-->

مفهوم المرض العقلي بين الطب والقانون

تعليق على قرار استئنافي شرعي (1) صادر بتاريخ 28/2/1990
تحت عدد 314 في الملحق رقم 1094-89

استهلال
دأبت مجلة المحاكم المغربية على نشر الدراسات القانونية التي تهتم بما يستعصي  من الإشكاليات والسعي لإيجاد ما يلائمها من الحلول العملية. كما انها تواكب إصدارات العمل القضائي  وتتيح الفرصة لفحصه بالنقد والتقديم فضلا عن الاهتمام  بترجمة المفيد من الدراسات الحقوقية التي تصدر بلغة غير لغة الضاد وبالضبط بالفرنسية (2).

وتمشيا مع هذا النهج الذي لا يتعارض وتطلعاتنا وافينا المجلة بتقديم لكتب قانونية وترجمة فقرات منها وتعاليق على بعض الاحكام.
ونسعى في هذا الإطار ذاته الى التعليق على قرار استئنافي صدر مؤخرا عن الغرفة الشرعية  لمحكمة الاستئناف بالبيضاء بتاريخ 28/2/1990 تحت عدد 314 في الملف رقم 1094-89  نشرته مجلة المحاكم المغربية، وسينصب تعليقنا لا على الجانب الشرعي من 
---------------------
(1) القرار الاستئنافي موضوع التعليق منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 64/65 ابريل1992 الصفحة 173 الى179.
(2) اتجاه مجلة المحاكم المغربية استخلصناه من كلمة العدد لرئيس التحرير، ذ. محمد درعام بنفس العدد 64/65
الصفحة 9-10 ومن عمل رؤساء التحرير السابقين الذين حافظوا على المكانة اللائقة والمرموقة للمجلة.
----------------------
القرار الخاص بمدى استحقاق الحضانة من عدمه وامكانية تمديدها وانما على الجانب المدني الصرف لنتساءل هل كانت المحكمة محقة في استبعاد الدفع المثار امامها الرامي الى إجراء خبرة طبية حضورية على المحضون لتحديد مرضه؟ وسيكون جوابنا بالنفي أي لا نشاطر المحكمة الرأي الذي انتهت اليه. وسندعم رأينا بالفقه والقضاء والقانون ،  ونستغلها  لتحديد  مصطلح  المرض  العقلي  وما هيته  و الذي  لا يحظى  بالاهتمام اللازم وكثيرا ما يثير اللبس والغموض وهي مناسبة للتفتح على رأي الطب والفنيين سيما وان هذا المطلب كثيرا ما دعا اليه الفقه بالمغرب(3)  ونعني  به  التفتح  على آراء الخبراء بمختلف مشاربهم من اطباء وغيرهم. وهو مطلب ندعو بدورنا المحاكم الى اعتماده لتمشيه مع مقتضيات تشريعنا وما يضفيه على أحكام قضاة الموضوع من أرضية صلبة تحميهم من قاضي النقض.

خطة البحث :
وقائع النازلة بإيجاز
الدفع المثار من لدن الدفاع
تعليل المحكمة بشأنه 
المناقشة 
تحديد مصطلح المرض العقلي
وموقف الاجتهاد القضائي منه
الوقائع:
تقدمت المدعية زهرة بنت امبارك بمقال افتتاحي الى ابتدائية البيضاء بتاريخ 18/1/1988 تعرض فيه انها كانت زوجة للمدعى عليه بنزكري شعبان جزائري الجنسية وأنجبت على فراشه ولدين هما ربيعة ورضوان، بيد انه عمد الى طلاقها. وبما ان الابن المومأ اليه "مصاب بمرض نفساني - خلل عقلي" ومحتاج الى التغذية والتطبيب، وان المدعى عليه ميسور الحال فإنها تلتمس الحكم عليه باداء نفقة الابن منذ يناير1987 الى صدور الحكم. وادائه لها
---------------------
(1) من دعوى الفقه الى ضرورة تفتح القضاء على العلم والخبراء انظر دراسة ذ. عبد المطلب صلاح الدين المحامي " المؤثرات النفسية والعقلية والاجتماعية في  السلوك الإجرامي" بمجلة المحاكم المغربية عدد 52 دجنبر1987 الصفحة 34 والذي دعا القضاء الى " ضرورة الاستعانة على أوسع نطاق بالخبرات الطبية الفنية في مجال علوم النفس كالتحليل النفسي وعلم نفس الأعماق وعلم الطب العقلي وعلم النفس الاكلينيكي والميتاسيكولوجي وغيرها من الفنون العلمية".
--------------------
واجب الحضانة وأجاب المدعى عليه بان الولد اصبح راشدا باعتباره من موالي 1962 وان الإشهاد الطبي مسلم للمدعية على وجه المجاملة.

الحكم الابتدائي :
عاينت محكمة اول درجة الولد فتبين لها " انه مصاب بارتعاش وضعيف الجسم". وبعد انتهاء الإجراءات اصدرت حكمها على المدعى عليه باداء واجب نفقة ولده منها وأجرة حضانته ابتداء من تاريخ فاتح يناير 1987 الى تاريخ الحكم شاملة لجميع التوابع.

الدفع المثار استئنافيا :
استؤنف هذا الحكم من طرف المدعى عليه بصفة أصلية كما استانفته المدعية استئنافا تبعيا.
يتمثل الدفع الذي يهمنا في كون المستانف يعني الحكم الابتدائي ان قاضي اول درجة اعتبر الولد فاقدا لقوته لمجرد معاينته وملاحظته عليه بعض الارتعاش والحكم بناء على هذه المعاينة، مبرزا ان القاضي الابتدائي لم يكن محقا في اصدار حكم بخصوص الحالة الصحية للولد دون اللجوء الى خبرة طبية سيما وان الإشهاد الطبي المستدل به من لدن المدعية المؤرخ في 28/9/1988 يعد إشهاد مجاملة ليس الا ملتمسا الغاء الحكم المستانف والحكم تصديا بعدم قبول الطلب، واحتياطيا إجراء خبرة حضورية على الولد للتأكد من سلامة عقله وجسمه.

تعليل القرار الاستئنافي :
ردت محكمة الاستئناف الدفع اعلاه بالتعليل التالي:
" لكن من الرجوع الى وثائق الملف نجد من بينها ملفا طبيا جاهزا أنجزه الأستاذ بوستة بالمركز الجامعي بمستشفى الدار البيضاء يوضح فيه ان الولد مصاب بنوبات صرعية وهو مرض مهم تطور منذ سن البلوغ وضعف تدريجي للدرجة البصرية. ويشاطره الدكتور ابو خليف بالمركز الصحي الجامعي ابن رشد، فيقول الدكتور ان السيد بنزكري رضوان يتابع فحوصاته الطبية بمصلحة جراحة الدماغ والأعصاب، وانه ضعيف جسمانيا وعقليا، وبذلك فان قاضي الدرجة الاولى لم يعتمد في حكمه على المدعى عليه بنفقة الولد رضوان على مشاهدته بل ان المشاهدة ما هي الا تكملة للملف الطبي وعلى هذا الاساس فان هذه الوسيلة تعتبر غر مبنية على اساس سليم وصحيح".

وفي حيثية ثانية أضاف القرار:
" وحيث ثبت من الملف الطبي ان الولد رضوان هو في حكم الاطفال الذين لم يبلغوا الثامنة عشر من عمرهم، فانه مما لاشك فيه انه الآن يحتاج الى الحضانة الشرعية بترتيبها الشرعي الذي اساسه الشفقة والرحمة على الصغير ومن هو في حكمه، وقد تبنى هذا المبدأ بعض الفقهاء، وفي كتاب مبادئ القضاء في الاحوال الشخصية للمستشار احمد نصر الجندي في الصفحة334 ما يؤيد هذا المبدأ".

واستخلصت الحيثية الثالثة :
" وحيث ان الدفع  بعرض الولد من جديد على الخبرة الطبية لا فائدة فيه ما دام الملف الطبي لم يطعن فيه. وانه هيئ بالمركز الصحي الجامعي من طرف أساتذة مختصين في جراحة الأعصاب والدماغ وهي اعلى هيئة طبية الامر الذي ترى معه المحكمة عدم الاستجابة لهذه الخبرة".
وبعد استبعاد هذا الدفع قضت محكمة الاستئناف بتأييد الحكم المستانف مع تعديله برفع المبلغ المحكوم به الى ما قدره سبعمائة درهم شهريا شاملا لواجب النفقة وأجرة الحضانة والصائر بالنسبة.

المناقشة :
هل كانت محكمة الاستئناف محقة في رد الدفع الرامي الى إجراء خبرة على الولد المطلوب حضانته لتحديد الداء المصاب به؟.
من الواضح من استقراء حيثيات القرار انه تبنى جواب المدعية المستانفة فرعيا والتي أفضت فيه " ان معاينة قاضي اول درجة، ما هي الا تكملة للملف الطبي والمحكمة حرة في تكوين قناعتها بالاضافة الى ان العارضة لا تنازع بتاتا في أي إجراء قد تامر به المحكمة".

لكن كان على المحكمة ان تستجيب بالضرورةNEcessairement للدفع وتأمر تمهيديا بإجراء خبرة على الابن وتعين احد الخبراء المختصين المدرجين بالجدول لفحصه وتبيان طبيعة المرض المصاب به ان كان عقليا او نفسيا ام عضويا عارضا ام مزمنا وهل يمنعه من العمل وإمكانيات شفائه… وبوسع المحكمة ان تسمح للخبير بالاطلاع على  الملف الطبي المدرج بالملف. ويجد رأينا سنده في القانون والفقه والقضاء.

اولا :
ان المرض العقلي كما سنبينه من المسائل الفنية المستعصية التي يختلف بشأنها الإختصاصيون أنفسهم، ويتعذر على القاضي وهو قابع بمكتبه او بجلسة الحكم بقصر العدالة ان يحسم منفردا في مسالة مدى توفير هذا المرض من عدمه. بل ان المشرع المغربي رفعا لأي خلاف فقهي او قضائي نص بموجب المادتين 75 و76 من القانون الجنائي على  وجوب إجراء القاضي للخبرة الطبية لتحديد مسؤولية المتهم المقترف لجناية او جنحة وهو في حالة خلل عقلي (4) وتسير عدة مناشير وزارية (5) في هذا الاتجاه، وهو مسلك تنحوه عدة محاكم عربية (6). هذه الصعوبة والدقة في تحديد المرض العقلي لا تغيب عن بال القضاء الزجري فقاضي التحقيق عندما يستنطق المتهم تفصيليا ويلاحظ عليه بعض ملامح الخلل العقلي يحيله على الخبرة لإجراء فحص عقلي وقد يقضي بإيداعه مؤقتا بمؤسسة للأمراض العقلية لغاية اجراء هذا الفحص. وقد يحتفظ الطبيب المنتدب على هذا النحو بالمريض عدة اشهر قبل إنجاز تقريره المفصل حول الداء وتطوره ونتائجه وإمكانات الشفاء منه. وغرف الجنايات تنحو المنحى نفسه  مما يسهل على القضاء الجنائي اللجوء بكل اطمئنان الى تطبيق اما مقتضيات المادة 76 من القانون الجنائي او 78 منه.

- ثانيا : 
ان الخبرة إجراء تحقيقي تناط برجل تقني وفني لينير السبيل امام القاضي بواسطة معاينات وفحوص يجريها بخصوص مسالة معينة تتطلب معرفتها تكوينا خاصا، والقاضي حر في اختيار أي خبير شاء مختص في المادة المعروضة عليه ضمن خبراء الجدول، وقد يعين خبيرا اختصاصيا غير مسجل بالجدول اذا تعلق الأمر بتخصص نادر وغر عادي (7). والنقط التي تجري بشأنها الخبرة يجب ان تكون دوما تقنية محضة لا علاقة لها بالقانون، لان القاضي لا يسند سلطته للخبير ولو جزئيا (8).
------------------
(1) انظر فاضل محمد جريمة الفساد مطبعة الرسالة 1989 ص 129.
(2) من المناشير الوزارية المهتمة بالأمراض العقلية انظر مجموعة مناشير توجيهية لوزارة العدل تتعلق بقضاء التحقيق الإعدادي الصفحات 67-82-102-111.
(3) انظر قرار محكمة النقط السورية في الجناية 2177 الصادر سنة 1987 أشار إليه ذ. فاضل محمد المرجع أعلاه بالهامش ص 129 .
(4) (8) (9) انظر كتاب المسطرة المدنية في شروح تأليف ادولف ريولط تعريب إدريس ملين 1990 المعهد القضائي الصفحات 67-68-105-243.
-------------------
والملف الطبي المستبدل به من لدن المدعية أنجز بناء على طلبها من لدن اطباء غير منتدبين من طرف القضاء وبصفة غير حضورية أي في غياب المدعى عليه بينما المادة 63 من قانون المسطرة المدنية صريحة في التنصيص على وجوب احترام الخبير للصبغة الحضورية للأطراف باستدعائهم برسائل مضمونة مع الإشعار بالتوصل. لان حضور الأطراف امام الخبير ضروري ليأخذ بعين الاعتبار ملاحظاتهم وشكاياتهم وان  كانت مكتوبة يرفقها بتقريره، بعد إبداء رايه فيها. وتبرز أهمية الخبرة عموما في محاولة اجراء التصالح التي يجريها الخبير والذي قد يجعل حدا للنزاع ويعتبره البعض بمثابة تحيكم (9) ومراعاة الصفة الحضورية للخبرة كم أدت بمحاكم الاستئناف وغرفها المدنية الى اصدار قرارات تمهيدية بالخبرة قبل الحسم في الجوهر عندما يتجاهل القاضي الابتدائي طلب إجراء الخبرة بالرغم من أهميتها بل احيانا من ضرورتها او عندما  يلجا الى خبير غير محلف وغير مدرج باللائحة والذي ينجز تقريرا مقتضبا ومبهما وبصفة غير حضورية بخرق المادة (63) المومأ اليها.

وقد اصدرت محكمة الاستئناف ببني ملال ما بين سنة 1987 و1990 مثلا عددا هائلا من القرارات التمهيدية بإجراء الخبرة بل حتى بالمعاينة في القضايا المدنية والعقارية سعيا مها الى احترام مقتضيات المادة 63 ولاستجلاء ما يكون غامضا لديها من عناصر تستدعي الوقوف على الأماكن.
ثالثا:
ان الاستئناف يعرض القضية على قضاة الموضوع لدى محكمة الاستئناف للبت فيها من جديد في جوانبها الواقعية والقانونية لما له من اثر ناقل، ولا يمكنهم البت الا في النقط المطعون فيها بالاستئناف فالمادة 142 من قانون المسطرة المدنية توجب ان يتضمن المقال الاستئنافي الوسائل والأسباب المثارة، والمستأنف الاصلي نعى على ما سمي بالملف الطبي عدم الحضورية والتمس إجراء الخبرة لتحديد نوعية المرض بالمطلوب حضانته مع احترام الصفة الحضورية أي انه يتمسك بمقتضيات المادة 63 وأمام إصراره اجابت المستانفة الفرعية بكونها لا تعارض في لجوء المحكمة الى أي إجراء تتخذه في ذلك.

ان المادة 359 من قانون المسطرة المدنية تجعل من أسباب نقض الحكم عدم ارتكازه على اساس قانوني او انعدام التعليل وقرارات المجلس الاعلى متواترة في اعتبار ان نقصان التعليل ينزل منزلة ويوازي انعدامه والتعليل الخاطئ يساوي بدوره انعدام التعليل
--------------------
(1) انظر كتاب المسطرة المدنية في شروح تأليف ادولف ريولط تعريب إدريس ملين 1990 المعهد القضائي الصفحات -243-67-68-105.
-------------------
انه امام عدم استلزام القضية لأي استعجال وأمام تراضي الطرفين باللجوء الى الخبرة الطبية اذ الولد من صلبهما ولا ينازعان في نسبه كان على المحكمة اللجوء الى خبرة قانونية تأمر بها تمهيديا او تامر باعادة الملف الى المستشار المقرر ليتخذ ما يراه كفيلا من اجراءات لتجهيز الملف باجراء الخبرة على الشكل المفصل اعلاه وتبليغ التقرير الطبي للطرفين والاستماع لهذين الأخيرين ان شاء او للطبيب نفسه… او استبدال الطبيب ان كان هناك موجب او اجراء خبرة وضادة الخ… وبعد استجماع العناصر التي يراها لازمة لتجهيز الملف يصدر امره بالتخلي للطرفين ثم يعين تاريخ الجلسة.

ان تصفية القضايا داخل آماد معقولة وباستعجال امر لا يمكن جحود أهميته لكنه يجب ان لا يكون عائقا امام اجراء الأبحاث والخبرات اللازمة سيما في القضايا الشائكة والحساسة مما يضفي على القرارات نفحة الحياد والإنصاف ومما قد يقلب احيانا نتيجة الحكم التي ذهب اليها الحكم الابتدائي. وعلى سبيل المثال والاستدلال نشير الى قضية طلاق مثيرة (10). حسم فيها مؤخرا القضاء الشرعي اللبناني قضى بموجبها الحكم الابتدائي بتكفير المدعى عليه أي اعتباره كافرا في حين ان قضاء الاستئناف اللبناني قرر استفتاء أصحاب السماحة مفتي لبنان ومفتي سوريا ومفتي مصر ومفتي الأردن حول الجانب الشرعي من القضية، وذلك بتوجيه كتابات رسمية إليهم وتلقيه ردود كتابية منهم تمت تلاوتها حضوريا بالجلسة ثم اصدرت محكمة الاستئناف قرارها " بفسخ الحكم الابتدائي ورؤية الدعوى بطريق النشر والانتقال والحكم مجددا بردها لعدم ثبوت ردة المستانف بوجه جازم ورد سائر الاسباب والمطالب والأقوال الزائدة او المخالفة التي ادلى بها الطرفان" مع العلم ان مفتي الديار المصرية قضى في فتواه الاولى  باعتبار المدعى عليه كافرا مرتدا لكن الأخير لما انتقل إليه واستمع اليه هذا المفتي والى براهينه اصدر فتوى ثانية مغايرة للأولى تنفي الردة عن الدكتور عز الدين بليق وعلل المفتي الخلاف بين الفتوتين برغبته " في التسيير الذي لم تأخذ به الفتوى السابقة ونظرا لظروف المستانف واعترافه امام سماحته بان مسلم ومحافظ على فرائض الله لكنه يتلمس الدليل"  في النازلة. مع  الإشارة ايضا الى ان المدعى عليه عندما امتثل بين ايدي القاضي الابتدائي قال للأخير " لقد أعددت بحثا اشرح فيه وجهة نظري يقع في 16 صفحة أرجو ان يقراه فضيلة القاضي وبعد ذلك يعطي رأيه في ذلك"  فكان جواب القاضي " ليس لدينا وقت نضيعه في قراءة مثل هذا الكلام !".
---------------
(2) انظر تغطية هذه القضية بجريدة "المسلمون" الأسبوعية العدد 408 نونبر1992 الصفحة: 3.
--------------
وغني عن البيان ان القاضي الابتدائي اللبناني لو استمع الى المدعى عليه في بحث تكميلي واخذ منه البحث الكتابي ودرسه واستفتى بشأنه اهل الخبرة والفتوى لما كانت نتيجة الحكم التي استخلصها مغايرة للقرار الاستئنافي الذي كان اكثر إنصافا، وقد عنونت بعض وسائل الصحافة العربية مقالها بخصوص هذه النازلة الطريفة ب " اغرب قصة طلاق": الزوجان لبنانيان والقضاة من 4 دول"  ويقصد بباقي القضاة هنا أهل الفتوى، والتشريع المغربي المدني منه والجنائي يتفتح بدوره على الاستشارات والفتاوي بما يقره من مسطرة المستشار المقرر والبحث التكميلي … الخ وهي أدوات الاستفادة منها وممارستها.

رابعا: 
تضمن المقال الافتتاحي للادعاء ان الولد " مصاب بمرض نفساني وخلل عقلي" وهو خلط لوجوب التمييز بين كل منهما كما سنبينه.

ويلاحظ على القرار الاستئنافي انه لم يستعرض في الوقائع مضامين الملف الطبي بحذافيرها. فمن الشائع ان تقدم امام المحاكم الإشهادات والتقارير الطبية باللغة الفرنسية في حين ان الوقت حان للتعريب بيد ان المحكمة بوسعها دائما سيما بواسطة المستشار المقرر أي مسطرته وإجراءاته تكليف طرف بترجمة الوثائق.

تحديد مصطلح المرض العقلي (11)
لم يقدم المشرع المغربي كالعديد من المشرعين تعريفا للمرض العقلي.
وغير المتخصصين يستعملون مصطلح المرض النفسي والمرض العقلي كمقابلين للمصطلح الإنجليزي  Montal illes مما ينم عن كثير من اللبس والغموض لم تنج منه بعض المعاجم وذلك للفارق الجوهري بين كل من المرض النفسي من جهة والمرض العقلي من جهة اخرى.

فالمرض العقلي اضطراب شديد يصيب تكامل وترابط الشخصية يفقدها الوعي والإدراك ويؤثر في علاقات الشخص الاجتماعية. في حين ان الأمراض النفسية تطلق للتدليل على الأمراض التي تتسم بوجود صراعات داخلية ناجمة عن القلق والخوف والاكتئاب والحساسية المفرطة… والتي لا تؤثر تناسق الشخصية ولا تهدم المسؤولية.
وقد كان الأستاذ عبد الحميد الجوهري موفقا في تشبيه المريض نفسانيا بشخص 
--------------------------
(1) بخصوص تحديد مصطلح المرض العقلي انظر المراجع التالية: سيكولوجية اللغة والمرض العقلي ذ. جمعة سيد يوسف عامل المعرفة الصفحات 192-190-191.
------------------------
اصطدمت سفينته وسط البحر وأصيبت بعطب فسار يجاهد بين الأمواج للوصول الى  شاطئ النجاة في حين ان المريض عقليا شخص " غرقت سفينته تموج به حطام السفينة كرها الى عرض البحر لا يلوي على شيء" اذ المريض عقليا غير متبصر وغير واع بمرضه في حين ان المريض نفسانيا ما فتئ متصلا بمجتمعه وواقعه يحاول مسايرة الناس ويكابد صراعاته النفسية وحساسيته. فبينما يصبح المرض عقليا خطرا على نفسه وعلى المجتمع، فان المريض نفسانيا يستطيع ادارة شؤونه وحاجياته الاعتيادية ويعي حالته النفسية وشذوذه، كما يشعر بالحاجة الى التخلص من هذه الأعراضles symptômes.

  ويورد الدكتور جمعة سيد يوسف الفارق التالي للتمييز بين الأمراض العقلية والأمراض النفسية:
1) ان المرض العقلي اضطراب واضح في  السلوك يؤدي الى حالات الانطواء والانعزال وإهمال الذات والاهتمام بأشياء بعيدة عن الطبيعة الاصلية.
2) تغير ملحوظ في الشخصية الأصلية واكتساب عادات مختلفة عن المألوف لدى الشخصية الاولى.
3) تشويش في التعبير والتفكير.
4) تغير الوجدان عن السابق.
5) عدم استبصار المريض وعدم اعترافه بمرضه ومن ثمة رفضه للعلاج.
6) اضطراب في الإدراك مع وجود الهلاوس.
7) البعد عن الواقع والتعلق بحياة مضطربة.
ولا يلزم ان  تتوفر بالضرورة كل هذه العوارض مجتمعة.

في حين الأمراض النفسية ترجع الى اسباب نفسية بحتة وما اكثر انتشارها في عصرنا ومن أعراضها حسبما أورده الدكتور عبد الرحمان عيسوي الشكوى من آلام جسمية لا سبب حقيقي لها والخوف الزائد على الصحة والشعور بالهبوط والخوف من الجنون والقلق والفوبيا والمخاوف الشاذة.. .

وقد أحرز علم البيولوجيا الوراثي تقدما ملحوظا في عصرنا الحاضر مما ساهم في تقدم البحوث في مجال الصحة العقلية. بيد ان عصرنا الحاضر المتسم بطغيان المادة على الروح يتباين فيه البون الشاسع بين المدنية المادية والتخلف الروحي والخلقي مما تتكاثر معه الامراض النفسية.

والأمراض العقلية ترتبط احيانا بأمراض معدية كالتيفوس والتهاب الرئتين والانفلونزا… او ببعض الأمراض المزمنة كالشلل العام وأحيانا تنجم عن التسمم كالاضطرابات العقلية في التسممات الوظيفية [الرصاص او اكسيد الكاربون]  وإدمان المخدرات والمشروبات الكحولية…. والمقياس الشائع لقياس القدرة العقلية هو معدل الذكاء الذي يبلغ عند الناس العاديين مائة نقطة وبالتالي يعتبر الذين يقل معدل ذكائهم عن سبعين نقطة دون المستوى العادي ويعد الذين يتوفرون على معدل ذكاء اقل من 45 نقطة في حالة شديدة من التخلف العقلي ومن الحالات الأخيرة البلاهة والعبط والتي تستدعي العناية بالمستشفيات الخاصة بالأمراض العقلية، ويرى الدكتور أنيس فهمي انه تبين في السنوات الأخيرة ان المتخلفين عقليا بدرجة بسيطة هم الذين يزيد معل الذكاء لديهم على 50 نقطة، وقد تتحسن أحوالهم بعد تركهم المدرسة وكثير منهم عاديون من الناحية الاجتماعية ويستطيعون اعالة أنفسهم ولا يمكن تمييزهم عن الناس العاديين وندرة قليلة منهم تضطر السلطات الى حجزها بمستشفيات الأمراض العقلية.
وهناك من يرى ان تقسيم الأشخاص الى طائفتين متقابلتين إحداهما تضم العقلاء والثانية تضم المجانين تقسيم خاطئ. اذ كما توجد بين الليل والنهار أوقات الشفق فان هناك من ينعثون بنصف المجانين les demi-fous، أي انه بين الأشخاص الذين يملكون العقل كاملا والأشخاص الذين فقدوه بأتمه اشخاص يقعون في منطقة وسط فهملا يملكون العقل كله ليوصفوا بالعقلاء ولم ينهدم العقل لديهم نهائيا حتى يوصفون بالمجانين. فإلى جانب المرض العقلي الذي يجعل تصرفات المريض مضادة للعقل اظهر تطور الطب نمطا اخر من المرض يجعل المصاب به يتصرف في بعض المسائل كالعاقل تماما بينما يتصرف بشان البعض الاخر " كالمجنون" تماما. اذ المرض في هذه الحالة لا يحدث تأثيرا على العقل كله وانما يؤثر فقط على بعض المراكز العقلية لدى المصاب، وبذلك يشير الدكتور جلال محمد إبراهيم الى ما يسمى بالجنون الجزئي او الجنون الفكرة الواحدة او الهوس الأحادي  la monomanie ou l'aliénation partielle .

وقبل ختم هذه الفقرة نشير الى ان الأمراض العقلية متعددة ومن اشهرها الفصام les schisophrenies  وهو أنواع ويعرفه الدكتور ابن اسماعيل بمجموعة من الإختلالات في الوضائف العقلية تتميز بانفصام في الحياة النفسية واضطراب تدريجي للشخصية مع خلخلة في العلاقات الثقافية والعاطفة والاجتماعية للمصاب تجاه الغير والواقع.

والصرع  Epilepsiesوهو بدوره انواع يتسم بعضها بالخطوة بينما بعض أنواعها لا يحول دون قيام المصاب بحاجياته الاعتيادية وأظهرت بعض الدراسات بفرنسا ان نصف المصابين بالصرع يقودون سياراتهم ويقدر مارك بوسارت بان خطر حوادث الطريق لدى المصابين بالصرع يشكل نسبة1 في مليون كيلومتر ووقفت الدكتورة تمارة ثوريا بالمغرب على مصابين بالصرع يقودون سياراتهم بشكل عادي واستخلصت في  أطروحاتها عن هذا الداء ان المصاب به يجب ان تتاح له الفرصة لمزاولة نشاطاته على جميع المستويات العائلية والمهنية والاجتماعية سيما وان بعض النوبات لا تنتاب أحيانا المريض " الا دقائق معدودة في الشهر او السنة ".

Alors que sa maladie le met quelques minutes par mois ou par an.

امام هذا التشعب للمرض العقلي وأصنافه كان على القرار إجراء الخبرة لتحديد ماهية داء المحضون بالضبط وبخبرة قانونية

أسماء المرض العقلي في اللغة:
حاولنا الوقوف على بعض المرادفات اللغوية للمرض العقلي فاتضح لنا ان اللغة العربية تضم وفرة من المرادفات، بينها فوارق دقيقة Nuances منها.
المجنون- الأحمق - المعتوه - الاخرق - المائق- الموق - الرقيع والمرقعان - الممسوس - المخبول - الانوك - البوهة- الذولة- العرهاة - الاولق - المهروس- الهلباجة- الجذب -  الهجاجة - الرشاع - الجعبس- المالوس- الاهوج - الهائم - المدله - المستهتر- الواله - الهبقنع.
وعندما تبالغ في وصف المجنون، فإنها تقول "جنونه مجنون" وبالنسبة للحيوانات تعتبر الضبع أحمق الدواب.

المرض العقلي في الاجتهاد القضائي:
1) في قرار صادر عن دائرة التمييز بمحكمة الاستئناف العليا بالكويت طعن رقم 164/1984 بتاريخ31/02/84 تم تعريف هذا المرض على هذا النحو " ان المرض العقلي وما في حكمه الذي تنعدم به المسؤولية هو ذلك الذي من شانه ان يعدم الإدراك او ما يترتب عليه فقدان القدرة على توجيه الإرادة بصفة تامة، اما سائر الأمراض النفسية التي تنقص او تضعف من هاتين الملكتين بحيث لا تبلغ الحد الذي يفقد الشخص معه كل ادراكه او ارادته فلا تعد سببا لانعدام المسؤولية".
2) وفي قرارها الصادر سنة1968 في الجنائية رقم 2177 قررت محكمة النقض السورية  " ان الامراض العقلية من الامراض الخفية الدقيقة التي تحتاج الى خبرة واسعة ودراية تامة ولا يجوز للمحكمة ان تقدر من نفسها عقلية الظنين وتطمئن الى ملاحظاتها اثناء المحاكمة فقد يكون الجنون مطبقا او غير مطبق فلا بد من الاعتماد على رأي الطبيب او تركه الى رأي اقوى منه علما".

والمشرع المغربي كما أسلفنا قرر بموجب المادتين 75 و76 من القانون الجنائي وجوب اللجوء الى الخبرة الطبية لتكوين قناعة القاضي بخصوص مسؤولية المتهم الذي يقترف الفعل الجرمي جناية او جنحة وهو في حالة خلل عقلي. أي ان اثبات المرض العقلي في القانون الجنائي المغربي كما أشار اليه ايضا الأستاذ فاضل محمد  " على قناعة قاضي الموضوع وعلى شهادة الخبرة الطبية معا بحيث ان وجود أحدهما غير كاف لإثبات الخلل العقلي وهو ما تدل عليه العبارة الاولى من الفقرة الاولى من الفصل 176 ق.ج. التي جاء فيها " اذا تبين لمحكمة الموضوع بعد اجراء خبرة طبية…".

خاتمة:
هذه المآخذ التي تخللت القرار الاستئنافي موضوع التعليق لا  تقلل من أهميته ومن اجتهاده بخصوص استحقاق الحضانة وحمايته للطرف الضعيف في النازلة الا وهو المحضون بيد اننا كنا نفضل ان تكون هذه الحماية بعد استنفاذ إجراءات الخبرة بالشكل المتطلب قانونا وثبوت الداء. اذ معلوم ان فقهاء الإجراءات يعتبرون الشكل أخا شقيقا للحقيقة.

بقلم عبد الصمد الزعنوني مستشار باستئنافية الرباط

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 67، ص 49.

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : التعليق على الاحكام و القرارات