-->

قرار النيابة العامة المصرية بعدم متابعة الدكتور طه حسين في قضية كتاب "في الشعر الجاهلي" ( سنة 1926)



نشرت احدى المجلات الادبية منذ شهر، نصا تاريخيا  يجمع  بين  الطابع  الادبي  و القانوني  معا ،  هو قرار  النيابة العامة المصرية الصادر بتاريخ 30 مارس1927، بعدم متابعة الراحل الدكتور طه حسين فيما نسب اليه بسبب كتابه ( في الشعر الجاهلي) الذي اثار عليه الضجة التاريخية المشهورة، التي ادت الى مخاصمته قضائيا باتهامه بالاساءة الى الإسلام وقرآنه  ونبيه، بما ورد من كلام وآراء لم يجهر بها مسلم قبله.

وليست هذه المرة الاولى التي يظهر فيها هذا النص، لانه سبق ان اطلع عليه القراء في بعض الكتب  التي  ارخت  للموضوع ، وكذا بعض المجلات التي بادرت الى نشره منذ سنوات. ويبدو انه اصبح عادة جارية ان تقوم وسائل الاعلام بنشره كلما انشغل الراي العام بقضية من نوع  ما اثاره  كتاب ( الشعر الجاهلي).

والواقع ان من حق او من واجب المجلات القانونية ان يكون لها اهتمام بهذا النص، وان تبادر الى نشره لتكون من مظانه التي يجد فيها دارس القانون باعتباره انه وثيقة قانونية،ومن هنا جاءت المناسبة لادراجه في هذا العدد من المجلة، ليطلع عليه القراء وتكون مرجعا فيه، لمن يريد ان يبحث القضية.
وقبل فسح المجال للقارئ للاطلاع على هذا النص، نرى من المفيد ان نقدم له بتحليل، يكشف عن بعض معانيه ومغازيه التي لا تخفى.

فاذا كان السبب الحامل لبعض  المجلات  التي تبادر الى نشره من حين لحين بمناسبة مماثلة لمناسبته هو الانتصار لمؤلف ( في الشعر الجاهلي) واثبات براءته مما نسب اليه، فان من يقرأ نص قرار  عدم  متابعته  سيتضح  له  ان  مصدره  لم  يقصر في نقده والكشف عن تهوره، فيما كتبه والاسلوب الذي استعمله، والمنهج الذي اتبعه، وتقليده لبعض الذين سبقوه الى ذلك، من المستشرقين والمبشرين، بقدر اثبت به وجود الركن المادي للمتابعة كله، بحيث انحصرت علة منطوق القرار بعدم المتابعة، في انتفاء الركن المعنوي او القصد الجنائي ليس الا !
وحتى هذا التعليل يبدو غير منسجم مع ما ابرزه رئيس النيابة مصدرا القرار، من وقائع وما علق به عليها من كلام صريح، في نقده ونقد تهوره في ذلك.

ومن المفيد ان نأتي ببعض الامثلة التي منها قوله ان المؤلف " تطرق في بحثه الى مسائل في غاية الخطورة، صدم بها الأمة الإسلامية، في اعز ما لديها من الشعور، ولوث نفسه بما تناوله من البحث في هذا السبيل،  بغير فائدة وقوله على اننا نلاحظ ايضا على انه لم يكن دقيقا في بحثه، هو ذلك الرجل الذي يتشدد كل التشدد في التمسك بطرق البحث. وقوله ان المؤلف دأب في كل ابحاثه، على ارتكاب خطا، حيث يبدا بافتراض  يتخيله ثم ينتهي بان يرتب عليه قواعد كانها حقائق ثابتة".

وكان اخطر قدح رماه به، هو اتهامه عن دليل، بانه قلد في بعض آرائه الطاعنة في الدين احد المبشرين، الذي سبقه الى الفكرة، وان العبارة التي استعملها هذا المبشر كانت اظرف من العبارات الجارحة الواردة في كتاب الدكتور طه حسين "لانه لم يتعرض للشك في وجود ابراهيم واسماعيل بالذات، وانما اكتفى بان أنكر ان اسماعيل ابو العرب العدنانيين، كما نلاحظ ايضا ان ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل لان وظيفته التبشير لدينه .. ولكن ما عذر المؤلف في طرق هذا الباب ..) وكان من ذلك ايضا انه اثبت عليه انه" تكلم فيما يختص باسرة النبي ص ونسبه في قريش، بعبارة خالية من كل احترام بل وبشكل تهكمي غير لائق …).

واذا اردنا ان نخرج بكلمة نوجز بها محتوى القرار ومعناه، فهي اولا: ان كتاب ( في الشعر الجاهلي) كان نزوة طائشة من مؤلفه مسببة عن الاستلاب الذي اصبح مرضا لدى البعض، وصل بهم الى التزلف الى اوربا الغالبة، بتبني ارائها التحقيرية للشرق المغلوب، ولو ادى ذلك الى صدم الامة الاسلامية في اعز ما لديها، كما سجل رئيس النيابة العامة وثانيا : فان القرار ينطوي على " محكمة ادبية" للمؤلف، زيادة عن " المحاكمة الجنائية". وانه اذا كان قد انتهى الى عدم المتابعة جنائيا، فانه ينطوي، بما سجله على المؤلف من مؤاخذات، على ادانة ادبية، اظن انها اقسى من كل ادانة غيرها.
ذ احمد باكو

نص القرار
نحن محمد نور، رئيس نيابة مصر
من حيث انه بتاريخ 30 مايو سنة 1926 تقدم بلاغ من الشيخ خليل حسنين، الطالب بالقسم العالي بالازهر، لسعادة النائب العمومي، يتهم فيه الدكتور طه حسين، الاستاذ بالجامعة المصرية، بانه الف كتابا اسماه " في الشعر الجاهلي"  ونشره على الجمهور وفي هذا الكتاب طعن في القران العظيم، حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم، الى اخر ما ذكره في بلاغه.

وبتاريخ 5 يونيو1926، ارسل فضيلة شيخ جامع الازهر، لسعادة النائب العمومي، خطابا يبلغ به تقريرا رفعه علماء الجامع الازهر، عن كتاب الفه طه حسين، المدرس بالجامعة المصرية اسماه " في الشعر الجاهلي" كذب فيه القران صراحة، وطعن فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى نسبه الشريف، واهاج بذلك ثائرة المتدينين، واتى فيه بما يخل بالنظم العامة، ويدعو الناس للفوضى، وطلب اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجعة ضد هذا الطعن، على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحاكمة، وقد ارفق بهذا البلاغ، صورة من تقرير اصحاب الفضيلة العلماء، الذي اشار اليه في كتابه. وبتاريخ 14 سبتمبر سنة 1926 تقدم الينا بلاغ اخر من حضرة "عبد الحميد البنان" أفندي عضو مجلس النواب ذكر فيه ان الاستاذ  طه حسين، المدرس بالجامعة المصرية، نشر ووزع وعرض للبيع، في المحافل والمحلات العمومية كتابا اسماه " في الشعر الجاهلي" طعن وتعدى فيه على الدين الاسلامي - وهو دين الدولة - بعبارات صريحة واردة في كتابه سنبينه في التحقيقات.

وحيث انه نظرا لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصري، قد أرجأنا التحقيق الى ما بعد عودته، فلما عاد بدانا التحقيق بتاريخ 19 اكتوبر سنة 1926، فاخذنا اقوال المبلغين جملة بالكيفية المذكورة بمحضر التحقيق، ثم استجوابنا المؤلف. وبعد ذلك اخذنا في دراسة الموضوع بقدر ما سمحت لنا الحالة.
وحيث انه اتضح من اقوال المبلغين، انهم ينسبون للمؤلف انه طعن على الدين الاسلامي في مواضع اربعة من كتابه :
الاول : ان المؤلف اهان الدين الاسلامي،  بتكذيب القران في اخباره عن ابراهيم واسماعيل، حيث ذكر في ص 26 من كتابه " للتوراة ان  تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل، وللقرآن ان يحدثنا عنهما ايضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقران،  لا يكفي لاثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن اثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم الى مكة، ونشاة العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون الى ان نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في اثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الاسلام واليهود والقرآن والتوراة من جهة اخرى الى اخر ما جاء في هذا الصدد.

الثاني : ما تعرض له المؤلف، في شان القراءات السبع المجمع عليها، والثابتة لدى المسلمين جميعا وانه في كلامه عنها يزعم عدم انزالها من عند الله، وان هذه القراءات، انما قرأتها العرب حسب ما استطاعت، لا كما اوحى الله بها الى نبيه، مع ان معاشر المسلمين، يعتقدون ان كل هذه القراءات مروية عن الله تعالى، على لسان النبي صل الله عليه وسلم.

الثالث : ينسبون للمؤلف، انه طعن في كتابه على النبي صلى الله عليه وسلم طعنا فاحشا، من حيث نسبه فقال في ص 72 من كتابه " ونوع اخر من تاثير الدين في انتحال الشعر وإضافته الى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شان النبي من ناحية أسرته ونسبه الى قريش، فلأمر من اقتنع الناس بان النبي يجب ان يكون صفوة بني هاشم، وان يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وان يكون عبد مناف صفوة بني قصى وان تكون قصى صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها". وقالوا ان تعدي المؤلف بالتعريض بنسب النبي صلى الله عليه وسلم، والتحقير من قدره، تعد على الدين وجرم عظيم يسئ الى المسلمين والإسلام، فهو قد اجترأ على امر لم يسبقه اليه كافر ولا مشرك.

الرابع : ان الأستاذ المؤلف انكر ان للإسلام أولية في بلاد العرب، وانه دين ابراهيم اذ يقول في ص 80 : "اما المسلمون فقد ارادوا ان يثبتوا ان للإسلام أولية في بلاد العرب، كانت قبل ان يبعث النبي، وان خلاصة الدين الاسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق، الذي اوحاه الله الى الانبياء من قبل" .. الى ان قال في ص 81 "وشاعت في العرب اثناء ظهور الاسلام وبعده، فكرة ان الاسلام يجدد دين ابراهيم ومن هنا اخذوا يعتقدون، ان دين ابراهيم هذا، قد كان دين العرب في عصر من العصور، ثم اعرضت عنه يعتقدون، ان دين ابراهيم هذا، قد كان دين العرب في عصر من العصور، ثم اعرض عنه لما اضلها به المضلون، وانصرفت الى عبادة الاوثان" … الى اخر ما ذكر في هذا الموضوع.

ومن حيث ان العبارات التي يقول المبلغون ان فيها طعنا على الدين الاسلامي، انما جاءت في كتاب في سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي الف من اجله، فلا جل الفصل في هذه الشكوى، لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر اليها منفصلة، وانما الواجب توصل الى تقديرها تقديرا صحيحا، بحثها حيث هي في موضوعا من الكتاب، ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه،  وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها، وتقدير مسؤوليته تقديرا صحيحا.

عن الامر الاول
من حيث انه ما يلفت النظر ويستحق البحث في كتاب " في الشعر الجاهلي" من  حيث علاقته بموضوع هذه الشكوى، انما هو ما تناوله المؤلف بالبحث في الفصل الرابع تحت عنوان " الشعر الجاهلي واللغة"، من ص24 الى ص30.
ومن حيث ان المؤلف بعد ان تكلم في الفصل الثالث من كتابه، على ان الشعر المقال بانه جاهلي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين، واراد في الفصل الرابع، ان يقدم ابلغ ما لديه من الادلة، على عدم التسليم بصحة الكثرة المطلقة  من الشعر، فقال ان هذا الشعر بعيد كل البعد، على ان يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة انه قيل فيه.

وحيث  ان المؤلف اراد ان يدلل على صحة هذه النظرية، فراى بحق من الواجب عليه، ان يبدا بتعرف اللغة الجاهلية فقال: " ولنجتهد في تعريف اللغة الجاهلية هذه، ما هي او ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة ان شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه، وقد اخذ في بحث هذا الامر فقال ان الراي الذي اتفق عليه الرواة او كادوا يتفقون عليه، هو ان العرب ينقسمون الى قسمين: قحطانية منازلهم الاولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الاولى في الحجاز، وهم متفقون على ان القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على اللغة العربي فهم العاربة، وعلى ان العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابا، كانوا يتكلمون لغة اخرى هي العبرانية او الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الاولى من صدورهم، وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة، وهم متفقون على ان هذه العدنانية المستعربة انما يتصل نسبها باسماعيل بن ابراهيم، وهم يروون حديثا يتخذونه اساسا لكل هذه النظرية خلاصته ان اول من تكلم العربية ونسي لغة ابيه هو اسماعيل بن ابراهيم. وبعد ان فرغ من تقرير ما اتفق عليه الرواة في هذه النقطة قال: ان الرواة يتفقون ايضا على شيء اخر، وهو ان هناك خلافا قويا بين لغة حمير وبين لغة عدنان مستندا الى ما روي عن ابي عمر بن العلاء من انه كان يقول : " ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا"، وعلى ان البحث الحديث، قد اثبت خلافا جوهريا، بين اللغة التي كان يصطنعها الناس، في جنوب البلاد العربية، واللغة التي كانوا يصطنعونها، في شمال هذه البلاد، واشار الى وجود نقوش ونصوص، تثبت هذا الخلاف في اللفظ، وفي قواعد النحو والتصريف، بعد ذلك حاول المؤلف حل هذه المسالة سؤال إنكاري فقال: اذا كان ابناء اسماعيل قد تعلموا العربية من العرب العاربة فكيف بعد ما بين اللغتين لغة العرب العاربة ولغة العرب المستعربة، ثم قال انه واضح جدا لمن له إلمام بالبحث التاريخي عامة ويدرس الأقاصيص والاساطير خاصة، ان هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متاخرة،  دعت اليها حاجة دينية او اقتصادية او سياسية.

ثم قال بعد ذلك: " للتوراة ان تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل، وللقرآن ان يحدثنا ايضا عنهما، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقران، لا يكفي لاثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن اثبات هذه القصة التي تحدث بهجرة اسماعيل بن ابراهيم الى مكة، ونشاة العرب المستعربة فيها". وظاهر من ايراد المؤلف هذه العبارة ان يعطي دليله شيئا من القوة بطريقة التشكك في وجود ابراهيم واسماعيل التاريخي وهو يرمي بهذا القول انه ما ما دام اسماعيل وهو الاصل في نظرية العرب العاربة والعرب المستعربة مشكوكا في وجوده التاريخي، فمن باب اولى، ما ترتب على وجوده مما يرويه الرواة اراد المؤلف ان يوهم بان لرأيه اساسا  فقال: " ونحن مضطرون الى ان نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة، في اثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الاسلام واليهودية والقران والتوراة من جهة اخرى". ثم اخذ يبسط الاسباب التي يظن انها تبرر هذه الحيلة الى ان قال : الامر هذه القصة اذن واضح فهي حديثة العهد، ظهرت قبيل الاسلام واستغلها الاسلام بسبب ديني وسياسي ايضا، واذن فيستطيع التاريخ الادبي واللغوي الا يحفل بها  عندما يريد ان يتعرف اصل اللغة الفصحى، واذن فنستطيع ان نقول ان الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية، واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن انما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي  لغة اخرى من اللغات السامية المعروفة، وان قصة العاربة والمستعربة، وتعلم اسماعيل العربية من جرهم كل ذلك احاديث اساطير لا خطر له ولا  غناء فيه … وهنا يجب ان نلاحظ على الدكتور المؤلف الكتاب "1" انه خرج من بحثه هذا عاجزا كل العجز عن أن يصل الى غرضه، الذي عقد هذا الفصل من اجله، وبيان ذلك انه وضع في اول الفصل سؤالا وحاول الاجابة عليه، وجواب هذا السؤال في الواقع، هو الاساس الذي يجب ان يرتكز عليه في التدليل على صحة رايه، هو يريد ان يدلل  على ان الشعر الجاهلي، بعيد كل البعد ان يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة انه قيل فيه، وبديهي انه للوصول الى هذا الغرض يتعين على الباحث تحضير ثلاثة امور:
1- الشعر الذي يريد ان يبرهن على انه منسوب بغير حق للجاهلية.
2- الوقت الذي يزعم الرواة انه قيل فيه.
3- اللغة التي كانت موجودة فعلا في الوقت المذكور.

وبعد ان تتهيأ له هذه المواد يجري عملية المقارنة، فيوضح الاختلافات الجوهرية بين لغة الشعر وبين لغة الزمن الذي روي انه قيل فيه. ويستخرج بهذه الطريقة الدليل على صحة ما يدعيه. لذا تتضح اهمية السؤال الذي وضعه بقوله : " لنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه، ما هي،  او ما اذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة، ان شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه". وتتضح اهمية الاجابة عنه.

ولكن الاستاذ المؤلف وضع السؤال، وحاول الاجابة عنه وتطرق في بحثه الى الكلام، على مسائل في غاية الخطورة صدم بها الامة الاسلامية في اعز ما لديها من الشعور، ولوث نفسه بما تناوله من البحث في هذا السبيل بغير فائدة ولم يوفق الى الاجابة بل قد خرج من البحث بغير جواب اللهم الا قوله : " ان الصلة بين اللغة العدنانية وبين اللغة القحطانية، انما هي كالصلة بين اللغة العربية واي لغة اخرى  من اللغات السامية المعروفة". وبديهي ان ما وصل اليه ليس جوابا عن السؤال الذي وضعه، وقد نوقش في التحقيق في هذه المسالة، فلم يستطع رد هذا الاعتراض، ولا يمكن الاقتناع بما ذكره في التحقيق، من انه كتب الكتاب للأخصائيين من المستشرقين بنوع خاص، وان تعريف هاتين اللغتين عند الاخصائيين واضح لا يحتاج الى ان يذكر، لانه قوله هذا عجز عن  الجواب، كما ان قوله ان اللغة الجاهلية في رأيه وراي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان، لا يمكن ان يكون جوابا عن السؤال الذي وضعه لان غرضه من السؤال واضح في كتابه اذ قال : " ولنجتهد في  تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي". وقد كان قرر قبل ذلك : " فنحن اذا ذكرنا اللغة العربية، نريد بها معناها الدقيق المحدود، الذي نجده في المعاجم، حيث نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه، نريد بها الالفاظ من حيث هي الفاظ، تدل على معانيها تستعمل حقيقة مرة ومجازا مرة اخرى، وتتطلب تطورا ملائما لمقتضيات الحياة، التي يحياها اصحاب هذه اللغة فبعد ان حدد هو بنفسه معنى اللغة الذي يريده، فلا يمكن ان يقبل منه ما اجاب به من أن مراده ان اللغة لغتان بدون ان يتعرف على واحدة منهما.

فالمؤلف اذن في واحدة من اثنتين: اما ان يكون عاجزا واما ان يكون سيئ النية، بحيث قد جعل هذا البحث ستارا ليصل بواسطته الى الكلام في تلك المسائل الخطيرة، التي تكلم عنها في هذا الفصل، وسنتكلم فيما بعد عن هذه النقطة عند الكلام على القصد الجنائي.

2- انه استدل على عدم صحة النظرية التي رواها الرواة وهي تقسيم العرب الى عاربة ومستعربة وتعلم اسماعيل العربية من جرهم، بافتراض وضعه في صيغة سؤال إنكاري. اذا كان ابناء اسماعيل قد تعلموا العربية، من اولئك العرب الذين نسميهم العاربة، فكيف بعد ما بين اللغة التي كان يصطنعا العرب العاربة، واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة. يريد المؤلف بهذا ان يقول، لو كانت نظرية تعلم إسماعيل وأولاده العربية من جرهم صحيحة، لوجب ان تكون لغة المتعلم كلغة المعلم. وهذا الاعتراض وجيه في ذاته، ولكنه لا يفيد المؤلف في التدليل على صحة رايه، لانه نسي امرا مهما، يقصد بلغة عدنان التي كانت موجودة وقت نزول القرآن، لانه يرى من الاحتياط العلمي ان يقرر ان أقدم نص عربي للغة العدنانية هو القرآن، وهو يعلم ان حمير اخر دول العرب القحطانية، وقد مضى من وقت وجود اسماعيل، الى وقت وجود حمير، زمن طويل جدا، أي انه قد انقضى من الوقت الذي يروى ان اسماعيل تعلم فيه اللغة العربية من جرهم.

الى الوقت الذي اختاره المؤلف للمقارنة بين اللغتين، زمن يتعذر تحديده، ولكنه على كل حال زمن طويل جدا، لا يقل عن عشرين قرنا، فهل يريد المؤلف مع هذا ان يتخذ الاختلافات التي بين اللغتين، دليلا على  عدم صحة نظرية الرواة، غير حاسب حسابا، للتطور الواجب حصوله في اللغة بسبب مضي هذا الزمن الطويل، وما يستدعيه توالي العصور، من تتابع الحوادث واختلاف الظروف. ان الاستاذ قد اخطا في استنتاجه بغير شك ونستطيع اذن ان نقول، ان استنتاجه لا يصلح دليلا على فساد نظرية الرواة التي يريد ان يهدمها وانه اذا ما ثبت وجود اختلاف مهما كان مداه، بين اللغتين، فان هذا لا ينفي صحة الرواية، التي يرويها الرواة، من حيث تعلم اسماعيل العربية من جرهم، ولا يضيرها ان الاستاذ المؤلف، ينكرها بغير دليل، لان طريقة الانكار والتشكك بغير دليل، طريقة سهلة جدا، في متناول كل انسان عالما كان او جاهلا.

على اننا نلاحظ ايضا على المؤلف، انه لم يكن دقيقا في بحثه، وهو ذلك الرجل الذي يتشدد كل التشدد، في التمسك بطرق البحث عن امرين، الاول ما وري عن ابي عمرو بن العلاء من انه كان يقول، " ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا" والثاني قوله : "ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من اثبات هذا الخلاف في اللفظ، وفي قواعد النحو والتصريف ايضا".

اما عن الدليل الاول فان ما رواه ابو عبد الله بن سلام الجمحي مؤلف طبقات الشعراء عن ابي عمرو بن العلاء " ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا". وقد يكون للمؤلف مأرب من وراء تغيير هذا النص، على ان الذي نريد ان نلاحظه هو ان ابن سلام ذكر قبيل هذه الرواية في الصفحة نفسها ما ياتي :
واخبرني يونس عن ابي عمر قال : " العرب كلها ولد اسماعيل الا حمير وبقايا جرهم ".  - راجع ص 8 من كتاب طبقات الشعراء طبعة مطبعة السعادة - فواجب على المؤلف اذن وقد اعتمد صحة العبارة الاولى ان يسلم ايضا بصحة العبارة الثانية، لان الراوي واحد والمروي عنه واحد. وتكون نتيجة ذلك انه فسر ما اعتمد عليه  من اقوال ابي عمرو بن العلاء بغير ما اراده بل فسره بعكس ما اراده ويتعين اسقاط  هذا الدليل.
واما عن الدليل الثاني،  فان المؤلف لم يتكلم عنه باكثر من قوله : " ولدينا الان نقوش ونصوص، تمكننا من اثبات هذا الخلاف". فأردنا عند استجوابه ان نستوضحه ما اجمل فعجز، وليس ادل على هذا العجز من ان نذكر هنا ما دار في التحقيق من المناقشة بشان هذه المسالة.

س - هل يمكن لحضرتكم الان تعريف اللغة الجاهلية الفصحى وعلى لغة حمير وبيان الفرق بين لغة حمير ولغة عدنان ومدى هذا الفرق وذكر بعض امثلة تساعدنا على فهم ذلك ؟ 
ج - قلت ان اللغة الجاهلية في رايي وراي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان على الاقل، اولهما لغة حمير وهذه اللغة قد درست ووضعت لها قواعد النحو والصرف والمعاجم ولم يكن شيء من هذا معروف قبل الاكتشافات الحديثة، وهي كما قلت مخالفة للغة العربية الفصحى التي سألتم عنها مخالفة جوهرية في اللفظ والنحو وقواعد الصرف، وهي الى اللغة الى اللغة الحبشية القديمة اقرب منها الى اللغة العربية الفصحى، وليس من شك في ان الصلة بينهما وبين لغة القرآن، والشعر كالصلة بين السريانية وبين هذه اللغة القرآنية، فاما ايراد النصوص والامثلة فيحتاج الى ذاكرة لم يهبها الله لي، ولا بد من الرجوع الى الكتب المدونة في هذه اللغة.

س - هل يمكن لحضرتكم ان تبينوا لنا هذه المراجع او تقدموها لنا ؟
ج - انا لا اقدم شيئا
س - هل يمكن لحضرتكم ان تبينوا الى أي وقت كانت موجودة اللغة الحميرية ومبدا وجودها ان أمكن؟
ج- مبدا وجودها ليس من السهل تحديده ولكن لا شك في انها كانت معروفة تكتب قبل القرن الاول للمسيح وظلت تتكلم الى ما بعد الاسلام، ولكن ظهور الاسلام وسيادة اللغة القرشية قد محيا ( محوا) هذه اللغة شيئا فشيئا كما  محيا ( محوا) غيرها من اللغات المختلفة في البلاد العربية وغير العربية وأقرا مكانها لغة القران.

س - هل يمكن لحضرتكم ايضا ان تذكروا لنا مبدا اللغة العدنانية ولو بوجه التقريب ؟
ج - ليس من السهل معرفة مبدا اللغة العدنانية، وكل ما يمكن ان يقال بطريقة عملية، هو ان لدينا نقوشا قليلة جدا، يرجع عهدها الى القرن الرابع للميلاد،  وهذه نقوش قريبة من اللغة العدنانية، ولكن المستشرقين يرون انها لهجة قبطية، واذن فقد يكون من احتياط العلم، ان نرى اقدم نص عربي يمكن الاعتماد عليه من الوجهة العلمية الى الان انما هو القرآن، حتى نستكشف نقوشا اظهر واكثر مما لدينا.

س - هل تعتقدون حضرتكم ان اللغة سواء كانت اللغة الحميرية او اللغة العدنانية كانت باقية على حالها من وقت نشاتها، او حصل فيها تغيير بسبب تمادي الزمن والاختلاط؟
ج - ما اظن ان لغة من اللغات تستطيع ان تبقى قرونا دون ان تتطور ويحصل فيها التغيير الكثير.

ونحن مع هذا لا نريد ان ننفي وجود اختلاف بين اللغتين ولا نقصد ان نعيب على المؤلف جهله بهذه الامور فانها في الحقيقة ما زالت من المجاهل، وما وصل اليه المستشرقون من الاستكشافات لا ينير الطريق، وان ما نريد ان نسجله عليه هو انه بنى احكامه على اساس ما زال مجهولا، اذ انه يقرر بجرأة في اخر الفصل الذي نتكلم بشانه، " والنتيجة لهذا البحث كله تردنا الى الموضوع الذي ابتدانا به منذ حين، وهو ان هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي، لا يمثل اللغة الجاهلية، ولا يمكن ان يكون صحيحا، ذلك لاننا نجد بين هؤلاء الشعراء، الذين يضيفون اليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون الى عرب اليمن، الى هذه القحطانية العارية التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن، والتي كان يقول عنها ابو عمرو بن العلاء ان لغتنا مخالفة للغة العرب، والتي اثبت البحث الحديث، انها لغة اخرى  غير اللغة العربية - فمتى قال ابو عمرو بن العلاء انها لغة مخالفة للغة العرب. لقد اشرنا الى التغيير الذي احدثه المؤلف فيما روى عن ابي عمرو، حيث حذف من روايته. " وقلنا قد يكون للمؤلف مآرب من وراء هذا التغيير، فهذا هو مأربه، ان الاستاذ حرف في الرواية عمدا ليصل الى تقرير هذه النتيجة".

ويقول المؤلف ايضا،  والتي اثبت البحث الحديث ان لها لغة اخرى غير اللغة العربية - وقد ابنا فيما سلف انه عجز في اثبات هذه المسالة عن اثبات ما يدعيه - ومن الغريب انه عندما بدا البحث اكتفى بان قال، ولدينا الان نقوش ونصوص، تمكننا من اثبات هذا الخلاف، في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف ايضا، ولكنه انتهى بان قرر بان البحث الحديث، اثبت ان لها لغة اخرى غير اللغة العربية !!!

قرر الاستاذ في التحقيق، انه لا شك في ان اللغة الحميرية، ظلت تتكلم الى ما بعد الاسلام، فان كانت هذه اللغة هي لغة اخرى غير اللغة العربية، كما يوهم انه انتهى به بحثه فهل له ان يفهمنا كيف استطاع عرب اليمن فهم القرآن وحفظه وتلاوته ؟
نحن نسلم بان لابد من وجود اختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان، بل نقول انه لابد من وجود شيء من الاختلافات، بين بعض القبائل، وبين البعض الاخر، ممن يتكلمون لغة واحدة من اللغتين المذكورتين، ولكنها على كل حال، اختلافات لا تخرجها عن العربية وهذه  الاختلافات، هي التي قصدها ابو عمرو بن العلاء بقوله: " ما لسان حمير بلساننا" والمؤلف لا يستطيع ان ينكر الاختلاط الذي لابد منه بين القبائل المختلفة خصوصا في امة متنقلة بطبيعتها كالامة العربية، ولا بد لها جميعا من لغة عامة، تتفاهم بها هي اللغة الادبية، وقد اشار هو بنفسه اليها في ص 17 من كتابه، حيث قال عن القرآن:
" ولكنه كان كتابا عربيا، لغته هي اللغة العربية الادبية، التي كان يصطنعها الناس في عصره، أي في العصر الجاهلي".
وهذه الادبية، هي لغة الكتابة ولغة الشعر، والمؤلف نفسه عندما تكلم في الفصل الخامس عشر عن الشعر الجاهلي واللهجات، بحث في ص 35 و36 و37 بحثا يؤيد هذا المعنى، وان كان يدعي بغير دليل، ان الاسلام قد فرض على العرب جميعا لغة عامة واحدة، هي لغة قريش، مع انه سبق ان ذكر في ص 17 ان لغة القران هي اللغة العربية الادبية التي كانت يصطنعها الناس في عصره، أي في العصر الجاهلي، فلم لا تكون لهذه اللهجة الادبية السيادة العامة من قبل نزول القران بزمن طويل، وكيف يستطيع هو هذا التحديد وعلام يستند؟.

يتضح مما تقدم ان عدم ظهور خلاف في اللغة لا يدل في ذاته حتما على عدم صحة الشعر، ونحن لا نريد بما قدمنا ان نتولى الدفاع عن صحة الشعر الجاهلي، اذ ان هذه المسالة ليست حديثة العهد ابتدعها المؤلف، وانما هي مسالة قديمة قررها اهل الفن والشعر كما قال " ابن السلام"، صناعة وثقافة، يعرفها اهل العلم، كسائر اصناف العلم والصناعات، وهو يحتاج في تمييزه الى خبير كاللؤلؤ والياقوت، لا يعرف بصنعة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره - ولكن الذي نريد ان نشير اليه، انما هو الخطا الذي اعتاد ان يرتكبه المؤلف في ابحاثه، حيث يبدا بافتراض يتخيله،  ثم ينتهي بان يرتب عليه قواعد كانها حقائق ثابتة، كما فعل في امر الاختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان ثم في مسالة ابراهيم واسماعيل وهجرتهما الى مكة وبناء الكعبة اذ بدا فيها باظهار الشك ثم انتهى باليقين بدا بقوله :" للتوراة ان تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل، وللقرآن ان يحدثنا عنهم ايضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقران لا  يكفي لاثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن اثبات هذه القصة، التي تحدثنا بهجرة اسماعيل ابن ابراهيم الى مكة، ونشاة العرب المستعربة فيها". الى  هنا اظهر الشك لعدم قيام الدليل التاريخي في نظره، كما تتطلبه الطرق الحديثة، ثم انتهى بان قرر في كثير من الصراحة: ان ضعف هذه القصة اذن واضح، فهي حديثة العهد، ظهرت قبل الاسلام واستغلها الاسلام لسبب ديني … الخ.. فما هو الدليل الذي انتقل به من الشك الى اليقين ؟

هل دليله هو قوله " نحن مضطرون، الى ان نرى في هذه القصة، نوعا من الحيلة في اثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، و بين الاسلام واليهودية والقران والتوراة من جهة اخرى ؟ وان اقدم عصر يمكن ان تكون قد نشات فيه هذه الفكرة، انما هو ذلك العصر، الذي اخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية، ويبنون فيه المستعمرات … الخ - وان ظهور الاسلام وما كان من الخصومة بينه وبين وثنية العرب، من غير اهل الكتاب، قد اقتضى ان نثبت الصلة بين المدن الجديدة، وبين ديانتي النصارى واليهود، وانه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن ان تؤيدها صلة مادية … الخ.

اذا كان الاستاذ المؤلف يرى ان ظهور الاسلام، قد  اقتضى ان تثبت الصلة بينه وبين ديانتي اليهود والنصارى، وان القرابة المادية الملفقة بين العرب وبين اليهود، لازمة لاثبات الصلة بين الاسلام وبين اليهودية فاستغلها لهذا الغرض، فهل له ان بين السبب في عدم اهتمامه ايضا بمثل هذه الحيلة لتوثيق الصلة بين الاسلام وبين النصرانية ؟ وهل عدم اهتمامه هذا، معناه عجزه او استهانته بامر النصرانية، وهل من يريد توثيق الصلة مع اليهود باي ثمن، حتى باستغلال التلفيق، هو الذي يقول عنهم في القران : { لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا }. ان الاستاذ ليعجز حقا عن تقديم هذا البيان، اذ ان كل ما ذكره في هذه المسالة، اما هو خيال في خيال وكل ما استند اليه من الادلة هو :
1- فليس ببعيد ان يكون …
2- فما الذي يمنع …
3- ونحن نعتقد …
4- واذن فليس ما يمنع قريشا من ان تقبل هذه الأسطورة.
5- واذن فنستطيع ان نقول !!!

فالاستاذ المؤلف في بحثه، اذا راى انكار شيء، يقول لا دليل عن الادلة التي تتطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التي رسمها في منهج البحث  واذا راى تقرير امر لا يدلل عليه بغير الادلة التي أحصيناها له وكفى بقوله حجة.
سئل الاستاذ في التحقيق عن اصل هذه المسالة " أي تلفيق القصة" وهل هي من استنتاجه او نقلها. فقال : "فرض فرضته انا، دون ان اطلع عليه في كتاب اخر، وقد اخبرت بعد ان ظهر الكتاب ان شيئا مثل هذا الفرض، يوجد في بعض كتب المبشرين، ولكن لم افكر فيه حتى بعد ظهور كتابي". على انه سواء كان هذا الفرض من تخيله كما يقول او من نقله عن ذلك المبشر، الذي يستتر تحت اسم "هاشم العربي" فانه كلام لا يستند الى دليل ولا قيمة له، على اننا نلاحظ ان ذلك المبشر، مع ما هو ظاهر من مقاله، من غرض الطعن على الاسلام كان في عباراته اظرف من مؤلف كتاب الشعر الجاهلي، لانه لم يتعرض للشك في وجود ابراهيم واسماعيل بالذات، وانما اكتفى بان انكر ان اسماعيل ابو العرب العدنانيين، وقال ان حقيقة الامر في قصة اسماعيل، انها دسيسة لفقهاء قدماء اليهود للعرب تزلفا اليهم … الخ. كما نلاحظ ايضا ان ذلك المبشر، قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل، لان وظيفته التبشير لدينه، وهذا غرضه الذي يتكلم فيه، ولكن ما عذر الاستاذ المؤلف في طرق هذا الباب وما هي الضرورة التي الجاته الى ان يرى في هذه القصة نوعا من الحيلة …. الخ …

وان كان المتسامح يرى له بعض العذر، في التشكك الذي اظهره اولا، اعتمادا على وجود الدليل التاريخي، كما يقول فما الذي دعاه الى ان يقول في النهاية بعبارة تفيد الجزم : ان هذه القصة اذن واضح انها حديثة العهد، ظهرت قبيل الاسلام، واستغلها الاسلام لسبب ديني واضح … الخ.  مع اعترافه في التحقيق بان المسالة فرض افترضه؟

يقول الاستاذ انه اذا صح افتراضه، فان القصة كانت شائعة بين العرب قبل الاسلام،  فلما جاء الاسلام استغلها وليس ما يمنع ان يتخذها الله في القران وسيلة لاقامة الحجة على خصوم المسلمين، كما اتخذ غيرها من القصص، التي كانت معروفة وسيلة الى الاحتجاج او الى الهداية  - وهاشم العربي يقول في مثل هذا : ولما ظهر محمد، راي المصلحة في اقرارها فاقرها، وقال للعرب انه انما يدعوهم الى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير ان يعرفوه، فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر…

ان الاستاذ المؤلف اخطا فيما كتب واخطا ايضا في تفسير ما كتب، وهو في هذه النقطة، قد تعرض بغير شك لنصوص القران، وليس في وسعه  الهرب بادعائه البحث العلمي منفصلا عن الدين، فليفسر لنا اذن قوله تعالى في سورة النساء : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا الى نوح والنبيين من بعده وأوحينا الى إبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وايوب ويونس وهارون وسليمان ….} الخ …  وقوله في سورة مريم : {واذكر في الكتاب ابراهيم انه كان  صديقا نبيا } و{ واذكر في الكتاب اسماعيل انه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا }، وفي سورة آل عمران { قل آمنا بالله وما انزل علينا وما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون}، وغير  ذلك من الايات القرآنية الكثيرة، التي ورد فيها ذكر ابراهيم واسماعيل، لا على سبيل المثال كما يدعي حضرته، وهل عقل الاستاذ سليم بان الله سبحانه وتعالى، يذكر في كتابه ان ابراهيم نبي وان اسماعيل رسول نبي، مع ان القصة ملفقة، وماذا يقول حضرته في موسى وعيسى، وقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى، في الاية الاخيرة مع ابراهيم واسماعيل، وقال في حقهم جميعا لا نفرق بين احد منهم، وهل يرى حضرته ان قصة موسى وعيسى من الاساطير ايضا، قد ذكرها الله وسيلة للاحتجاج او للهداية، كما فعل في قصة ابراهيم واسماعيل، ما دامت الاية  تقضي بألا نفرق بين احد منهم، الحق ان المؤلف في هذه المسالة يتخبط تخبط الطائش ويكاد يعترف بخطئه لان جوابه يشعر بهذا عندما سألناه في التحقيق عن السبب الذي دعاه اخيرا لان يقرر بطريقة تفيد الجزم بان القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الاسلام فقال في ص 37 من محضر التحقيق : "هذه العبارة اذا كانت  تفيد الجزم، فهي انما تفيده، ان صح الفرض الذي قامت عليه، وربما كان فيها شيء من الغلو ولكني اعتقد ان العلماء جميعا عندما يفترضون فروضا علمية يبيحون لانفسهم مثل هذا النحو من التعبير فالواقع انهم مقتنعون فيما بينهم وبين انفسهم بان فروضهم راجحة".

والذي نراه ان موقف الاستاذ المؤلف، هنا لا يختلف عن موقف الاستاذ "هوار" حين يتكلم عن شعر امية بن  ابي الصلت وقد وصف المؤلف نفسه هذا الموقف ص 82 و83 من كتابه بقوله : " مع اني من اشد الناس اعجابا بالاستاذ " هوار" وبطائفة من اصحابه المستشرقين، وبما ينتهون اليه في كثير من الاحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريخ الادب العربي، التي يتخذونها للبحث، فاني لا استطيع ان اقرا مثل هذا الفصل دون ان اعجب كيف يتورط العلماء احيانا، في مواقف لا صلة بينها وبين العلم".

حقا ان الاستاذ المؤلف قد تورط في هذا الموقف الذي لا صلة بينه وبين العلم، بغير ضرورة يقتضيها بحثه، ولا فائدة يرجوها، لان النتيجة التي وصل اليها من بحثه وهي قوله " ان الصلة بين اللغة العدنانية، بين اللغة القحطانية كالصلة بين اللغة العربية واي لغة اخرى من اللغات السامية المعروفة، وان قصة العاربة والمستعربة وتعلم اسماعيل العربية من جرهم، كل ذلك حديث اساطير لا خطر له ولا غناء فيه"، ما كانت تستدعي التشكك، في صحة اخبار القران عن ابراهيم واسماعيل، وبنائهما الكعبة ثم الحكم بعدم صحة القصة وباستغلال الاسلام لها لسبب ديني.

ونحن لا نفهم كيف اباح المؤلف لنفسه، ان يخلط بين الدين وبين العلم، وهو القائل بان الدين  يجب ان يكون بمعزل عن هذا النوع من البحث، الذي هو بطبيعته قابل للتغيير والنقض والشك والانكار "ص 22 من محضر التحقيق"، واننا حين نفصل بين العلم والدين، نضع الكتب السماوية موضع التقديس، ونعصمها من انكار المنكرين وطعن الطاعنين "ص24 من محضر التحقيق" ولا ندري لم يفعل غير ما يقول في هذا الموضوع. لقد سئل في التحقيق عن هذا فقال: "ان الداعي اني اناقش طائفة من العلماء والاباء والقدماء والمحدثين وكلهم يقرون ان العرب المستعربة قد اخذوا لغتهم عن العرب العاربة بواسطة ابيهم اسماعيل بعد ان هاجر، وهم جميعا يستدلون على ارائهم بنصوص من القران ومن الحديث فليس لي يد من اقول لهم ان هذه النصوص لا تلزمني من الوجهة العلمية.

اما الثابت من نصوص القران، فقصة الهجرة وقصة بناء الكعبة، وليس في القران نصوص يستدل بها على تقسيم العرب الى عاربة ومستعربة، على ان اسماعيل ابو العرب العدنانيين، ولا على تعلم اسماعيل العربية من جرهم، ونص الاية التي ثبتت الهجرة { ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلم يشكرون} لا يفيد غير اسكان ذرية ابراهيم في وادي مكة أي ان اسماعيل هو جرهم صغير" " كنص الحديث" الى هذا الوادي فنشا فيه بين اهله وهم من العرب وتعلم هو وابناؤه لغة  من نشاوا بينهم وهي العربية لان اللغة لا تولد مع الانسان وانما تكتسب اكتسابا وقد اندمجوا في العرب فصاروا منهم وهذا الاندماج لا يترتب عليه، ان يكون جميع العرب العدنانيين من ذريته، اذ الحكم  بهذا يقتضي الا يكون مع اسماعيل احد منهم، حتى لا يوجد غير ذريته وهو ما لم يقل به احد - ويا ليت الاستاذ المؤلف حذا حذو ذلك المبشر "هاشم العربي" في هذه المسالة حيث قال : "ولا اسماعيل نفسه بأب للعرب المستعربة ولا تملك احد من بنيه على امة من الامم وانما قصارى امرهم انهم دخلوا وهم عدد قليل من قبائل العرب العديدة المجاورة لمنازلهم فاختلطوا بها وما كانوا منها الا  كعصاة في فلاة" - راجع ص 356 من كتاب مقالة في الاسلام  - ولو ان المؤلف فعل هذا لنجا من التورط  في هذا الموضوع، اما مسالة بناء الكعبة، فلم يفهم الحكمة في نفيها واعتبارها أسطورة من الاساطير، اللهم الا اذا كان من مراده ازالة كل اثر لابراهيم واسماعيل ولكن ما  مصلحة المؤلف من هذا ؟ الله اعلم بمراده.

عن الامر الثاني
من حيث ان المبلغين ينسبون الى المؤلف، انه يزعم "عدم انزال القراءات السبع المجمع  عليها، والثابتة لدى المسلمين جميعا، ويقول ان هذه القراءات " انما قرأتها العرب حسب ما استطاعت، لا كما اوحى الله بها الى نبيه" مع ان معشر المسلمين يعتقدون ان كل هذه القراءات مروية من عن الله تعالى، على لسان النبي صلى الله  عليه وسلم، وان ما تجده فيها من إمالة وفتح وادغام وفك ونقل، كله منزل من عند الله تعالى، استدلوا على هذا بحديث النبي صلى  الله عليه وسلم " أقراني جبريل على حرف فلم ازل استزيده ويزيدني، حتى انتهى الى سبعة احرف"، وعلى قوله صلى الله عليه وسلم، لما تحاكم اليه سيدنا عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم، بسبب ما ظهر من الاختلاف بين قراءة كل منهما "هكذا انزلت، ان هذا القران انزل على سبعة احرف فاقرأوا ما تيسر منه، وقالوا ان الحديث وان كان غير متواتر من حيث السند، الا انه متواتر من حيث المعنى وحيث انه يجب ان يلاحظ قبل الكلام على عبارة المؤلف ان الحديث " انزل القران على سبعة احرف" قد ورد من رواية نحو عشرين من الصحابة لا بنصه ولكن بمعناه. وقد حصل اختلاف كثير في المراد بالاحرف السبعة، فقال بعضهم ان المراد بالاحرف السبعة، الاوجه التي يقع بها الاختلاف في القراءة "راجع  كتاب البيان لطاهر بن صالح بن احمد الجزائري طبعة المنار - ص 37-38"، وقال بعضهم انها اوجه من المعاني المتفقة بالالفاظ المختلفة نحو: " اقبل وهلم وتعالى وعجل واسرع وانظر واخر وامهل ونحوه" "راجع ص 39 وما بعدها من الكتاب المذكور" وقال بعضهم انها امر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل "ص 47"، قال بعضهم انها سبع لغات متفرقة في القران لسبعة احياء من قبائل العرب مختلفة الألسن "ص 49" وقال بعضهم ان المراد بالسبعة احرف، سبعة اوجه في اداء التلاوة، وكيفية النطق بالكلمات التي فيها من ادغام واظهار، وتفخيم وترقيق وإمالة، ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين، لان العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه، فيسر الله عليهم ليقرا كل انسان بما يوافق لغته ويسهل على لسانه "ص 59" وقال غيرهم خلاف ذلك.

وقد قال " الحافظ ابو حاتم ابن حيان البستي" اختلف اهل العلم في معنى الاحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا "ص 59، 60" وقال الشرف المرسى"  "الوجوه اكثرها متداخلة، ولا ادري مستندها ولا عمن نقلت، الى ان قال : " وقد ظن كثيرا من العوام، ان المراد بها القراءات السبع، وهو جهل قبيح " ص 61" وقال بعضهم هذا الحديث من المشكل الذي لا يدري معناه، وقال اخر المختار عندي انه من المتشابه الذي لا يدري تأويله.

وراى " ابو جعفر محمد بن جرير الطبري" صاحب التفسير الشهير، في معنى هذا الحديث، انه انزل بسبع لغات وينفي ان يكون المراد بالحديث القراءات لانه قال فاما ما كان من اختلاف القراءة، قي رفع حرف وجره ونصبه وتسكين حرف وتحريكه ونقل حرف الى اخر مع اتفاق الصورة، فمن معنى قول النبي  صلى الله عليه وسلم " امرت ان اقرا القران على سبعة أحرف" بمعزل، لانه معلوم انه لا حرف من حروف القران مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى، يوجب المراد به كفر المماري به، في قول احد من علماء الامة ..  "راجع الجزء الاول من تفسير القران للطبري ص 23 طبع المطبعة الأميرية".

والمؤلف قد تعرض لهذه المسالة في الفصل الخامس الذي عنوانه " الشعر الجاهلي واللهجات" حيث تكلم عن عدم ظهور اختلاف في للهجة " يريد باللهجة هنا الاختلافات المحلية في اللغة الواحدة او ما يسميه الفرنسيون  « Dialecte » او تباعد في اللغة، او تباين في مذهب الكلام، مع ان لكل قبيلة لغتها ومذهبها في الكلام وهو يريد بذلك ان يدلل، على ان الشعر الذي لم يظهر فيه اثر لهذه الاختلافات، لم يصدر عن هذه النقطة قال ان القران الذي بلهجة واحدة وهي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة، حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تباينا كثيرا، جد القراء والعلماء المتأخرون في ضبطه وتحقيقه، واقاموا له علما او علوما خاصة وقد اشار بايضاح الى ما يريده من الاختلاف في القراءات، فقال انما يشير الى اختلاف اخر يقبله العقل ويسيغه النقل وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب، التي لم تستطع ان تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها، لتقرا القران كما كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش، فقرأته كما كانت تتكلم، فأمالت حيث لم تكن تميل، ومدت حيث لم تكن تمد، وقصرت حيث لم تكن تقصر، وسكنت حيث لم تكن تسكن، وادغمت واخفت او نقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولا تنقل.

فالمؤلف لم يتعرض لمسالة القراءات، من حيث انها منزلة او غير منزلة، وانما قال كثرت القراءات وتعددت  للهجات، وقال ان الخلاف الذي وقع في القراءات تقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب، التي لم تستطع ان تغير حناجرها والسنتها وشفافها، فهو بهذا يصف الواقع، وان صح راي من قال ان المقصود بالاحرف السبعة هو القراءات السبع، فان هذه الاختلافات التي كانت واقعة فعلا، كانت طبعا هي السبب الذي دعا الى  الترخيص للنبي صلى الله عليه وسلم، بان يقرئ كل قوم بلغتهم حيث قال صلى الله عليه وسلم : " انه قد وسع لي ان أقرئ كل قوم بلغتهم" قال ايضا : " اتاني جبريل فقال اقرا القران على حرف واحد فقلت ان أمتي لا تستطيع ذلك حتى قال سبع مرات، فقال لي اقرا على سبعة احرف الخ"، وان لم يصح هذا الراي فان نوع القراءات الذي عناه المؤلف، انما هو نوع ما اشار اليه " الطبري" بقوله انه بمعزل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم " امرت ان اقرا القرآن على سبعة احرف" لانه معلوم انه لا حرف من حروف القران مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى، يوجب المراء به كفر المماري به في قول احد من علماء الامة.
ونحن نرىان ما ذكره المؤلف في هذه المسالة، هو بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين لا اعتراض لنا عليه.

عن الامر الثاني
من حيث ان حضرات المبلغين، ينسبون للاستاذ المؤلف، انه طعن في كتابه على النبي صلى الله عليه وسلم طعنا فاحشا، من حيث نسبه قال في ص 72 من كتابه : " ونوع اخر من تاثير الدين في انتحال الشعر واضافته الى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شان النبي من ناحية اسرته ونسبه في قريش، فالامر ما اقتنع الناس  بان النبي يجب ان يكون صفوة بني هاشم وان يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وان يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصى وان يكون قصى صفوة قريش وقريش صفوة ومضر وصفوة عدنان وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الانسانية كلها" : وقالوا ان تعدي المؤلف بالتعريض بنسب النبي صلى الله عليه وسلم التحقير من قدره، تعد على الدين، وجرم عظيم يسئ الى المسلمين والاسلام، فهو قد اجترا على امر اذ لم يسبقه اليه كافر لا مشرك".

المؤلف اورد هذه العبارة في كلامه " على الدين وانتحال الشعر" والاسباب التي يعتقد انها دعت المسلمين الى انتحال الشعر، وانه كان يقصد بالانتحال في بعض الاطوار، الى اثبات صحة النبوة وصدق النبي، وكان هذا النوع موجها الى عامة الناس وقال بعد ذلك : والغرض من هذا الانتحال على ما يرجح  - انما هو ارضاء حاجات العامة، الذين يريدون المعجزة في كل شيء، ولا يكرهون ان يقال لهم، ان من دلائل صدق النبي في رسالته، انه كان منتظرا قبل ان يجئ بدهر طويل ثم وصل الى ما يتعلق بتعظيم شان النبي من ناحية اسرته في قريش.

ونحن لا نرى اعتراضا على بحثه على هذا النحو من حيث هو، وانما كل ما نلاحظه عليه، انه تكلم فيما يختص باسرة النبي صلى الله علي وسلم ونسبه في قريش، بعبارة خالية من كل احترام، بل وبشكل تهكمي غير لائق،  ولا يوجد في بحثه ما يدعوه لايراد العبارة على هذا النحو.

عن الامر الرابع
يقول حضرات المبلغين ان الاستاذ المؤلف، انكر ان للاسلام اولية في بلاد العرب، وانه دين ابراهيم، اذ يقول : "اما المسلمون فقد ارادوا ان يثبتوا ان للاسلام اولية في بلاد العرب، كانت قبل ان يبعث النبي، وان خلاصة الدين الاسلامي وصفوته، هي خلاصة الدين الحق، الذي اوحاه الله الى الأنبياء من قبل"، الى ان قال : "وشاعت في العرب اثناء ظهور الاسلام وبعده، فكرة ان الاسلام يجدد دين ابراهيم، ومن هنا يعتقدون ان دين ابراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور، ثم اعرضت عنه لما اضلها المضلون وانصرفت الى عبادة الاوثان" … الخ.

وحيث ان كلام المؤلف هنا، هو استمرار في بحث بيان اسباب انتحال الشعر، من حيث تاثير الدين على الانتحال، ولا اعتراض على البحث من حيث هو. وقد قرر المؤلف في التحقيق، انه لم ينكر ان الاسلام دين ابراهيم ولا ان له اولية في العرب، وان شان ما ذكره في هذه المسالة، كشان ما ذكره في مسالة النسب: راى القصاص اقتناع المسلمين بان للاسلام اولية، وبانه دين ابراهيم، فاستغلوا هذا الاقتناع، وانشاوا حول هذه المسالة من الشعر والاخبار،  مثلما انشاوا حول مسالة النسب.

ونحن لا نرى اعتراضا على ان يكون مراده بما كتب في هذه المسالة هو ما ذكر، ولكننا نرى انه كان سيئ التعبير جدا، في بعض عباراته كقوله:
" ولم يكن احد قد احتكر ملة ابراهيم، لا زعم لنفسه الانفراد بتاويلها، فقد اخذ المسلمون يردون الاسلام في خلاصته، الى دين ابراهيم هذا، الذي هو اقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى، كقوله وشاعت في العرب اثناء ظهور الاسلام وبعده، فكرة ان الاسلام يجدد دين ابراهيم، ومن هنا اخذوا يعتقدون، ان دين ابراهيم هذا، قد كان دين العرب في عصر من العصور …" لان في ايراد عباراته على هذا النحو، ما يشعر بانه يقصد شيئا اخر بجانب هذا المراد خصوصا اذا قربنا بين هذه العبارات وبين ما سبق له ان ذكره، بشان تشككه في وجود ابراهيم وما يتعلق به.


عن القانون
نصت المادة 12 من الامر الملكي رقم 42 لسنة1923 بوضع نظام دستوري للدولة المصرية على ان حرية الاعتقاد مطلقة.
ونصت المادة 14 منه ان حرية الراي مكفولة، ولكل انسان الاعراب عن فكرة بالقول او بالكتابة او بالتصوير، او بغير ذلك، في حدود القانون ونصت المادة 149 منه على ان الاسلام دين الدولة.
فكل انسان اذن حرية الاعتقاد بغير قيد ولا شرط، وحرية الراي في حدود القانون، فله ان يعرب عن اعتقاده فكره، بالقول او بالكتابة، بشرط الا يتجاوز حدود القانون.
وقد نصت المادة 139 من قانون العقوبات الاهلي، على عقاب كل تعد يقع باحدى طرق العلانية، المنصوص عنها في المادتين 148 و150، على احد الاديان التي تؤدي شعائرها علنا - كما اشرنا في البداية - وهي الجريمة.

وجريمة التعدي على الأديان في البداية - وهي الجريمة المعاقب عليها بمقتضى المادة المذكورة، تتكون بتوفر اربعة اركان :
التعدي،  ووقوع التعدي باحدى طرق العلنية المبني نفي المادتين 148، 150 عقوبات، ووقوع التعدي على احد الاديان، التي تؤدي شعائرها علنا، واخيرا القصد الجنائي.

عن القانون
نصت المادة 12 من الامر الملكي رقم 42 لسنة1923 بوضع نظام دستوري للدولة المصرية على ان حرية الاعتقاد مطلقة.
ونصت المادة 14 منه ان حرية الراي مكفولة، ولكل انسان الاعراب عن فكرة بالقول او بالكتابة او بالتصوير، او بغير ذلك، في حدود القانون ونصت المادة 149 منه على ان الاسلام دين الدولة.
فكل انسان اذن حرية الاعتقاد بغير قيد ولا شرط، وحرية الراي في حدود القانون، فله ان يعرب عن اعتقاده فكره، بالقول او بالكتابة، بشرط الا يتجاوز حدود القانون.
وقد نصت المادة 139 من قانون العقوبات الاهلي، على عقاب كل تعد يقع باحدى طرق العلانية، المنصوص عنها في المادتين 148 و150، على احد الاديان التي تؤدي شعائرها علنا - كما اشرنا في البداية - وهي الجريمة.

وجريمة التعدي على الأديان في البداية - وهي الجريمة المعاقب عليها بمقتضى المادة المذكورة، تتكون بتوفر اربعة اركان :
التعدي،  ووقوع التعدي باحدى طرق العلنية المبني نفي المادتين 148، 150 عقوبات، ووقوع التعدي على احد الاديان، التي تؤدي شعائرها علنا، واخيرا القصد الجنائي.

عن الركن الاول
لم يذكر القانون بشان هذا الركن في المادة الا لفظ " تعد"  وهذا اللفظ عام، يمكن فهم المراد منه بالرجوع الى نص المادة باللغة الفرنسية وقد عبر فيه عن التعدي بلفظ Quttaga والقانون قد استعمل لفظ Quttaga هذا، في المواد 155 و159 و160 عقوبات ايضا ولما ذكر معناها في النص العربي للمواد المذكورة عبر في المادة 155 بقوله " كل من انتهك حرمة" وفي المادتين 159، 160 تضاف : باهانة. فيتضح من هذا - ان مراده بالتعدي في المادة 139، كل مساس بكرامة الدين، او انتهاك حرمته، او الحط من قدرته او الازدراء به، لان الاهانة تشمل كل هذه المعاني بلا شك.

وحيث انه بالرجوع الى الوقائع، التي ذكرها الدكتور طه حسين، والتي تكلمنا عنها تفصيلا وتطبيقا على القانون، يتضح ان كلامه الذي بحثناه تحت عنوان " الامر الاول" فيه تعد على الدين الاسلامي، لانه انتهك حرمة هذا الدين، بان نسب الى الاسلام انه استغل قصة ملفقة، هي قصة هجرة إسماعيل بن إبراهيم الى مكة، وبناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة، واعتبار هذه القصة اسطورة، وانها  من تلفيق اليهود وانها حديثة العهد، ظهرت قبيل الاسلام، الى اخر ما ذكرناه تفصيلا، عند الكلام عن الوقائع وهو بكلامه هذا، يرمي الدين الاسلامي، بانه مضلل، في امور هي عقائد في القران، باعتبار انها حقائق لا مرية فيها، كما ان كلامه الذي بحثناه، تحت عنوان " الامر الرابع" قد اورده على صورة، تشعر بانه يريد به اتمام فكرته، بشان ما ذكر - اما كلامه بشان نسب النبي صلى لله عليه وسلم فهو ان لم يكن فيه طعن ظاهر، الا انه اورده بعبارة تهكمية تشف عن الحط من قدره - واما ما ذكر بشان القراءات مما تكلمنا عنه في الامر الثاني، فانه بحث برئ من الوجهة العلمية والدينية ايضا، ولا شيء فيه يستوجب المؤاخذة، لا من الوجهة الادبية ولا من الوجهة القانونية.

عن الركن الثاني
لا كلام في هذا الركن لان الطعن السابق بيانه قد وقع بطريق العلنية اذ انه ورد في كتاب " الشعر الجاهلي" الذي طبع ونشر وبيع في المحلات.

عن الركن الثالث
لا نزاع في هذا الركن ايضا لان التعدي وقع على الدين الاسلامي الذي تؤدى شعائره علنا. وهو الدين الرسمي للدولة.

عن الركن الرابع
هذا الركن هو الركن الادبي الذي يجب ان يتوفر في كل جريمة، فيجب اذن لمعاقبة المؤلف، ان يقوم الدليل على توفر القصد الجنائي لديه، بعبارة اوضح يجب ان يثبت انه انما اراد بما كتبه ان يتعدى على الدين الاسلامي، فاذا لم يثبت هذا الركن فلا عقاب.
انكر المؤلف في التحقيقات، انه يريد الطعن في الدين الاسلامي وقال انه ذكر ما ذكر في سبيل البحث العلمي وخدمة العلم لا غير، غير مقيد بشيء وقد اشار في كتابه تفصيلا، الى الطريق الذي رسمه للبحث، ولا بد هنا من ان نشير، الى ما قرره المؤلف في التحقيق، من انه كمسلم لا يرتاب في وجود ابراهيم واسماعيل وما يتصل بهما مما جاء في القران، ولكنه كعالم مضطر الى ان يذعن لمناهج البحث، فلا يسلم بالوجود العلمي التاريخي لابراهيم واسماعيل،  فهو يجرد من نفسه شخصيتين وقد وجدنا المؤلف قد شرح نظريته هذه شرحا مستفيضا، في مقال نشره بجريدة السياسية الاسبوعية بالعدد 19 الصادر في 17 يوليوز1926 ص 5 تحت عنوان " العلم والدين" وقد ذكر فيه بالنص: " فكل امرئ منا يستطيع اذا فكر قليلا، ان يجد في نفسه شخصيتين متمايزتين، احداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل اليوم ما ذهبت اليه امس، وتهدم اليوم ما بنته امس، والاخرى شاعرة تلذ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وترغب وترهب، وفي غير نقد ولا بحث و لا تحليل وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا، لا نستطيع ان نخلص من احداهما، فما الذي يمنع ان تكون الشخصية الاولى عالمة باحثة ناقدة، وان تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة الى المثل الاعلى".

ولسنا نعترض على هذه النظرية. باكثر مما اعترض به هو على نفسه في مقاله، حيث ذكر بعد ذلك : سنقول وكيف يمكن ان تجمع المتناقضين، ولست احاول جوابا لهذا السؤال، وانما احولك على نفسك .. الخ. ولا شك في ان عدم محاولة الاجابة عن هذا الاعتراض، انما هو عجزه عن الجواب، والمفهوم انه قد اورد هذا الاعتراض لانه يتوقعه حتى لا يوجه اليه.

الحقيقة انه لا يمكن الجمع بين النقيضين، في شخص واحد في وقت واحد، بل  لابد من ان تتخلى احدى الحالتين للاخرى، وقد اشار المؤلف نفسه الى هذا في مقال نفسه، في سياق كلامه، على الخلاف بين العلم والدين، حيث قال بشانهما : ليسا متفقين ولا سبيل الى ان يتفقا الا ان ينزل احدهما لصاحبه عن شخصيته كلها.

اما توزيع الاختصاص الذي اجراه الدكتور بجعله العلم من اختصاص القوة العاقلة والدين من اختصاص القوة الشاعرة فلسنا ندركه والذي نفهمه ان العقل هو الاساس في العلم وفي الدين معا واذا ما وجدنا العلم والدين يتنازعان فسبب ذلك انه ليس لدينا القدر الكافي من كل منهما - اننا نقرر هذا بناء على ما نعرفه في انفسنا، اما الدكتور فقد تكون لديه القدرة على ما يقول وليس ذلك على الله بعسير.

نحن في موضع البحث عن حقيقة نية المؤلف، فسواء لدينا ان صحت نظرية تجريد شخصيتين عالمة ومتدينة او لم تصح، فاننا على الفرضين نرى انه كتب ما كتب عن اعتقاد تام. ولما قرانا ما كتبه بامعان، وجدناه منساقا في كتاباته بعامل قوي متسلط على نفسه وقد بينا حين بحثنا الوقائع، كيف قاده بحثه الى ما كتب، وهو ان كان قد اخطا فيما كتب، الا ان الخطا المصحوب باعتقاد الصواب شيء، وتعمد الخطا المصحوب بنية التعدي شيء اخر.

وحيث انه مع ملاحظة ان اغلب ما كتب المؤلف، مما يمس موضوع الشكوى، وهو ما قصرنا بحثنا عليه، انما هو تخيلات وافتراضات واستنتاجات، لا تستند الى دليل علمي صحيح، فانه كان يجب عليه ان يكون حريصا في جرأته، على ما اقدم عليه، مما يمس الدين الاسلامي، الذي هو دينه ودين الدولة التي هو من رجالها المسؤولين عن نوع العمل فيها، وان يلاحظ مركزه الخاص في الوسط الذي يعمل فيه  - صحيح انه كتب ما كتب، عن اعتقاد بان بحثه العلمي يقتضيه، ولكنه مع هذا كان  مقدرا لمركزه تماما، وهذا الشعور ظاهر من عبارات كثيرة في كتابه منها قوله : واكاد أثق بان فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، بان فريقا سيزورون عنه ازورارا ولكني على سخط اولئك وازورار هؤلاء اريد ان اذيع هذا البحث.

ان للمؤلف فضلا لا ينكر في سلوكه طريقا جديدا للبحث، حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكنه لشدة تاثير نفسه مما اخذ عنهم، قد تورط في بحثه حتى تخيل حقا ما ليس بحق، او ما لا يزال في حاجة الى اثبات انه حق، انه قد سلك طريقا مظلما، فكان يجب عليه ان يسير على مهل، وان يحتاط في سيره حتى لا يضل، ولكنه اقدم بغير احتياط، فكانت النتيجة غير محمودة.

وحيث انه مما تقدم يتضح، ان غرض المؤلف، لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل ان العبارات الماسة بالدين، التي اوردها في بعض المواضع من كتابه انما قد اوردها في سبيل البحث العلمي، مع اعتقاده ان بحثه يقتضيها.
وحيث انه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر.
" فلذلك"
تحفظ الأوراق اداريا…
رئيس نيابة  مصر : محمد نور
القاهرة في 30 مارس سنة 1927.

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 75، ص 124.

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم :