الخطورة، أرى من المفيد،ان أتمم ذلك بتكملة تطبيقية تتضمن ضوابط لابد منها،لتسهيل البت في دعوى المنازعات الزوجية، وما يتشعب عنها من عواقب ومشاكل، بحكم سليم، يجمع بين العدل والإنصاف الضروريين، لكل قضاء سليم.
* * *
يعرف أحد الأسلاف (ابن رشد) القضاء، بانه  الإخبار  عن  حكم شرعي على سبيل الإلزام، ويعبر المحدثون عن هذا بعبارات اخرى مقاربة، كقول بعضهم ان وظيفة القضاء، هي فض المنازعات بين الناس، بالقانون، على نحو ملزم.
وجميع التعاريف التي وضعت للقضاء قديما وحديثا، تفيد ان وظيفة القاضي، هي تحصيل الحل القانوني الناجع، لمشكل واقعي، بقصد رفع الخصام المعروض عليه بالدعوى.

ولا يستطيع القاضي ان يحقق وظيفته العظيمة هذه،  الا إذا نجح في التوصل، الى تكييف الدعوى تكييفا صحيحا. وبقدر نجاحه في هذا التكييف، يكون حكمه سليما، مطابقا للحقيقة، والقانون، لأنه هو الذي يقدره على معرفة مكان النازلة في القانون، واختيار القاعدة القانوني المناسبة، التي يجب إعمالها والعمل بها، للوصول الى المنطوق الصحيح، والتعليل السليم.

واذا كان هذا مسلما، فان قاضي الأحوال الشخصية، لابد له، اذا أراد الوصول الى حكم صحيح، في دعوى النزاع في الزوجية، من التعمق في وقائع النازلة، لتحقيق التكييف الصحيح، واستخلاص اكبر قدر من القرائن، التي تهديه الى تقدير ادعاءات ودفوع الاطراف، وتقدير وسائل الإثبات التي يلجأون إليها، لاقامة الحجة على اقوالهم، ويتوصل من ذلك، الى الخروج بحكم يثبت الزوجية بآثارها الشرعية، كليا او جزئيا، او العكس، بتعليل صحيح، يقنع وينفى الحرج، ولابد لقاضي الأحوال الشخصية، بعد التكييف الصحيح واتفاقه من التزام ضوابط خاصة، تقتضيها دعاوى الزوجية بطبيعتها الحرجة الدقيقة، اجتهدت في تلخيصها وتركيزها في العناوين والبنود الآتية:
أولا: - أمران لابد ان يعيهما القاضي ويعلقهما:
1) تعلق موضوع الأحوال الشخصية بالنظام العام 
2) وواقع العصر

1) فقضايا الأحوال الشخصية، وخصوصا منها دعاوي الزوجية تتسنم الذروة في سلم النظام العام، لانها اشد القضايا ارتباطا به، على الإطلاق.

واذا كانت القوانين الوضعية الغربية، قد أهدرت حرمة الزواج، حتى صار عقدة اضعف العقود، وأكثرها للخرق والخيانة، فان على القاضي ان يرجع الى التراث الإسلامي، ليعرف الدرجة التي رفع إليها الإسلام عقد الزواج، وما يتفرع عنه، من اثار تتعلق بالنسب والإرث والعرض، وغير ذلك ويدرك المكانة التي يتبوأها الزواج في الاسلام، والتعظيم المطلوب من المسلم، ان يكنه لهذا الميثاق الغليظ، كما ورد نعته، في القران الكريم.

ويكفي الانتباه الى ان كثيرا من النصوص المنظمة للأحوال الشخصية، وردت بالقران الكريم، قبل ان ترد في السنة النبوية، ومعنى هذا بلغتنا القانونية الحديثة، ان الإسلام نظم عقد الزواج بنصوص دستورية، معصومة من الجدال والتغيير أي ان الإسلام اعطى للزواج، نفس الاهتمام الذي أعطاه لشؤون العقيدة، من إيمان وتوحيد، وغير ذلك من ضروريات الدين.

وأظن انه لا حاجة بعد هذا لان نصرح بالمقصود منه، وهو ان القاضي الذي يتولى الفصل في نزاع يتعلق بالزوجية، ملزم دنيا وقانونا، بان يتهيب الموضوع ويقدره قدره الواجب، وان يحكم فيه بما يجب، بصرف النظر عن المقال الدعوى ودفوع المدعى عليه، وان يجتهد غاية الاجتهاد، لينقل الى الناس حكم الله، في أمر يتعلق بحق الله.
2) واما واقع العصر فهو أسلوب الحياة الجديد الذي صنعته الحضارة الغربية، وصدرته مع الكهرباء والسيارة والتلفزة. وهو أمر يوجب على القاضي ان يفهم واقع الناس، وما طرأ على حياتهم من تقلبات خطيرة نسخت الكثير من التقاليد، التي عاش عليها أسلافهم، وعرضت العلاقة الزوجية بالخصوص لاضطراب شديد، أدى الى التباس الحلال بالحرام، والمشروع بالممنوع.

ولكي نتصور هذا التطور او التدهور الذي أصاب واقعنا، يحسن ان نلقي عليه نظرة، في اصله الذي تفرع منه، ومنبعه الذي انصب منه، في المجتمع الغربي.
هناك ظاهرتان تسودان حياة الغربيين اليوم، في العلاقات بين الجنسين، هما شيوع المعاشرة الخارجة عن الزواج، وشيوع الاختيار الفردي في الزواج، فمن المعتاد المألوف في أوربا وامريكا، ان يتساكن الرجل والمراة  ويتعاشرا معاشرة الازواج، من غير زواج، دون منع ولا عقاب من القانون، ولا استهجان وتثريب من المجتمع، الذي يتقبل ذلك ويرضاه، من غير حرج.
وقد يكون احد المساكين او هما معا، زوجين للغير، لان تعدد الزوجات بل كذا تعدد الأزواج وان كان ممنوعا قانونا، فانه مباح مقبول عرفا.
بل أننا اذا راعينا ان المشرع هناك، اخذ يلغي جريمة الخيانة الزوجية ويعترف لأبناء الخليلات بحق الإرث، أمكن ان نقول ان هذا التعدد بنوعيه، مباح قانونا كذلك.
وشاعت كذلك طريقة الاختيار الفردي، او الذاتي في الزواج، بمعنى ان اختيار الزوجين كل منهما لشريكه، اصبح لا يتم عن طريق تدخل عائلتيهما، على الطريقة التقليدية. بل يتم بالاختيار الذاتي، استجابة لميول شخصية، بعد تعارف مباشر، من غير ان يكون للأهل، ان علموا، سوى إشراف صوري.

ومن ثم شاعت الخطبة الفردية، التي قد تطول، وتفضي الى معاشرة، من غير زواج، ولذلك فان من الشائع عندهم، الا يتم الزواج، الا بعد ان يكون هناك حمل وأولاد، أي ان عقد الزواج، اصبح تنفيذه يسبق إبرامه!
وهناك إحصاءات تقدم أرقاما في هذا الموضوع، تؤكد هذه الحقيقة.

اذا كان هو حال الناس في الغرب، فان يجب ان يكون معلوما بالضرورة، ان شيئا من ذلك، وصلناه، لأننا لبسنا مع البذلة الاوروبية، كثيرا من عادات القوم وطرقهم الجديدة في الحياة، بدأ  ذلك في الاول بفرض من الاستعمار، ثم ازداد واطرد بعد رحيله بإقبال منا، وطلب ملح، بفعل الاستلاب الحضاري، والتغريب المطبق علينا من كل جانب.

فالمعاشرة بين الرجل والمرأة، بدون زواج، لها وجود ملاحظ في مدننا الحضرية، الا انها ليست شائعة ـ شيوعا في مكانها ومصدرها. بل محصورة في فئة من العلية التي اختارت ان تعيش حياة الغربيين، بعجزها وبجرها.  واذا كان موجود خارج هذه الفئة، فان ظهورها خافت،  محصور في قلة من الناس.

واما الاختيار الفردي في الزواج، فانه شائع مطرد في كل المدن، ويوشك ان ان يعم القرى نفسها، بتأثير أجهزة الاعلام، التي عممت السلوك الغربي، ووحدت الناس على ذلك حضريهم وبدويهم، حتى صار راسخا في الاذهان، ان الزواج لا يمكن ولا يجوز ان يتم، إلا اذا كان مسبوقا بعلاقة عاطفية، بالطريقة التي تبشر بها السينما، ومن ثم شاعت عندنا الخطبة الفردية الطويلة، التي قد تنفسخ وقد يتم فيها تنفيذ الزواج، دون إبرامه.

المقصود من هذا ان قاضي الأحوال الشخصية، ملزم، وهو يبت في دعوى الزوجية ان يتفطن الى ان الحالات المعروضة عليه، قد تكون علاقة مخادنة محرمة، يريد أحد طرفيها ( او هما معا) ان يحولها الى زواج، على الطريقة الغربية، من غير ان يتقيد بالضوابط الشرعية.

ان ضوابط الشريعة هنا صارمة، لا تقبل تحويل واقعة الزنى، والى زواج صحيح، ولذلك يجب ان يكون الخبراء هو الرفض التام، والإلغاء الكلي لدعوى الزوجية، وعدم إقرار أي اثر من اثرها.

وعلى العكس من هذا، فان شيوع الاختيار الفردي للزواج، يوجب على القاضي ان يتفطن الى ان الحالة المعروضة عليه، قد تكون منطوية على مشروع زواج، تبادل به الرجل والمرأة التواعد على  الزواج، بنية إبرامه لاحقا، وفانطلقنا من ذلك الى استهلاك محله، قبل إبرامه على الطريقة الغربية. حتى اذا ظهر الحمل او جاء الولد، هرب المسؤول عن ذلك الى الإنكار.

في هذه الحالة يجب ان يسعى القاضي، الى الحكم بلحوق الولد، بعد ان يجتهد في تحصيل الدليل الكافي، وهو التواعد على الزواج، لان هذا  يكفي لثبوت النسب، على النحو الذي بحثناه ورجحناه فيما سلف.

والقاضي مطالب بان يبذل الجهد ليصنف القضية المعروضة عليه، لوضعها ضمن الحالة التي يترجح أنها منها. ولا ريب انه بشيء من التحري والبحث،  في أحوال المتقاضين وطبقتهم وبيئتهم، سينكشف له كثير من القرائن التي تهديه الى هذا التصنيف. وهذا داخل في التكييف الصحيح، الذي سبق ان تحدثنا عنه وعن أهميته.

ثانيا - حالتان لابد من التمييز بينهما 
1- المنازعة في اصل الزوجية
2- المنازعة في فروعها.

1) فقد يجيب المدعى عليه بإنكار الزوجية والمنازعة في وجودها، وفي هذه الحالة، يكون المدعي ملزما بالإدلاء برسم الزواج، او بديلة الاستثنائي عند ثبوت العذر المبرر لذلك، او الحكم بإقرار الزواج جزئيا، اذا لم يكن هناك عذر يبرر اهمال الإشهاد، او الحكم بعدم سماع الدعوى كليا اذا لم يثبت أي شيء من ذلك، حسب التفاصيل السالف.
2) وقد يجيب المدعى عليه بالإقرار بالزوجية، والمنازعة في فروعها او بعضها، كالنفقة وفي هذه الحالة يكون القاضي، امام إقرار قضائي بالزوجية.

ونظريا فإننا إذا راعينا العلة، التي من اجلها تقرر وجوب الإشهاد، فان الحالتين معا، يجب ان تتساويا، فيما يرجع لإلزام المدعي بإثبات الزواج.  بمعنى انه يكون المدعي في هذه الحالة نفسها ملزما بالإدلاء برسم الزواج او ببديله، اذا جاز،  والا كانت دعواه غير مسموعة، الى اخر ما سلف.
الا ان الأمر يجب ان يختلف، عند التطبيق، لان روح الشريعة والحكمة المتوخاة من النصوص، تأبى الاسراع بذلك، تمسكا بحرفية النصوص.

ولذلك يجب على القاضي هنا ـ ان يظهر قدرا من الترخص في هذه الحالة، لأجل اعمال هذ الإقرار، وإعطائه اثره، اذ الاعمال خير من الإهمال. وهنا يجب التذكير بان الفقه المعمول به، وان كان يمنع بحسب الاصل قبول التقارر لإثبات الزواج صيانة له من التواطؤ على ادعائه زورا، فانه يجيز الاستثناء، قبول التقارر، اذا كان الزوجان طارئين، أي ليسا من اهل البلد، على النحو الذي سلف بيانه، وهذه المسالة النسبية اليوم لكثرة تنقل الناس، من بلد الى بلد، وكثرة اغترابهم في المدينة الواحدة، كما هو واقع في العواصم. لذلك يجوز ان يستند القاضي إلى هذا التقارر، على ان يلتمس له من الأدلة الاخرى، ما يرجحه ويزكيه، مثل شهادة الشهود، او القرائن، التي يستطيع ان يستخلص منها، ما يقنعه بالسلامة من التواطؤ، وادعاء الزوجية، على وجه التدليس.

فالمقصود إذن من هذا التصنيف، هو ان القاضي لابد ان يفرق، بين المنازعة في اصل الزوجية، والمنازعة في فروعها وحدها، والا يتشدد في الحالة الثانية تشدده في الحالة الاولى، وان كان لا فرق بينهما نظريا، من حيث طريقة الاثبات، وان يسعى ما أمكنه، الى اجتناب الحكم بعدم سماع دعوى بالزوجية ، أجاب فيها المدعى عليه بالإقرار، بل يحرص على إعماله، بعد ان يبحث له عما يزكيه من الأدلة الاخرى.

ثالثا: وغاية لابد من السعي لإدراكها وهي إنقاذ النسب
عندما يكون للمتقاضين في دعوى الزوجية اولاد، فانه لابد ان يسعى القاضي بجهد لإنقاذ نسبهم، مهما كانت الصورة التي تتخذها الدعوى، وحتى لو انتهى الامر الى وجوب الحكم بعدم سماعها، لانعدام رسم الزواج، وانعدام المبرر لإثباتها بالشهود.

فبالنظر لكون الأمر هنا، يتعلق بالنظام العام في أقصى حدوده، وبالنظر لكون الشريعة متشوقة الى ان يكون لكل انسان، نسبه الصحيح السليم، فان القاضي مطالب بالا يحكم بنفي نسب الأولاد، الا اذا عجز عن تحصيل الدليل، الذي يمكن من ذلك.

وقد سلف ان الزواج الفاسد يترتب عنه صحة نسب الأولاد، ووجوب نفقتهم، وسلف انه يكفي لثبوت النسب، ثبوت، التراضي على الزواج، ولو اختلت باقي الاركان، ورجحنا ان التواعد على الزواج، بالخطبة العلنية، او حتى بالوعد الشخصي، الذي يصدر من رجل لامرأة،  يكون ايضا كافيا للاستناد اليه، بشرط الا ينازع الرجل في ذلك منازعة جدية، وبشرط الا تكون هناك قرائن تشكك في كون الحمل منه، كما سبق تفصيل ذلك.

والقاضي مطالب هنا، بان يبحث عن هذا الحد الأدنى، الذي يكفي للحوق الولد، بنسب أبيه بعناية وأناة، حتى يدركه ويستخلصه، من وقائع القضية وأحوال المتقاضين واقوالهما، والا يحرم الولد من نسبة، الا إذا عجز ويئس من تحصيل الدليل المطلوب.

رابعا: - طريقة لابد من تغييرها، وهي مسطرة الإثبات.
لاحظت في كثير من الأحيان بحسرة وأسف، ان دعوى الزوجية، لا تجد في المحكمة الهيبة والاحترام، المفروض ان يكونا لها، باعتبار أنها نزاع يتعلق بأعظم عقد يبرمه الإنسان، وبعلاقة مقدسة، يرتبط بها نسبة وشرفه وعرضه، ولا ريب ان قبول اللفيف لإثباته، على الرغم من سمعته السيئة قديما وحديثا، اكبر دليل على ما يعانيه هذا العقد من هوان، حيث صار يثبت بدليل، لا يكفي لإثبات أي دعوى من الدعاوى المدنية، مهما تدنت قيمتها.

اني لأرجو مهما ساءت أحوال الناس وهانت عليهم أعراضهم ان يكون لدعوى الزوجية في المحكمة، ذلك الاهتمام والاحترام، الذي تحظى به الدعاوي الكبيرة الخطيرة، بل اني لأطمح الى ان يكون لها على الاقل، المكانة التي تحظى بها دعاوي الشغل، التي يرعاها القانون بقواعد صارمة امرة، ويعطي فيها للقاضي السلطة ليسدد بين الطرفين بطريق الصلح، وليحك بأكثر من المطلوب أحيانا.

ان أول ما يجب المبادرة، به هو تغيير طريق النظر في الدعوى، بوجه يبدعها عن الارتجال، والأخطاء الناتجة عنه حتما، ولذلك فان أول ما يجب القيام به عند تناكر المتقاضين، في دعوى الزوجية، هو ان يأمر القاضي، بإجراء بحث بمكتبه، للقيام بالتحقيق الذي تفرضه القضية، في أناة وهدوء، بعيدا عن زحام الجلسة وضجيجها، وكذا بغاية صيانة أسرار الأسرة، وتنزيه الاسماع، عما يتبادله الطرفان من كلام حاد، تنكشف به العورات، في هذا الموقف الدقيق الحرج، المشحون بالغضب والتوتر، اذ لا يعقل ان تنقلب جلسة الدعاوي الشرعية، الى مسرح لعرض المبكيات المضحكات، تشرئب اليها الأعناق والاسماع، للقهقهة والسخرية والتسلية.

 ولا احتاج الى تكرار انه لا محل ولا موضوع، لذلك المخطوط العجيب، الذي يكفي ان يدلي به المدعي، لتصبح الزوجية ثابتة، بأصلها وفروعها كلها، بل لا بد ان يسمى المدعى شهوده ويعنيهم، لاستدعائهم واداء شهادتهم، كفاحا بمحضر القاضي الذي يحلفهم ويمتحنهم بالاستفسار الضروري، حتى تكون شهادتهم حضورية حية، من معروف بمعروف عل معروف.

 وهذا البحث المكتبي، يكون ضروريا حتما، في الحالة التي يجيب فيها المدعى عليه، بإنكار الزوجية ولا يكون هناك رسم عدلي يحسم النزاع، فيتوقف الأمر على إحضار الشهود، للتأكد من وجود الزواج، ووجود العذر المبرر لإهمال الإشهاد.

في هذه الحالة يجب زيادة على سماع الشهود، ان ينفذ القاضي بالبحث، الى أعماق القضية، لمعرفة كل ما يمكن معرفته عن أحوال المتقاضين، لإدراك ما اذا كان أصليين في البلد ام طارئين، وما اذا كان من المتعلمين ام من الأميين، وما اذا كانا مدنيين ام قرويين محافظين ام غير محافظين، فمثل هذه الأمور مما يساعد على التأكد من صحة اقوال الطرفين وأقوالهم، واقوال الشهود..

ولأجل تحقيق ذلك، يحسن استدعاء الأقارب، وخصوصا الأبوين والأخوان، لسماع ما لديهم على سبيل الاستئناس، وجمع القرائن، واذا كان المتقاضيان من الطبقة المتعملة، فانه يمكن البحث عما يمكن ان يكون قد تبادلاه، من رسائل لابد ان يكون فيها ما يفيد، فيما يرجع للبت في النسب بالخصوص.

والقاضي يتدرج في بحثه، حسب طبيعة  الدعوى، فيسعى في الاول الى انقاد الزواج كليا، بالبحث عن شهود مقبولين يشهدون بوجود الزواج، بكل اركانه، والبحث عن العذر المبرر لإهمال الإشهاد، مثل العزلة او الغربة، او الكوارث الطبيعية، او العجز المادي او المالي .

والقاضي يمكن ان يستمد الدليل على وجود العذر من أقوال شهود الزواج أنفسهم، فيما يقدمونه أثناء الاستفسار، من تفاصيل، عن الأحوال التي تم فيها الزواج كما يمكنه ان يستمده من قرائن الأحوال، التي تنصح بها الوقائع، مثل زمان ومكان الطرفين، ونوع الحياة التي يعيشانها، والسلوك المفروض فيهما، من حيث كونهما من المتعلمين، ام من الأميين، من الأغنياء المتحضرين،  ام من الفقراء المهملين، ولا يجوز إهمال الاعراف والعادات الجارية بمكان الطرفين وزمانهما.

وإذا عجز القاضي عن تحصيل الدليل، على العذر المبرر، لإهمال الاشهاد سعى بجد واجتهاد، الى التماس الدليل الضروري لإثبات وجود التراضي، على الزواج النافي للسفاح، ليحكم بصحته جزئيا، بإقراره فيما مضى بجميع اثاره، ومنها نفقة المرأة، وفسخه فيما يستقبل مع ثبوت النسب، ونفقة الأولاد ان كانوا.

وعلى القاضي هنا ان ينبه الطرفين، الى ان التفريق بينهما، بمقتضى الفسخ المحكوم به، لا يمنعها من ان يستأنف زواجا جديدا، يجمع بينهما من جديد بعقد صحيح، بعد الاستبراء كما سلف.

واذا لم يكن هذا ولا ذاك فان القاضي، يسعى بكد وكدح، عند وجود حمل او أولاد الى البحث، عن ذلك الحد الأدنى، الكافي لصحة النسب، وهو التواعد على الزواج، بخطبة علنية، او بوعد شخصي على الأقل.

خامسا: ويجب التماس الحكم الصحيح ولو خارج النصوص:
اذا كان لكل مهنة اسرارها، فان للقضاء أيضا اسراره، ومنها ان الحكم العادل، قد يكون خارج النصوص لا داخلها، وان القاضي قد يجد نفسه مضطرا، لأجل النطق بالقضاء السليم، المطابق لمقتضى حال النازلة، الى ان بتجاهل النصوص القانونية، ويتحايل للخروج عنها والهروب منها!

وبهذا ظهر في القضاء ما يسمى بالحكم بما يجب ان يكون، لا بما هو كائن ، ولولا هذا السر، لما تأتى للقضاء ان يبتكر ويجدد، وان يصبح أستاذا للمشرع، يملي عليه ويفتي ويصحح له أخطاءه، التي لا تنكشف الا حين يقوم القاضي بإعمالها، وتجريبها على النوازل، التي يعرضها الناس عليه، حية متحركة.

وكلنا يعلم قصة المسؤولية المفترضة، التي تعتبر خرقا لقاعدة كبيرة هي البينة على المدعي، المؤسسة على مبدأ اعظم، هو ان الأصل براءة الإنسان من كل مسؤولية. وقبل المسؤولية المفترضة كان فقهاء الشريعة الإسلامية قد اهتدوا الى نظير لها سموه " قلب الدعوى"، مدفوعين وقاصدين الى نفس الهدف، وهو الزام المدعى عليه بالحجة، خلافا للقاعدة لدواعي خاصة، وطبقوه آنذاك في النوازل التي يكون فيها المدعى عليه، ذا سطوة او سلطة، لا سيما في  الدعاوي العقارية، فحرموه من الاستفادة من قرينة الحيازة الطريقة الطويلة، او التقادم المكسب للملكية، وألزموه بإقامة الحجة، على صحة مدخله.

ان القضاء هو الذي ابتكر هذا الاجتهاد السديد، الذي قد يجد العدل خارج نصوص القانون ويتشبث به حين يدركه، ولو بالخروج عنها، بالتأويل والتعديل.
ان هذا السر هو أوجب ما يكون، في قضايا الأحوال الشخصية، والمنازعات الزوجية، التي هي اشد الدعاوي استعصاء على الخضوع للنصوص القانونية، لما يحيط من عواطف غضبية جامعة، تعصف بالعقل والمنطق.
ولذلك فان المنازعات الزوجية، تتطلب من القاضي، شيئا آخر، فرق النصوص القانونية واوامرهها، انها تتطلب منه هذا السر العظيم، الذي طالما خرجت منه الحكمة النافعة، التي استفاد منها المشرع وتعلم.

وهذا السر  يتفاعل مع التكييف، وينبثق منه. فبالتكييف الدقيق، ينكشف للقاضي أحيانا، انه ليس من الحكمة ولا من العدل، ان يعالج النزاع، المعروض عليه، بنصوص القانون، وهكذا يفضي بنا الموضوع، في نهايته، الى ما بدأنا به، وهو ان التكييف السليم، اساس القضاء السليم.
والحمد لله رب العالمين.

الأستاذ احمد باكو المحامي بهيئة الدار البيضاء

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 59، ص43.


Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : مدونة الاسرة