-->

الإشعار بالإخلاء لأجل التماطل في نطاق ظهير 25/12/1980- وظهير 24/5/1955



للأستاذ محمد بوزيان
المستشار بالمجلس الأعلى

كتب الأستاذ محمد بونبات الاستاذ المساعد بكلية الحقوق بمراكش بحثا قيما حول الخروج عن القواعد المنظمة للاشعار بالافراغ في نطاق ظهير 25/12/1980 وفي نطاق ظهير 24/5/1955، ابدى فيه وجهة نظره كباحث قانوني حول الاجتهادات القضائية التي تصدر بشان تطبيق الظهيرين، وركز بصفة خاصة على سبب الانذار اذا كان تماطلا عن اداء اجرة الكراء.

وقد الفت هذا البحث المنشور في مجلة المحاكم المغربية عدد 47 نظري الى التأويلات التي تظهر بين حين واخر في تطبيق الظهيرين، فاثرت ان اساهم في ايضاح بعض الجوانب المهمة في هذا التطبيق، واحاول قدر الامكان ان اعطي تاويلا ربما كان ناجعا في تصحيح المسار.

ولذلك فانني سوف أتعرض في هذا التعقيب الى:
1) مفهوم التماطل في اداء الكراء والاتجاهات القضائية
2) الاشعار بالاخلاء
أ‌- في نطاق ظهير 1955.
ب‌- في نطاق ظهير 1980.
3) العمل القضائي والقانوني.
I- مفهوم التماطل في اداء اجرة الكراء 
ان التماطل في اداء اجرة الكراء سبب من اسباب فسخ عقدة الكراء سواء تعلقت بأماكن السكنى او بالمحلات التجارية طبقا للفصل 692 من ق. ز.ع وهو واقع اذا قدرت محكمة الموضوع وجوده وجب عليها ان تحكم بفسخ عقدة الكراء حماية للحق الخاص ولا يسوغ لها في هذه الحالة ان ترفض فسخ عقدة الكراء على حساب صاحب الحق في هذا الفسخ وهو المالك، وهذا امر لا ينبغي ان نتناقش فيه، والمهم ان نحدد بماذا يحصل التماطل؟.

ان الاستاذ محمد بونبات اشار بعد ان ابرز هذه القاعدة الماخوذة بكل صراحة ووضوح من الفصل 692 الى ان العمل القضائي استقر على تصورين اثنين في تطبيق هذا الفصل.
التصور الاول يستلزم - ليحصل التماطل ويحكم على المكتري بالاخلاء - ان يستصدر المكري عدة احكام سابقة تقضي على المكتري بالوفاء بالكراء.
التصور الثاني هو ان المكري اذا مانع من تسلم الاجرة فان القضاء اتجه الى الاخذ بقاعدة ( الكراء مطلوب لا محمول) ولذلك يلزم المكري بانذار المكتري بالاداء مع اعطائه اجلا معقولا ليثبت تماطله اذا تقاعس بعده عن الوفاء بالاجرة.

ويرى الاستاذ محمد بونبات ان هذا التصور يتمشى مع مقتضيات الفصل 255 من ق. ز.ع الذي يستلزم لاعتبار المدين في حالة مطل ان يوجه اليه الدائن إنذارا صريحا بوفاء الدين. والذي يجدر ايضاحه في نطاق هذا التصور انه انبنى على فهم غير سليم لكل من:
قاعدة الكراء مطلوب لا محمول
والفصل 255 من ق.ز.ع.

قاعدة الكراء مطلوب لا محمول
ان قاعدة الكراء مطلوب لا محمول معناها كما في الفصل 666 من ق. ز.ع. ان الكراء يدفع بالنسبة للعقارات في المكان الذي توجد فيه العين المكتراة بمعنى ان يأتي المالك الى المكتري لياخذ كراءه وليس على المكتري ان يحمل الكراء الى المالك في محله، وبالنسبة للمنقولات في مكان ابرام العقد بمعنى ان يذهب المكتري لاداء الكراء للمالك بمكان ابرام العقد ولا يلزم المالك بالحضور الى مكان المكتري لتسلم الكراء.

وهذا يعني في الحالة الاولى ان الكراء مطلوب لانه على المالك ان يطلبه في محل المكتري لا محمول اليه، وفي الحالة الثانية الكراء محمول من طرف المكتري الى المالك لا مطلوب، فاذا فرضنا ان المالك في الحالة الاولى يسكن بالدار البيضاء والمكتري يكتري منه شقة لسكناه بالرباط فان المكتري لا يفرض عليه ان يسافر الى الدار البيضاء لاداء الكراء للمالك اللهم اذا اتفق علا خلافه.

وهذا المعنى للقاعدة لا علاقة له بالانذار ول ابالتماطل، وهو  جار على ما هو مقرر لدى الفقهاء في محل تنفيذ الالتزامات المختلفة، والمفروض في شرح هذه القاعدة على هذا الاساس ان يختلف الطرفان في محل اداء الكراء اما اذا اتفقا على العمل بالقاعدة ولكنهما تناكرا:
المالك يدعي انه جاء لطلب الكراء فامتنع المكتري من الاداء وادعى المكتري ان المالك لم يحضر ليتسلم الكراء فان القانون قرر حلا اخر بغير قاعدة الكراء مطلوب لا محمول، وهذا الحل هو الذي سأتعرض له في شرح النقطة التالية بالفصل 255 من ق.ز.ع.

فهم الفصل 255 من قانون الالتزامات والعقود
يرى الاستاذ محمد بونبات كما يرى غيره ان هذا الفصل هو اساس توجيه الانذار من طرف المالك الى المكتري بقصد الاداء، وبالتالي يترتب ثبوت تماطل. المكتري بتقاعسه عن الاداء بعد مضي الاجل الذي ضرب له  في الانذار.
ولكي تكون ارضية النقاش واضحة امام القارئ يجدر بي ان انقل هنا نص الفصل 255 من قانون ز.ع وهو:
يصبح المدين في حالة مطل بمجرد حلول الاجل المقرر في السند المنشئ للالتزام .
فان لم  يعين للالتزام اجل لم يعتبر المدين في حالة مطل الا بعد ان يوجه اليه او نائبه القانوني انذار صريح بوفاء الدين.
وليتم وضوح ارضية النقاش اكثر يجدر بي ان انقل نص الفصل 627 من ق. ز.ع.
وهو الكراء عقد بمقتضاه يمنح احد طرفيه للاخر منفعة منقول او عقار خلال مدة معينة في مقابل اجرة محددة يلتزم الطرف الاخر بدفعها.

وانقل كذلك نص الفصل 664 من ق.ز.ع وهو:
يلتزم المكتري بدفع الكراء في الاجل الذي يحدد العقد، فان لم يحدد العقد لدفعه اجلا التزام المكتري بدفعه في الاجل الذي يحدده العرف المحلي، فان لم يحدد العرف المحلي بدوره اجلا التزم المكتري بدفعه في نهاية الانتفاع.
ويسوغ اشتراط دفع الكراء مقدما.
وعلى ضوء هذين النصين نستخلص:
أولا: ان الكراء لمدة معينة مقابل اجرة معينة، والمدة المعينة اما شهر واحد او ثلاثة اشهر واما سنة مثلا، والاجرة المعينة هي مبلغ محدد من النقود للمدة المحددة.

ثانيا : ان الاجرة لها اجل محدد للاداء فهو:
بداية الانتفاع بالعين المكتراة ان اتفق على تقديمه 
الاجل الذي يحدده العقد
الاجل الذي يحدده العرف المحلي ان كان عرف محلي.
نهاية الانتفاع أي اخر الشهر ان كان الكراء مشاهرة او اخر المدة المعينة ان عينت مدة اخرى  وعلى أي حال فان اداء اجرة الكراء له اجل محدد، وليس الكراء من العقود التي ترد على الشيء من دون ادخال عنصر الزمان فيه، نعم قد نكون خياليين فنتصور ان ينعقد الكراء مع تحديد الاجرة وتاجيل ادائها الى ان يطالب بها المالك، المكري، وفي الحياة العملية فان الرأسمال المستثمر لا يمسح بعقد الكراء بهذا التصور الخيالي اذ هو يستهدف اكتساب الارباح المعجلة، ولهذا فعقود الكراء لا تتم الا للآجال المحددة بطريقة او باخرى.

واذا وصلنا الى ان عقود الكراء لا تتصور عمليا الا وأداء أجورها محدد بآجال، ندرك ان الفصل 255 من ق. ز.ع الشامل لجميع الالتزامات يفرق لثبوت المطل بين حالتين: 
حالة الالتزام المحدد الاجال للوفاء به، فان المدين يصبح في حالة مطل بمجرد حلول الاجل المقرر في السند المنشئ للالتزام، ومثال الاجل المقرر في السند المنشئ للالتزام الاجل المقرر في الفصل664 الخاص بعقود الكراء لاداء اجوره.
وحالة الالتزام غير المحدد الاجل للوفاء به، وهنا لا يصبح المدين بالوفاء بالالتزام في حالة مطل الا بعد ان يوجه اليه الدائن انذارا صريحا بالوفاء في اجل معين.

وعلى ضوء اعتبار هذه النصوص الثلاثة 255 و627 و664 متكاملة، ظهر بالمجلس الاعلى تصور جديد ثالث يضاف الى التصورين السابقين.
تصور ثبوت التماطل لصدور احكام سابقة بالوفاء .
وتصور الكراء مطلوب لا محمول ووجوب توجيه الانذار بالوفاء الى المكتري لثبوت تماطله.
وهذا التصور الثالث يرى ان المكتري التزم بالوفاء في اجل محدد ويتحقق تماطله بمجرد حلول الاجل من دون وفاء وبدون سبب مقبول، من غير حاجة الى انذار المدين بالوفاء تطبيقا للفصلين 254 و255 من ق. ز.ع وطبقا للفصول 171 فما بعده من قانون المسطرة المدنية(1).

وقد وقع الاستاذ بونبات في شرك الاجتهادات القضائية المختلفة التي ابتعدت عن النصوص القانونية وروحها، فبدأت تعتمد على الاجتهادات اكثر مما تعتمد على القانون فيما يخص مضمون الانذار ومداه واثره، فدخل في نقاش لا موضوع له ولا سند بالمغرب، وتساءل عما اذا كانت القواعد التي يتضمنها الفصلان 692 من ق.ز.ع والفصل 12 من ظهير 1980- من القواعد الامرة فيكون القاضي ملزما بالحكم بفسخ الكراء اذا ثبت التماطل المؤيد للفسخ او من القواعد غير الامرة، فيتمتع القاضي بالسلطة التقديرية للفسخ او عدمه، بمعنى انه مع ثبوت التماطل المؤيد للفسخ يمكن له فقط كما عبر ظهير1980 ان يقرر الفسخ او يمتع المكتري بحالة اخرى.

والذي يبدو واضحا من الفصلين ان الامكان الذي اسنده الفصل 12 من ظهير 1980 للقاضي او الامكان الذي  اسنده الفصل 692 للمكري للالتجاء للقضاء للحكم بالفسخ لا يعني السلطة التقديرية للقاضي للحكم بالفسخ او عدمه، وانما يعني ان السلطة التقديرية للقاضي تتعلق بتقدير واقع، وبما اذا كان هناك مؤيد للفسخ فيقرر الفسخ ام ليس هناك مؤيد للفسخ فيرفض طلب الفسخ، وليس في النصوص ما يحمي المكري، ضد المكتري ولا ما يحمي المكتري ضد المكري الا وجود موجب فسخ او عدمه.

I- الاشعار بالاخلاء
ان اجتهادات قضائية مختلفة وقعت في خطا واختلطت فيها الاثار القانونية للانذار بالاداء اذا كان له مبرر والانذار بالاخلاء، فقضت بالاخلاء بمجرد الانذار بالاداء دون انذار بالاخلاء، وهو امر لا يعتمد على النصوص القانونية، اذ لكل انذار بالاداء والانذار بالاخلاء، اثره القانوني، فالاثر الناتج عن الانذار بالاداء هو اثبات تماطل المدين عن الاداء والاثر الناتج عن الانذار بالاخلاء هو تنبيه المكتري للاستعداد للاخلاء سواء في نطاق ظهير 1955 او ظهير 1980.
وعلى ضوء هذه المقدمة يجدر بي ان أتعرض للانذار بالاخلاء في كل من ظهير 1955 وظهير1980.

أ‌- الإشعار بالاخلاء في نطاق ظهير 1955
ان الاشعار بالاخلاء كما حدده الفصل السادس من ظهير 1955 يعني ان يوجه المكري للمكتري طلبا لا يتعلق بالاداء ولا بالزيادة في السومة الكرائية وانما بالافراغ، وذلك ليتخذ المكتري ما يراه صالحا له اما بطلب تجديد واما باتخاذ الاحتياطات العملية مثل البحث عن مكان اخر الكراء.
ان الفصل السادس يقرر صراحة - تحت طائلة عدم القبول - ان كل طلب لانهاء عقد الكراء يجب ان يسبقه انذار بذلك.

والانهاء معناه الغاء مفعول العقد سواء عن طريق طلب الافراغ لمبرر من المبررات التي يعتمد عليه المكري او عن طريق طلب الفسخ اذ كان هناك ما يبرر الفسخ القضائي او القانوني، باستثناء حالة الفسخ  المنصوص عليها في الفصل 26 من ظهير والتي قرر لها المشرع حكما خاصا بها.
وهاتان الصورتان لانهاء عقد الكراء تجتمعان وتفترقان في الاحكام.
تجتمعان في ان كلا  منهما يجب فيها توجيه الانذار المستوفي للشروط الشكلية المنصوص عليها في الفصل السادس.
وتفترقان في أمرين:
الاول ان الانذار للافراغ يقدر فيه القضاء صحة المبررات المعتمدة فيحكم بالافراغ او عدم صحتها فيحكم برفض الطلب، اما الانذار للفسخ فان القضاء يقدر فيه صحة مؤيد الفسخ من تغيير وجه الاستعمال او اهمال الشيء المكتري والحاق الضرر به او الاخلال بالالتزام او وجود شرط فاسخ، والثاني ان الاولى قد يرتب فيها القضاء عند تقدير صحة المبررات الحكم بالتعويض طبقا لمقتضيات الظهير، اما الثانية فلا يرتب فيها التعويض طبقا للفقرة الاولى من الفصل الحادي عشر من الظهير(2).

ولا يختلط الانهاء للعقد بطلب من المكري مع انتهاء مدة العقد التي يتفق عليها الطرفان المكري والمكتري بطلب الفسخ، كما وقع لبعض الاجتهادات التي ذهبت الى التفريق بين حالة انتهاء العقد وبين حالة طلب الفسخ بسبب من الاسباب المذكورة في الفصل 692 من ق.ز.ع. فرأت انه في الحالة الاولى يجب سلوك مسطرة الانذار وقواعد ظهير 1955، وفي الحالة الثانية يعطى الخيار للمكتري ان شاء سلك مسطرة الظهير وان شاء سلك مسطرة القواعد العامة، و لا حاجة حينئذ الى توجيه الانذار بل له ان يرفع الدعوى مباشرة الى المحكمة.

فبالإضافة الى ما وجه الى هذا الاجتهاد من نقد وجيه، فان هذا الاجتهاد يحمل في طياته اداة الاجهاز عليه، اذ القواعد القانونية التي تنظم العلاقات الانسانية بين طرفين مفروض فيها ان تكون واحدة فالعلاقة بين المكري والمكتري لا تنظمها الا قواعد ملزمة واحدة: اما القواعد العامة واما القواعد الخاصة حتى تكون وضعية الطرفين ازاء القانون واحدة، فلو راى هذا الاجتهاد الفريد ان يطبق القاعدة العامة وحدها في احوال الفصل 692 من ق. زع.  بدعوى ان هذه الاحوال ليست من مشمولات ظهير 1955 لكان له وجه للقول، اذ المكري اذا كان يسمح له بسلوك مسطرة القاعدة العامة وهي ايسر بالنسبة له سوف لن يسلك مسطرة القاعدة الخاصة التي هي اعسر له، والمكتري اذا كانت حماية حقوقه تستلزم سلوك المسطرة الخاصة سوف لن يقبل سلوك المسطرة العامة التي تلحق الضرر بحقوقه، بينما المفروض ان يحتكم الطرفان الى مسطرة واحدة يستويان امامها ويلزمان بها معا، ولا يقبل قانونا ان تكون الا المسطرة الخاصة التي جاءت في القانون الخاص لاحقة للمسطرة العامة.

وعلى أي حال، فان كراء المحلات التجارية خاضع لقواعد القانون الخاص ولا يسوغ القول بالخيار بينها وبين مقتضيات الفصل 692 لسببين:
الاول: ان القاعدة القانونية، سواء كانت عامة او خاصة، تتميز بانها عامة تعم الناس كلهم ولا تختص بفرد دون اخر ولا بطرف دون اخر، وتتضمن حكما موجها لكافة افراد المجتمع يتحتم انطباقها على كل واحد منهم تتوفر فيه الشروط التي تستلزمها هي بذاتها لسريانها، وبانها ملزمة بمعنى انه يجب على جميع الافراد احترامها رغما عنهم، لا ان يترك هذا الاحترام الى محض مشيئتهم ان شاءوا لزموه وان ارادوا كفوا عنه، فالقاعدة القانونية انما خلقت لكي تنظم العيش في جماعة، ولن يتوفر هذا التنظيم الا بارغام الافراد جميعهم على احترامها(3).
والاجتهاد الذي اعطى للمكري الخيار بين قاعدة عامة وقاعدة خاصة وضعه في موضوع متحلل من قاعدة قانونية ملزمة اذ تصبح بالنسبة اليه غير عامة وغير ملزمة فلا يلزم بمقتضى الفصل 692  وظهير 1955 الا  المكتري ولا يشمل المكري ولا يلزمه وهو امر بعيد عن المبادئ القانونية.

والثاني: انه اذا كان تصور التضارب بين المقتضى ممكنا فان الامر يفسر لصالح المدعى عليه الذي هو المكتري التاجر المحمي بضمانات من قبل المشرع، وحينئذ يجب تطبيق مقتضى ظهير 1955 لا مقتضى الفصل 692 (4).

والاشعار بالاخطار يشترط فيه شكليا شروط ثلاثة.
1) ان يكون مسبقا عن انتهاء مدة العقد او انهائها بستة اشهر على الاقل .
2) ان يوضح المكري للمكتري الاسباب الداعية الى الافراغ.
3) ان ينقل فيه مضمن الفصل 27 من الظهير
وهذا الاشعار تختلف احكامه بينما اذا كان مستوفيا للشروط الشكلية او ما اذا اختل فيه شرط او شروط منها. ففيما اذ اختل الشرط او الشروط فان الفصل السادس نفسه مع الفقرة الاخيرة من الفصل 27 يتضمن الجزاء وهوان المكري لا يستطيع المطالبة بسقوط حق المكتري المقرر له في الفصل 27.

وعليه فالمكتري ليس ملزما بالالتجاء الى مسطرة الصلح اذ الاشعار يعتبر كان لم يكن، وله اذا اراد ان يتنازل عن حقه في الدفع بعدم قبول الاشعار ان يلتجأ الى قاضي مسطرة الصلح لينازع في الاسباب (5). وفي حالة ما ان استوفى الاشعار الشروط الشكلية التي يتضمنها الفصل السادس فان له حكما اخر ينظمه الفصل 27، ويتحتم على المكترى مقتضاه تحت طائلة سقوط حقه ان يلتجئ الى مسطرة الصلح اولا ثم الى محكمة الموضوع ثانيا.

وفي هذا الحكم ينص الفصل 27  على ما يلي:
ان المكتري العازم اما عن المنازعات في الاسباب الموضوعية التي يستند عليها المكري لافراغ المكان او لرفض تجديد عقدة، واما على المطالبة باحد التعويضات المنصوص عليها في هذا الظهير او كونه لا يقبل الشروط المقترحة عليه ابرام العقدة الجديدة يجب ان يرفع النازلة الى رئيس المحكمة الابتدائية في ظرف اجل ثلاثين يوما من يوم توصله بالاعلام المطالب فيه بالافراغ.

وان انقضى الاجل المذكور فيسقط حق المكتري ويعتبر اذ ذلك اما متنازلا عن تجديد العقد او عدل عن المطالبة بالتعويض عن الافراغ واما قابلا للشروط المقترحة عليه لابرام العقدة الجديدة ويكون ذلك مع مراعاة ما تضمنته الفقرة الاخيرة من الفصل السادس والفقرة الثانية من الفصل الثامن. فالحكم الذي يؤخذ من هذا النص هو:

أ- ان المكتري اذا توصل بالانذار الموجه اليه بمقتضى الفصل  السادس او توصل برفض طلب تجديد العقد او قبوله بشروط الموجه اليه بمقتضى الفصلين السابع والثامن والذي يشترط فيه ما يشترط في الانذار بالافراغ  وياخذ حكمه عليه ان يلتجأ الى رئيس المحكمة الابتدائية داخل ثلاثين يوما لينازع لا في الشكل وانما في الموضوع، بمعنى انه ينازع في صحة الاسباب التي اعتمدها المكري كالاحتياج او ارادة الهدم واعادة البناء او تماطل المكتري في اداء الكراء او تغيير وضعية المحل المكرى(6) او ينازع في حق المكرى في رفض طلب تجديد العقدة، او في الشروط المقترحة عليه لابرام عقدة جديدة، او يطالب بالتعويض اذا أدرك ان الاسباب جدية.
ب- ان المكتري الذي لا يستعمل ذلك الحق داخل الثلاثين يوما يسقط حقه في ذلك، أي في المنازعة في الاسباب، وفي طلب تجديد العقدة او في شروطها، او في طلب التعويض ويعتبر متنازلا عن ذلك.

ج- ان الفقرة الاخيرة من الفصل 27 تؤكد المضمون الذي تضمنته الفقرة الاخيرة من الفصل السادس والفقرة الثانية من الفصل الثامن بشان توافر الشروط الشكلية في الاعلام بالافراغ،  او في الاعلام برفض تجديد العقد، والا فلا يسقط حق المطالبة بذلك بمرور ثلاثين يوما.

د- واذا سقط حق المكتري فيما ذكر وأصبح متنازلا عن الحق في المنازعة في صحة الاسباب وفي رفض طلب تجديد العقدة او في شروطها، او في طلب التعويض، فما هي وضعيته بعده هل تعتبر العقدة التي ربطته بالمكرى قد انتهت بمجرد تنازله عن حقوقه ام وضعيته مرتبطة بارادة المكري ان شاء طلب الحكم بالافراغ وان شاء تركه مستمرا في محله التجاري، واذا عزم المكري على المطالبة بالافراغ فهل يرافعه امام قاضي المستعجلات باعتبار انه اصبح  محتلا بدون سند ام يرافعه امام المحكمة التي  تمتعه بمختلف الضمانات المسطرية باعتبار انه مكتر وانذر بالافراغ الا انه لم  يستعمل الوسائل القانونية لابطال هذا الانذار فاصبح  من حق المكري ان يطالب الحكم عليه بالافراغ ؟  اختلفت الاجتهادات في هذا الموضوع فالكثير يعتبر المكتري بعد ذلك محتلا بدون سند، ويحكم بطرده استعجاليا مع انه يحمل عقدة كراء مازالت قائمة ولم تحكم المحكمة بانهائها.

والمعتقد ان هذا الاتجاه لا يعتمد على ( سند) قانوني، وانما اعتمد على تقليد الاولين، والذي يؤخذ من ظهير 1955 المتضمن لقواعد خاصة - انه لا محل لاختصاص قاضي المستعجلات فيما يتعلق بالمحلات التجارية، وانما الاختصاص اعطي فيها لجهتين (7) :
1) رئيس المحكمة الابتدائية بالنسبة لمرحلة الصلح التي تطبق فيها مسطرة خاصة.
2) المحكمة الابتدائية بالنسبة لمرحلة الحكم سواء  كانت بطلب من المكتري او بطلب من المكري. وهذا الاختصاص يطبق في كثير من الجهات القضائية وهو مسلك سليم يتفق والنص القانوني المطبق، خصوصا الفصول 27 و32 و33 من الظهير، وخصوصا هذا الفصل الاخير الذي يقرر ان جميع الدعاوى التي تقام عملا بهذا الظهير ترفع امام المحكمة الابتدائية للمكان الموجود فيه المالك، ماعدا الدعاوى المشار اليها في الفصول 27 الى 30 من هذا الظهير، أي الدعاوى التي ترفع الى رئيس المحكمة في مرحلة الصلح، فالفصل يتضمن قاعدة واستثناءا ولا يجوز معهما التوسع في الاستثناء.

وعلى هذا فدعاوى المكري الرامية الى المصادقة على الانذار والمطالبة بالحكم بالافراغ ترفع الى محكمة الموضوع، لا الى قاضي المستعجلات، اذ لم يرد أي ذكر في الظهير لقاضي المستعجلات، وحتى بيان الاسباب للظهير الذي هو بمثابة المذكرة التوضيحية له اشار الى ان القضاة ترك لهم المجال واسعا ليقدروا وحسب ظروف كل حالة قيمة صحة الطلبات التي تقدم بشان الافراغ، والذي يقدر صحة واقع او عدم صحته هو قاضي الموضوع لا قاضي المستعجلات.

فاذا كان المكري هو المدعي واراد الحكم على المكتري بالافراغ فعلى المحكمة للحكم بسقوط المكتري ان تثبت مما اذا كان الانذار سليما شكلا  اذا دفع المكترى اولا بعدم سلامته، والا حكمت بعدم قبول الدعوى وان تقدر ما إذا كانت الاسباب المعتمدة من المكري  صحيحة والا حكمت برفض طلبه موضوعا، واذا سقط حق المكتري في اطار الفصل 27 في الادعاء والمنازعة فليس هناك ما يمنعه من تقديم ما يراه الدفاع عن نفسه وقدمت ضده دعوى في نطاق الفصل 33.

وبهذا المنطق القانوني هدف المشرع الى حماية حقوق المكترين التجاريين  من الضياع، ولا توجد هذه الحماية اذا استند الحكم الى قاضي المستعجلات الذي لا حق له في تقدير الوقائع  والطلبات الموضوعية، ومقتضيات هذا الظهير تنسجم ايضا مع المقتضيات المتعلقة باماكن السكنى التي كان يحكمها ظهير1928، فلم تعط هذه المقتضيات الحكم في طلبات الافراغ والمصادقة على الانذار لقاضي المستعجلات، وانما اعطته لرئيس المحكمة بصفته قاضي الموضوع، وليس من المنطق ان يعطي المشرع الاختصاص لقاضي المستعجلات في الحكم بافراغ المحلات التجارية في الوقت الذي قصد حماية حقوق المكترين التجاريين، وفي الوقت الذي اسند الاختصاص لقاضي الموضوع فيما يتعلق باماكن السكنى.

أ‌- الإشعار بالإخلاء في نطاق ظهير 1980
ان الفصلين الثامن والتاسع من ظهير 1980 يتضمنان انه لاجل انتهاء عقد الكراء يتعين تحت طائلة عدم القبول ان يوجه المكري الى المكتري اشعارا بالافراغ ويتعين تصحيحه عند الاقتضاء طبقا للمقتضيات الواردة بعدهما.
وهذا الاشعار تشترط فيه شروط منها بيان الاسباب المعتمدة من طرف المكري، وهي اسباب كثيرة وهي نفس الاسباب التي اعتمد عليها القضاء سابقا في تطبيق ظهير 1928.

ومن هذه الاسباب:
عدم اداء الكراء
تحطيم الشيء المكترى وتغييره 
الاحتياج الشخصي او العائلي
الهدم واعادة البناء 
وغير ذلك من الاسباب والمبررات التي يقدرها القاضي ايجابا فيقرر التصريح بقبول التنبيه بالاخلاء، او سلبا فيقرر التصريح بعدم قبول او رفضه، ولكن عليه ان يشير بكيفية دقيقة الى الاسباب التي جعلته يعتبر التنبيه بالاخلاء مقبولا او غير مقبول(8).

وعلى ضوء هذا، فالاسباب تشمل حتى الاسباب المذكورة في الفصل 692 من ق.ز.ع، ولذلك جاءت المقتضيات بعده لبيان احكام كل هذه الاسباب :
فالفصل 12 جاء لشرح الاحكام المتعلقة باسباب الفصل 692 وبعض الاسباب المضافة اليها فنص على انه يمكن للقاضي وبصفة خاصة تصحيح الاشعار في هذه الاحوال، ويجب ان لا نفهم ان المشرع أعطى للقاضي السلطة التقديرية ليصحح او لا يصحح بدون اعتبار مبررات التقدير، فسوف نصل بذلك الى اقرار التحكم في حقوق الاطراف.

وكما جاء الفصل 12 خاصا بالاسباب المشار اليها فقد جاء الفصل 13 بعده متعلقا بسبب اخر من اسباب طلب الافراغ وهو الاحتياج، وعبر المشرع بنفس العبارة التي عبر بها في اسباب الفصل 692 وهي الامكان وهي تعطي السلطة التقديرية للقاضي لتقدير واقع السبب.
وكذلك جاء الفصل 15 متعلقا بسبب هدم المحل وادخال تغييرات عليه، والمشرع وان عبر هنا بعبارة يتعين فإنما ذلك اذا قدر القاضي واقع السبب ايضا  وقدر أحقيته بكون الهدم او ادخال تغييرات على المحل ضروريا.

وعلى أي حال فالاشعار يجب ان يشتمل تحت طائلة عدم القبول على بيان الاسباب وتحديد مدة ثلاثة اشهر على الاقل في الاشعار بالافراغ فاذا استجاب المكتري حلت العقدة بين الطرفين بالتراضي وان رفض صراحة او ضمنا فان الامر بيد المكري وامكن له ان يرفع الامر الى القاضي ليصرح عند الاقتضاء بتصحيح الاشعار والحكم على المكتري بالافراغ اذا اعتبر السبب المثار وقدر واقعيته.

اما المكتري فلا يجب عليه أي عمل اذا رفض، وفي انتظار ان ترفع ضده دعوى من المكري عليه قبل كل شيء اذا كان الاشعار غير مقبول، ان يدفع بعدم القبول قبل كل دفاع في الموضوع  طبقا للفصل49 من قانون المسطرة المدنية والا فلا يحق له الطعن شكلا في الاشعار بعده.

والاشعار المتحدث عنه غير الانذار الذي يوجهه المكري للمكتري بقصد اداء الكراء، عند الاقتضاء، اذ هذا الاخير يستعمل فقط لاجل اثبات التماطل، اما الاشعار موضوع الظهير فهو تعبير من المكري للمكتري عن ارادته في انهاء عقد الكراء او فسخه، بقصد استعداده للبحث عن محل للسكنى ونقل أمتعته، وكثيرا ما يختلط الامران في القضاء وهما متغايران قانونا واثرا، فالمكري اذا انذر المكتري للاداء او الزيادة في الكراء والا رفع به الدعوى للافراغ لم يكن اشعارا، وانما هو انذار فقط لان ارادة المكري لم تتجه الى الافراغ وانما اتجهت الى التعجيل باداء الكراء اوا لزيادة فيه (9).

I- العمل القضائي والقانون
ان الاستاذ بونبات، في بحثه، اثار اهتمامه ما يبرز بين الحين والاخر من عمل قضائي مخالف لظواهر النصوص القانونية، وحار في تفسير هذه الظاهرة،  وحام حول الحمى محاولا ان يدق ناقوس الخطر، وأنا اتفق مع الاستاذ المحترم في حريته، واستغرب كيف يمكن للقاضي ان يتجه اتجاها معاكسا لاتجاه القانون مستندا فقط الى عمل قضائي غير متأكد من مصدره القانوني، ولذلك فانني اذكر القارئ الباحث بما يعرفه الفقهاء ويشرحونه في مؤلفاتهم عن العمل القضائي قديما وحديثا، أي عند فقهاء المالكي المتأخرين وفقهاء القانون الحديث، مع مقتضيات المسطرة المدنية المغربية.

العمل القضائي في القانون الحديث
لكي احدد معنى العمل القضائي في القانون الحديث ينبغي التذكير بان العمل القضائي له مدلول واثار تختلف باختلاف النظم القانونية السائدة عالميا، فله مثلا مدلوله واثره في النظام الانجليزي وله مدلوله واثره في النظام الفرنسي، وله مدلوله في القانون المغربي، وله مدلوله واثره في الفقه الاسلامي المالكي.

أ‌- في النظام الانجليزي:
ففي النظام الانجليزي يختلف نظام القضاء اختلافا اساسيا عن النظام السائد في فرنسا، ففي انجلترا يعتبر القضاء مصدرا رسميا للقاعدة القانونية لا يقل في اهميته عن التشريع، فحكم اية محكمة في انجلترا يلزم قانونيا المحكمة التي اصدرته بان تتبعه في القضايا المماثلة التي ترفع اليها فيما بعد، كما يلزم جميع المحاكم الاخرى الادنى منها درجة، وبخلاف الحال في فرنسا فانه لا يلزم في انجلترا ان تستقر المحاكم وتتخذ كلمتها على امر معين حتى تصير كلمتها قانونا، وانما يكفي لذلك صدور حكم واحد، وهكذا فاحكام المحكمة الابتدائية تلزمها، واحكام محكمة الاستئناف تلزمها وتلزم المحاكم الادنى منها درجة، واحكام المحكمة العليا تلزمها في القضايا التي ترفع اليها وتلزم المحاكم الانجليزية الاخرى، ولا يمكن العدول الا بسن قانون يقضي بذلك، وهكذا فالقاعدة القانونية في انجلترا تتكون في جزء منها من السوابق القضائية وفي جزء اخر تتكون من التشريع ومن العرف (10)

ب‌- في النظام الفرنسي:
وفي النظام الفرنسي للعمل القضائي مدلول غير مدلوله في النظام الانجليزي، اذ هو استقرار المحاكم ومحكمة النقض على امر معين، ويكون فقط مصدرا من المصادر المادية للقانون، فقد تعتمد عليه السلطة التشريعية فتصدر قانونا بسن القاعدة القانونية ويرجع الى مصدره القانوني لغاية تحديد معنى تلك القاعدة وتفسيرها، ولا يفيدنا هذا المصدر المادي في معرفة ما اذا كانت هناك قاعدة قانونية ام لا لان القاعدة لا تصير قانونية الا اذا توافر لها عنصر الالزام الذي يضفيه عليه المصدر الرسمي وهو التشريع.

وقد برزت فائدة القانون في فرنسا حيث كانت الى اخر القرن الثامن عشر محكومة في اغلبها بقواعد عرفية هي التي كانت لها السيادة في القديم وتختلف من اقليم الى اخر فصدرت في اوائل القرن التاسع عشر تشريعات نابليون التي وحدت القانون في فرنسا كلها (11).
وقد نال هذا العمل في فرنسا من الاعجاب حدا قارب التقديس، وادى بالفرنسيين الى ان ينظروا الى قانون نابليون على اعتبار انه القانون الكامل الذي حوى كل شيء وبلغ الكمال فيما حواه، وبلغ من احترام الفرنسيين لمجموعة نابليون ان فقهاءهم اقتصروا في شرحها على ان يفسروا نصوصها نصا نصا، فتكونت بذلك مدرسة تفسير النصوص التي قامت على تقديس النصوص التشريعية التي  ليس للقاضي او الفقيه الا ان يفسرها ليصل الى مدلولها، فالنصوص التشريعية في مذهب هذه المدرسة هي الاساس، ولا توجد قاعدة قانونية الا ما تتضمنه تلك النصوص، وليس امام القاضي او الفقيه الا ان يفسرها وان فسرها وصل الى حلول لكل ما يعرض له من المنازعات إن أحسن التفسير، وعلى القاضي ان يطبق النصوص ولو استبان له عدم استقامة الحلول التي تقضي بها، لان من واجبه ان يحكم بمقتضى القانون لا ان يحكم على القانون.

على ان تقديس النصوص، في نظر هذه المدرسة لم يبلغ بها حد التمسك بحرفيتها فالمهم هو نية المشرع التي اراد ان يعبر عنها بالنص، فعلى القاضي ان يبحث عن نيته الحقيقية المأخوذة من ظهير النص او من الاعمال التحضيرية ان المشرع قد انصرف اليها فعلا، او عن نيته المفترضة التي يفترض ان المشرع كان يقصدها لو انه اراد ان يضع حلا للصعوبات القائمة، ونصل الى معرفة تلك النية عن طريق مقارنة النصوص التي تحكم الحالات المتشابهة ومن الروح العامة للقانون ومبادئه الاساسية(12). وقد اخذ على هذه النظرية من طرف المدارس القانونية في فرنسا وفي اوربا مآخذ ترجع الى انها تعتبر التشريع المصدر الوحيد للقاعدة القانونية والى انها حتى في نطاق التشريع تكتفي بشكله الخارجي دون التعمق للتعرف على العوامل الاساسية التي اثرت في نشوئه والى ان القاعدة القانونية الماخوذة من التشريع قد تصاب بالجمود دون اعتبار سنن التطور.

الا ان هذه المدارس تتفق مع مدرسة تفسير النصوص على ان القانون يعتبر لازم التطبيق قبل كل مصدر من مصادر القاعدة القانونية الاخرى، وقد يكون في حاجة الى التبديل والتغيير باعتبار الظروف وتجدد الاحداث، والجمود الذي يرمي به القانون من طرف معارضيه يزول او يخف الى حد كبير فتصبح القواعد القانونية التي يتضمنها مرنة تتطور بتطور حاجات الجماعة، وذلك بوسيلتين:
الاولى قيام المشرع باصدار التشريعات التي تتطلبها ظروف الحال اما لسد نقص في التقنين واما لتدارك عيب فيه.
الثانية قيام القضاء بتفسير القواعد القانونية تفسيرا يتمشى مع حاجات الجماعة (13).

ومن هنا فالقضاء له دور بالغ الاهمية في خلق القانون وتطبيقه وتفسيره، فما هو القضاء الذي يلعب هذا الدور ؟
انه القضاء الذي يستقر من جميع المحاكم في اتجاه معين ويطرد في السير على قاعدة معينة بعد ان تكون محكمة النقض قد قالت في هذه القاعدة كلمتها التي لا تلزمها هي قانونيا ولا تلزم المحاكم الادنى منها الا استثناء وفي حالة وحيدة.
ولكنها من الناحية الادبية والعملية يندر ان تسير على ما يخالفها بسبب ان مهمة محكمة النقض هي مراقبة تطبيق المحاكم للقانون، واذا رات ان حكما ما جاء مخالفا للقانون نقضته وتخشى المحاكم لذلك الرقيب، وهكذا ينتهي الامر بان تستقر المحاكم في المسالة القانونية على امر معين وتطرد احكامها في السير في اتجاه واحد.

وبهذا، يصبح القضاء عنصرا هاما من العناصر التي يستأنس بها القاضي في استخلاص حكم القانون، ويظهر ذلك كلما دقت معرفة حكم القانون في مسالة من المسائل كما اذا جاء هذا الحكم في نص غامض فيستلهم القاضي في تفسير هذا النص احكام المحاكم التي عرضت لهذا الموضوع من قبل، وكلما اطردت الاحكام وكلما علت درجة المحاكم التي أصدرتها كلما كبر وزنها في هذا المجال، وهكذا فدور القضاء لا يعدو ان يكون مصدر استئناس، بمعنى ان القاضي وهو في سبيل تفسير القانون وتطبيقه يستلهم احكام المحاكم ويسترشد بها، دون ان يكون مجبرا على الاخذ بها قانونا، فالقاعدة في فرنسا وفي مصر وفي غيرهما من الدول التي سنت قوانينها على غرار القانون الفرنسي، وباستثناء البلاد الانجلوسكسونية هي ان الحكم الذي تصدره اية محكمة علت او دنت درجتها لا يلزم الا في نفس الحالة التي صدر فيها، اما في غير هذه الحالة فلا يكون الحكم ملزما لا للمحكمة التي اصدرت ولا لغيرها من المحاكم، وهكذا فالقاضي وان دنت درجته لا يلزم قانونيا باتباع راي سبق له ان اصدره، ولا باتباع راى سبق لمحكمة أعلى منه ان قضت به بالغ ما بلغت درجة هذه المحكمة، حتى ولو كانت محكمة النقض باستثناء حالة وحيدة يكون راي محكمة النقض فيها متعينا (14).

وهذه الحالة، هي الحالة التي ترى فيها محكمة النقض ان المحكمة التي اصدرت الحكم المطعون فيه قد أخطأت في تطبيق القانون ولذلك تفصل في النقطة القانونية التي من اجلها تنقض الحكم وتحيل القضية على المحكمة التي تحكم من جديد، وهنا تلتزم هذه المحكمة باتباع راي محكمة النقض في المسالة القانونية التي فصلت فيها.

والمحكمة التي يعاد اليها الحكم المنقوض هي وحدها التي تلتزم باتباع راي محكمة النقض وفي نفس الدعوى المعادة اليها فقط و لا تلتزم باتباع هذا الراي في غيرها، فيحق لاية محكمة اخرى ان تخالف راي محكمة النقض، ويحق لنفس المحكمة التي اصدرت الحكم المنقوض ان تخالف راي محكمة النقض في الدعاوى الاخرى التي ترفع اليها(15).

واذا كان القضاء مصدر إلهام واستئناس يسترشد به القاضي في استخلاص حكم القانون دون ان يكون ملزما بالسير على نهجه، وهذا حكم لا يشك فيه واجمع الكل على الاخذ به، فهل يعتبر القضاء فضلا عن ذلك مصدرا رسميا للقانون ويخلق القواعد القانونية؟
والمنطق القانوني السليم يحتم الجواب بالنفي لهذه الاسباب.
1) وظيفة القاضي هي تطبيق القانون وليس خلقه وكل ما يحق للقاضي هوان يفسر النصوص الغامضة ليعرف معناها اما خلق القانون والقاعدة القانونية فلا يدخل في وظيفته.
2) يمنح الدستور سن القوانين للسلطة التشريعية ويقصر وظيفة السلطة القضائية على تطبيقها، ولذلك يمتنع على هذه ان تسن القوانين والا كانت متجاوزة اختصاصها.
3) ليس في القانون ما يدل على ان القضاء مصدر من مصادر القواعد القانونية، ولهذا فان القضاء لا يعتبر مصدرا للقاعدة القانونية ولا يسوغ له ان يخلق قواعد قانونية ملزمة كالقواعد التي يخلقها التشريع. ولكن اذا تركنا الناحية القانونية النظرية التي تجعل القاضي عبدا للقانون نجد ان القضاء من الناحية العملية يتجاوز احيانا سلطته الخاصة ويتحرر من عبودية القانون ليخلق قواعد قانونية تصل الى درجة اهمال حكم القانون تحت مظلة غموض القانون وتفسيرها بما يتفق وروح العدالة او يجد نفسه احيانا امام الفصل في مشاكل لم يضع لها التشريع حكما. اما لانه فات عليه تنظيمها عند التشريع، واما لانها جدت بعد هذا الوقت ولم ينص القانون على الرجوع في مثل هذه الحالات الى مصادر اخرى كالعرف مثلا.

ففي هذه الحالة يجب على القضاء ان يخلق قواعد عامة مجردة تكون مصدرا للقانون، واذا كان القضاء يصل الى درجة انه يخلق قواعد القانون فان يحصل فقط من الناحية العملية الواقعية دون الناحية النظرية الرسمية التي يبقى معها القاضي عبدا للقانون،  ويقتصر دوره على تطبيق القانون القائم، دون ان تكون له سلطة خلقه، ومن الناحية العملية كثيرا ما ينتج من استقرار القضاء على امر معين قواعد عامة لها من القوة العملية ما يكاد يصل الى تلك التي لقواعد القانون فالمحاكم وان كانت من الناحية النظرية الرسمية لا تلتزم كقاعدة عامة باتباع راي غيرها من المحاكم مهما سمت درجتها ومهما اطردت احكامها الا انها من الناحية العملية قلما تخالف الراي الذي يستقر عليه القضاء لاسيما اذا كانت محكمة النقض قد توجته باتباعها إياه (16)

ج‌- في القانون المغربي
وفي القانون المغربي للعمل القضائي مدلول مماثل للمدلول في القانون الفرنسي.
وهكذا لا نجد ذكرا للعمل القضائي والاخذ به في بعض النزاعات في الظهير الشريف الصادر سنة 1974 بشان المسطرة المدنية الا في الفصل 369، فقد نص كما في القانون الفرنسي على ان المجلس الاعلى اذا بت في قراره في نقطة قانونية تعين على محكمة الا حالة ان تتقيد بقراره في هذه النقطة، أي في التفسير الذي اعطاه لنص قانوني.

ولم يلزم قانون المسطرة اية محكمة باتباع الحلول القانونية التي يقررها المجلس الاعلى فيما عدا ذلك، ولم يلزم حتى المجلس نفسه باتباع الحلول التي قررها في نوازل مختلفة في نوازل اخرى معروضة عليه، وما ذلك الا لان مهمة القضاء هو تفسير القانون، والتفسير قد يختلف من قاض الى اخر، وقد يختلف من تفسير مخطئ الى تفسير مصيب، او من تفسير غير مناسب الى تفسير مناسب حسب التطور الناشئ وحسب التدبر والتعمق في التفسير،  ولذلك فليس من مصلحة العدل والانصاف ان تسد الابواب في وجوه الاراء والتفسيرات الموفقة لصالح الجمود والاراء المخطئة.

وفيما عدا هذه النقطة القانونية التي بت فيها المجلس واعطى فيها تفسيره لنص قانوني فانه لا وجود لما يقيد حرية أي قاض في تفسير نص قانوني بما يراه اقرب الى مدلوله وانسب بتحقيق العدل والانصاف. ومن اجل ذلك نرى قانون المسطرة في فصله 359 يوجب ان تكون طلبات نقض الاحكام مبنية على الاسباب الخمسة المحددة، ولا يقبل ان يكون طلب النقض مبنيا على غيرها، كمخالفة العمل القضائي بالمحاكم او حتى العمل القضائي للمجلس الاعلى، مما يدل على ان المشرع لم ينظر الى العمل القضائي نظرة القاعدة القانونية وانما نظر اليه نظرة الاستلهام والاستئناس والاستعانة به في فهم القانون، وبذلك فتح المجال امام التفتح والتطور في فهم النصوص القانونية بما يستجد من آراء.

وقد دعاني الى ان اركز على بيان هذا المفهوم للعمل القضائي في القانون المغربي، انني ارى كثيرا من طالبي النقض امام المجلس الاعلى يضعون في جملة وسائلهم ان القرار المطعون فيه خالف اجتهادا قضائيا مع ان مخالفة الاجتهاد القضائي ليس من اسباب النقض كيفما كانت درجته الا في النقطة الوحيدة التي حددها الفصل 369.

العمل القضائي في الفقه المالكي
مستنده:
ان العمل القضائي خاض فيه فقهاء المالكية المتأخرون، وراى بعضهم ان حكمه اخذ بالقياس على عمل اهل المدينة، فاستبعده اعتبارا الى انه اذا لم يعتمد على عمل اهل المدينة مطلقا دون تقييد وتفصيل وهي مستقر الوحي ومنزل الرسالة فيكف يرجح بعمل اهل مدينة ما، كقرطبة وفاس وغيرها.

وارى آخرون الاخذ بالعمل القضائي استنادا الى اختيارات شيوخ المذهب المتأخرين وتصحيحهم لبعض الروايات والاقوال، ولا يرد قياس هذا العمل على عمل اهل المدينة لان اختلاف العلماء في عمل اهل المدينة  انما هو بالنسبة الى الاجماع هل يكون اهل المدينة اجماعا ام لا، وليس ذلك من هذا الباب الذي نحن بصدده، ونصوص المتأخرين متواطئة على ان العمل مما يرجح  به (17).

وقد قال الشيخ ابو اسحاق الشاطبي: الاولى عندي، في كل نازلة يكون لعلماء المذهب فيها قولان فيعمل الناس بموافقة احدهما وان كان مرجوحا في النظر ان لا يعترض، عليهم 
1) ان يكون العمل المذكور صدر من المقتدى به
2) ان يثبت بشهادة العدول المتثبتين في المسائل، ولا يثبت العمل بان يقول بعض عوام العدول ممن لا خبرة له بمعنى لفظ مشهور او شاذ فضلا عن غيره: جرى العمل بكذا، فاذا سألته عمن حكم او أفتى به توقف، فان مثل هذا لا يثبت به مطلق الخبر فضلا عن حكم شرعي.
3) وان يكون جاريا على قوانين الشرع وان كان شاذا.

حكمه:
وحكم ما به العمل ان القول الشاذ يكون راجحا بسبب العمل به، ولذلك لا يجوز للقاضي العدول عنه الى غيره وان كان مشهور، وفي ذلك ابو زيد الفاسي :
وما به العمل  دون المشهور مقدم في الاخذ غير مجهور
وقال الشيخ عيسى السجستاني في لوازمه... فاذا اتضح توجيه ما جرى به العمل لزم اجراء الاحكام عليه لان مخالفة ما جرى به العمل فتنة وفساد كبير 
ونقل عن الشيخ ابي الحسن صاحب الذر النثير وسيدي عبد الله العبدوسي في معياره وعن القاضي سيدي محمد المجاطي في اجوبته - ان القاضي يحكم  بالمشهور من مذهب الامام مالك ما لم يجر العمل بالشاذ والا حكم به وترك المشهور، لان خروج القاضي عن عمل بلده ريبة فادحة، لكن يقتصر من العمل على ما ثبت ويسلك المشهور فيما سواه.

واذا بسطت - موجزا نظرية العمل القضائي عند المتاخرين من المالكية واقوالهم في مستنده ومدلوله وحكمه ومبرراته (18)  فانني اعرض على القارئ الكريم مثالين للعمل القضائي، أحدهما قديم، والاخر حديث.
فمثال العمل القديم ذكره الشيخ الزقاق في لاميته عند ذكره مسائل جرى بها العمل بفاس في قوله:
وفي البلدة الغراء فاس وربـــــــنا   يقي  اهلها من كل داء تفضلا
جرى عمل باللائي تاتي كما جرى باندلس بالبعض منها فاصلا
لما قد فشا من قبح حال وحيلــــة                               فيخشى الذي للغير يبغي توصلا
وان يجروا على انهم قلدوه في الزمن الاول وجرى به العمل، فانه ان حصلوا على غير ذلك كان فيه تشويش للعامة وفتح لابواب الخصام.
وقال العلامة ابن فرحون في التبصرة: كثيرا ما وجد في كتب الموثقين في المسالة ذات الاقوال الذي جرى به العمل كذا، ونصوص المتاخرين متواطئة على ان ذلك مما يرجح به القول المعمول  به.

مدلوله:
والمراد بالعمل بالقول المعمول به حكم الائمة به واستمرار حكمهم به، وهو خلاف العرف الذي هو عمل العامة بالشيء، من غير استناد لحكم من قول او فعل فليس هذا مقصودا بالعمل.
وما به الحكم عند المتاخرين هو احد اقوال ثلاثة: مشهور، او راجح، او ما به العمل.
فالمشهور هو ما كثر قائله كاقوال الجمهور، والراجح ما قوى دليله كاقوال الفقهاء المعتمدة على الدلائل الراجحة، وما به العمل هو قول شاذ لاحد فقهاء المذهب الا ان العمل جرى به لاحدى الموجبات الشرعية كتبدل العرف وعروض جلب المصلحة ودرء المفسدة فيرتبط العمل بالموجب وجودا او عدما، ولاجل ذلك يختلف باختلاف البلدان، ويتجدد في البلد الواحد بتجدد الازمان، فكان عمل فاس وعمل مراكش وعمل تطوان وكان عمل غرناطة وعمل سبتة مثلا.

ثبوته:
وهذا العمل يثبت بنص عالم موثوق به، ونقل عن الشيخ الرهوني ان ما يحكيه المتاخرون من العمل المخالف للمشهور كابي زيد الفاسي وشيخ الجماعة بفاس سيدي التاودي،  والمحقق المطلع الشيخ بناني لا يحتاج فيه للبحث عن شروط العمل ويكفي تقليدهم فيه اذا سلم لهم ذلك وانما يحتاج للبحث عن الشروط التي ذكرها الائمة في العمل الذي يحكيه المتقدمون كابن سلمون وامثاله.

شروط الأخذ بالعمل:
والعمل بالقول يجب الاخذ به ان تتوفر فيه شروط ثلاثة حددها الشيخ ميارة في شرح لامية الزقاق وهي:
أي فيبعد عن غيه بحمله على خلاف المشهور حتى لا يتوصل الى ما قصده بحيلته من اسقاط حق الغير. وهذا المثال هو ان يشتري مشتر نصيبا في اصل مملوك لشريكين او لشركاء ويخالف من الشريك ان ياخذ بالشفعة فيعطي الثمن سرا ويشهد عن البائع انه تبرع عليه قاصدا وبذلك اسقاط الشفعة لانه لا شفعة في الهبة على المشهور وقد قال صاحب التحفة:
…………………………… والمنع في التبرعات مفترض 
ومن له الشفعة مهما يدعي بيعا لشخص حيــــــز بالتبرع 
فمــــا ادعــــاه فعليــه البينة وخصمه    يمينه      معينة

ولاجل هذه الحيلة فانه يحكم على هذا المتبرع عليه صوريا بالشفعة وان كان خلاف المشهور اذا حفت بالنازلة قرائن البيع ويعد التبرع كل البعد كفقير بخيل يدعي تبرعا باصل نفيس على غني لغير رحم ولا صداقة تقتضي ذلك، وقد جرى العمل في ذلك بالقول غير المشهور والشفعة في هذا التبرع الصوري دفعا للحيلة.
وقد قال في لامية الزقاق في عداد المسائل التي جرى بها العمل في فاس  … : شفعة في تبرع، وقال صاحب العمل الفاسي : … وشفعة المحوز بالتبرع.
والمثال الثاني أي مثال العمل القضائي الحديث هو الذي يتجلى في القرار الحكيم الذي اصدره المجلس الاعلى اخيرا بغرفتين: غرفة الاحوال الشخصية والغرفة الاجتماعية(19).

ويتعلق الامر بحق الشريك الحاضر بالبلد في الشفعة داخل سنة من تاريخ علمه بالبيع، وان ادعى انه غير عامل فالقول المشهور انه مصدق  بيمينه ولو بعد خمس عشرة سنة، و لهذا قال الشيخ خليل وصدق ان انكر علمه.

والقول غير المشهور لجماعة من فقهاء المذهب كابن عبد الحكم وكابن المواز والباجي وابن رشد والفشتالي - ان الشريك الحاضر يصدق بيمينه في مدة لا تزيد على اربع سنوات لان العمل بالقول المشهور يشكل ضررا كبيرا للمشتري اذ يبعد ان لا يحصل العلم بظهور شريك جديد في العقار المشاع طول مدة خمس عشرة سنة في العصر الحاضر، ولهذا راى المجلس الاعلى تقييد قول خليل وصدق ان انكر علمه بما قال به هؤلاء الفقهاء بحيث يقضي لقائم بيمينه ان طلب الشفعة خارج السنة وانكر علمه داخل اربع سنوات فقط. وقول هؤلاء الفقهاء اصبح بهذا العمل واجب التطبيق تعرض مخالفته للنقض لانه قانون داخلي.

الخلاصة
وخلاصة القول في العمل القضائي بين القديم والحديث ان فيه نظريات ثلاث:
نظرية القانون الانجليزي.
نظرية القانون الفرنسي ومثله القانون المغربي.
نظرية الفقه المالكي.

فنظرية القانون الانجليزي هي ان العمل القضائي يكون القاعدة القانونية الملزمة لمحكمة النقض وللمحاكم التي دونها ولا يمكن تغييرها الا بنص قانوني.

ونظرية القانون الفرنسي والمغربي ان العمل القضائي مصدر استئناس وتفسير، ولا يلزم محكمة النقض ولا المحاكم التي دونها الا في النقطة التي بتت فيها محكمة النقض وفسرتها فانها تلزم محكمة الاحالة وحدها.

اما نظرية الفقه المالكي المتاخر فان العمل القضائي لا قيمة له في ذاته وانما القيمة للقول الضعيف او الشاذ اذا جرى به العمل، ففي الفقه المالكي لا يعتبر العمل مصدرا للقاعدة ولا مصدر استئناس لفهم القاعدة ولكن العمل بقول من اقوال فقهاء المذهب يجعله واجب التطبيق وان كان هناك قول راجح او مشهور ولاجل هذا يمكن الطعن بالنقض بخرق القول الذي جرى به العمل لانه من القانون الداخلي للبلاد في النزاعات التي يجب فيها تطبيق الفقه المالكي ولهذا فالقرار الذي اصدره المجلس الاعلى اصبح واجب التطبيق ومخالفته معرضة للنقض.

وهكذا فالعمل القضائي لا يكون في نفسه قاعدة في الفقه المالكي ولا في القانون الفرنسي والمغربي وانما يكون القاعدة في القانون الانجليزي، فلنسر في قضائنا نحن في المغرب على هدى الفقه المالكي فيما يطبق فيه الفقه المالكي وعلى مقتضى القانون فيما يطبق فيه القانون، حتى لا نعرض عدالتنا الى العمل بالراي والراي يختلف من شخص الى اخر وبهذا قد تضيع حقوق الاخرين.

هوامش البحث
(1) قرار المجلس الاعلى عدد 2722 بتاريخ 16/12/1987 في الملف عدد 2992 وقرار عدد 2142 بتاريخ 7/10/1987 في الملف المدني عدد 96428 وقرار عدد 781 بتاريخ 19/3/1986 في الملف المدني عدد 97480.
(2) قرار المجلس الاعلى عدد 47 بتاريخ 27/2/1986 في الملف المدني عدد 91862 منشور في مجلة القضاء والقانون عدد 127.
(3) نظرية القانون للدكتور عبد الفتاح ص 47
(4) قرار المجلس الاعلى عدد 574 بتاريخ 12/10/1977 في الملف المدني عدد 57357.
وقد صدر قرار من المجلس مناقض لمقتضى القرار السابق رغم انه من نفس الهيئة وذلك بتاريخ 25/1/1978 عدد 21 في الملف المدني 62630
(5) قرار رقم 354 ( الغرفة الادارية) بتاريخ 4/11/1977 في الملف المدني عدد 59793. ( مجلة القضاء والقانون عدد 128).
(6) قرار المجلس الاعلى عدد 2127 بتاريخ 24/9/1986 في الملف المدني عدد 95783.
(7) قرار المجلس الاعلى عدد 1545 بتاريخ 25/7/1984 في الملف المدني عدد 90376.
وقرار اخر عدد 2219 بتاريخ 21/11/1984 في الملف المدني عدد 75300 واخر عدد 517 بتاريخ 27/2/1985 في الملف المدني عدد 89495.
واخر عدد 542 بتاريخ 26/2/1968 في الملف المدني عدد 97416.
(8) دراسة للسيد بوركي المساعد الفني لدى المحكمة الاقليمية سابقا بالدار البيضاء منشورة في مجلة المحاكم المغربية عدد 2 ابريل1968.
قرار المجلس الاعلى عدد 262 بتاريخ 11/11/1983 في الملف الاداري عدد 74720 منشور في قضاء المجلس الاعلى عدد 35 ص 171.
(9) قرار المجلس الاعلى عدد 333 بتاريخ 13/11/1981 في الملف المدني عدد 59447.
(10) أستاذنا الدكتورة عبد الفتاح في نظرية القانون ص231.
(11) نظرية القانون صحيفة 144.
(12) نظرية القانون صحيفة 44.
(13) نظرية القانون صحيفة 172.
(14) نظرية القانون صحيفة 217.
(15) نظرية القانون صحيفة229.
(16) نظرية القانون صحيفة225.
(17) المعيار للونشريسي الجزء 10 صحيفة 47.
(18) حاشية شيخنا ابي الشتاء الغازي الصنهاجي وحاشية المهدي الوزاني على شرح لامية الزقاق عند ذكر المسائل التي جرى بها العمل بفاس.
(19) قرار عدد 415 بتاريخ 18 مارس 1986 منشور بمجلة القضاء والقانون عدد 139.

* مجلة المحاكم المغربية عدد، 61، ص 29.

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : قضايا الكراء