-->

بصمات المجلة المغربية للقوانين والمذاهب والأحكام الأهلية


ذ. مصطفى الناوي

إذا كانت ساحة المعرفة القانونية في المغرب زاخرة اليوم بالدوريات والمجلات المتخصصة او شبه المتخصصة الصادرة عن مختلف القطاعات المشتغلة بالقانون او المنشغلة به ( كليات الحقوق، جهاز القضاء، هيئات المحامين.. .) فان الإنتاج المعرفي في  مجال  القانون  ليس  وليد  اليوم  في  المغرب ولا مقطوع الجذور التاريخية، وان كان يبدو متجاهلا لتلك الجذور او غافلا عنها في زحمة الانشغال بالوضع الراهن للأشياء حاصرا جل اهتمامه في " تتبع" و" تغطية" ما يصدر من قوانين جديدة او مجددة او ملغية لنصوص أخرى، وفي " مواكبة" ما يصدع  به  القضاء  من قرارات والتعليق عليها في حدود الإمكانيات والوسائل المتاحة.

بيد ان الوقوف على - عند - تراثنا الفقهي والقضائي، تحليلا وتمحيصا ونقدا، ضرورة حتمية إذا نحن شئنا تكوين نظرة كاملة ومتكاملة عن بنيتنا القانونية والقضائية، وإذا نحن أردنا الإحاطة بالأوليات التي تتفاعل في تشكيل هذه البنية وضمان استمرارها وفهم قواعد  - او تعقيد - اشتغالها وسيرها، انه بمثابة ضربة لازب بالنسبة لكل تفكير في توفير شروط التقدم لمنظومة قانونية( بالمعنى الشامل للكلمة ) مشوبة  -  والحق يقال  -   بالكثير  من  الخلل  والنقص ومحاطة، في أجارها العام، بالكثير من الغموض والخلط.

وإذا كانت هذه المهمة صعبة بقدر ما هي ملحة، فان ما أنجز منها، منذ سنوات خلت، قليل جدا ولا يفي بالغرض المطلوب، ومن باب لفت الانتباه الى أهمية هذه المهمة وجدواها العملية والنظرية فإننا نقدم فيما يلي ملاحظات أولية حول: المجلة المغربية للقوانين والمذاهب، الاحكام الاهلية، ومقتطفات منها.

صدر العدد الاول من هذه المجلة عام 1935، وقد أسسها وراس تحريرها الأستاذ بول زيس رئيس الذي كان آنذاك رئيسا لإحدى غرف الاستئنافية، بالرباط وقبل ذلك مفتشا للمحاكم الشريفة، أنشأها وفاء لروح والده ارنيست زيس الذي كان من المساهمين في تأسيس  المجلة  الجزائرية  في فاتح يناير1985، وكان من المفروض ان تصدر المجلة مرة كل ثلاثة اشهر في كراستين إحداهما مزدوجة اللغة( عربية وفرنسية) والثانية عربية صرف.
وكانت لجنة تحريرها تضم زهاء خمسة وعشرين عضوا بالاضافة الى مشاركين في التحرير ومكاتبين، مغاربة وأجانب،  ولم  يكن  تشكيلها مقتصرا على العاملين في ميدان " العدلية" او القضاء بل كان يشمل أساتذة مبرزين وأعضاء من مختلف القطاعات والمؤسسات.

انطلقت المجلة من رصد إحصائي لواقع المجتمع المغربي، مكوناته السكانية والقبلية وضوابطه القانونية والأخلاقية  والدينية  وأجهزته  القضائية  ومن تلميح عابر- ولكنه مثير ومؤثر- الى ما يتوفر عليه المغرب من ثروة فقهية. رصد ينطوي على  نزعة  إستشراقية جلية  ان  لم  نقل  استعمارية خفية(1)، ولكنه يقدم صورة عن معالم المجتمع المغربي في ذلك العهد بقدر ما يضفي الشرعية  على  المشروع  الذي آلت المجلة على نفسها تحقيقه دون ان يغفل تأثر الفقه والقوانين والأحكام بسيرورة المجتمع وتطوره:  " ان الانقلابات التي تلحق بالهيئة الاجتماعية  تجر  وجوبا في تيارها تطورا فقهيا وتكثر معها المسائل العمرانية يوما فيوما لكن التجارب المباشرة تظهر الخطأ وتدعو الى البحث والنقد والدرس ومبادلة الآراء" ( ص.05 ).

وقد أولت المجلة اهتماما خاصا  للشريعة  الإسلامية باعتبارها " بحر بلا ساحل" ( كناية عن خصوبتها وغناها) وباعتبار اختلافها وتميزها عن القوانين المغربية، وهو اعتبار ما كان ليخفى عن والد مؤسس المجلة ارنيست زيس في بحثه الشهير عن الشريعة الاسلامية بالجزائر، وباعتبار ان المغرب يتمتع " بثروة من التصانيف لا تخطر بالبال ولا شبه لها بما توصف به أحيانا اذ نجد به مؤلفات فقهية جديرة بالاعتبار صنفت بخلال القرن الحادي القرن الحادي عشر الهجري وكتبا أخرى حديثة العهد يتراءى الشرع الإسلامي من خلالها شرعا حيا ومجالا لأفسح الأبحاث ( ص.5 ).

كانت نظرتها الى القواعد القانونية نظرة ديناميكية غير جامدة تؤمن بأنها يجب ان تتطور وتتبدل- نظرا وعملا- تبعا لتطورات الواقع ومكتسبات العقل ومقتضيات الصواب والمنطق:  " ان قواعد المرافعة وما يحفها من الأعراف ليست بمنافية للتغيير بل تقبله ولا ينبغي ان نلبسها ثوب التأبيد الذي يبعد عنها كل تطور، وإذا حدثت نوازل جديدة يجب ان يباشر حلها بكيفية موافقة للعقل والصواب" ( ص.5 ). فالقواعد المقررة ليست بالنهائية ولا بالمطلقة ولكنها قواعد مؤقتة ونسبية تسن درجة تطور المجتمع ولا بد ان تواكب نموه وسيرورته. ومن ثم فان القاضي الموكولة إليه مهمة تطبيق تلك القواعد على النوازل المعروضة عليه وإحقاق الحقوق وإنصاف المتقاضين ملزم بالا يقف " دون حد مأموريته السامية بل من واجباته التشوف بكل ان الى التحسين وبلوغ الكمال كما يتحتم عليه ان يدرك بتيقضه ونباهته ما هو وجه المصلحة في تلك القضايا المعروضة عليه بطريقة مضبوطة وسهلة" ( ص.5 ).
ومما يلفت الانتباه في المجلة حرصها في موادها ومحتوياتها على تغطية جميع مصادر القانون وترتيبها حسب اهميتها وذلك من خلال تخصيص أبواب ثابتة لكل تلك المصادر، فكان الباب الاول مخصصا للتشريع والباب الثاني للمذاهب والباب الثالث للمؤلفات والفتاوي الشرعية والرابع للأحكام الصادرة عن مختلف الهيئات مرتبة حسب أهميتها وتسلسل درجاتها، ورصد الباب الخامس لنشر مختلف الوثائق الإسلامية والإسرائيلية، في حين خصص الباب السادس للتراجم، اما الباب السابع فكان مكرسا لدارسة المؤلفات وتقديم الكتب والتعليق عليها.

واذا كان الإنتاج المعرفي القانوني في مغرب اليوم حبيس اسوار الجريدة الرسمية ورهينا بها بحيث لا يكاد يتنفس هواء غير هوائها او يتجاوزها الى ما قبلها او الى ما يوجد على هامشها ويتعايش معها، حاصرا جل - ان لم نقل مجمل- اهتمامه فيما ينشر على صفحاتها من قوانين وفيما يصدع به القضاء من قرارات تطبيقا لهذه القوانين حتى حق ان يقال ان تاريخه جزء من تاريخها، فقد كان من شان كل من تبويب المجلة المغربية للقوانين على النحو المعروض آنفا والنهج الذي اختارته لنفسها ان يشرعا لها نوافذ كثيرة تطل منها على عالم فسيح ورحب خارج إطار الجريدة الرسمية، وان يسمحا لها بان تجيل بصرها الى ما قبل صدور الجريدة الرسمية دون ان  تتزحزح عن أرضية الواقع التي تضع فوقها قدميها.

وبكلمة، فان المجلة المغربية للقوانين لم تكن مجلة وحسب بل كانت مشروعا، له أفق واستراتيجية ووسائل عمل.
-----------
(*) ملاحظة : جميع الاستشهادات مأخوذة من العدد الاول - السنة الاولى 1935.
(1) تظهر تلك النزعة بخاصة من خلال الحديث عن فرنسا باعتبارها دولة حامية وعن أهدافها البريئة وعن  رسالتها الحضارية، بقدر ما تتبدى من خلال تصنيفات سكان المغرب والعبارات المستعملة فيها.
----------
* مجلة المحاكم المغربية، عدد 67، ص 273.


Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم :