-->

قراءة في مفهوم الامتناع عن النفقة المقصود بالفصل 130 من مدونة الاحوال الشخصية


ذ. عبد العزيز فتحاوي قاضي بالمحكمة الابتدائية بانفا

ان ما حفزني الى مباشرة هذا الموضوع، هو القصور الذي لاحظته في فهم وتطبيق الامتناع المقصود بالفصل 130 من مدونة  الاحوال  الشخصية. بل ان البعض يلتبس عليه الأمر، ولا يكاد يفرق بين الإمساك في نفقة الزوجية والامتناع في نفقة الأبناء (1) علما  بان  أعمال  كل  منهما في  إطاره يرتب أثارا على احتساب مدة النفقة سلبا وإيجابا. فما المقصود بالامتناع، وما الحكمة منه؟

مفهوم الامتناع المقصود بالفصل 130 من م. ح. ش. (2).

ان لفظة الامتناع توحي بان الممتنع طولب بشيء ما فأحجم وتقاعس.
أي ان إشعارا بالقيام بالتزام ما قد تولد في وجدان الممتنع فتأخر عن المبادرة والتنفيذ.
ومن هذا المنطلق، فحتى نعتبر الأب ممتنعا عن الانفاق يجب ان نطالبه بالنفقة مع الإثبات- قبل مقاضاته فيحجم. وان تاريخ امتناعه- الذي يترتب بداية منه النفقة- انما يعتبر من تاريخ اشعاره بهذه المطالبة.
------------------------------
(1) انظر مؤلف شرح مدونة الأحوال الشخصية المغربية الجزء الاول لأستاذ شهبون ص. 491 الجزء الاول.
(2) ان مشروع تغيير المدونة لم يتناول الامتناع بالمرة.
------------------------
هذا الإشعار الذي يجب ان يتم بالطرق القانونية المتداولة، اما عن طريق البريد المضمون مع الإشعار بالتوصل- او عن طريق المحكمة.
ومن البديهي ان تنهج المرأة العادية هذه المسطرة لاثبات الامتناع، وقد لاحظت خلال الممارسة العملية ان سلوك هذه المسطرة يكاد ينعدم.
اذ قلم يطالب الأب بالنفقة قبل مقاضاته. وامام عدم ثبوت هذه المطالبة المبدئية قبل اللجوء الى القضاء، فان مسالة ثبوت الامتناع أصبحت عسيرة، كلفت المجلس الاعلى ان تعددت قراراته واختلفت في اعتبار تاريخ الامتناع (3).

الحكمة في اعتبار نفقة الابناء من تاريخ الامتناع

ان الفصل 130 من مدونة الأحوال الشخصية جاء مقتضبا ومجملا، وبخصوص هذه النقطة التي لم يوفها حقها من الشرح والتدليل، وبتتبعي لجل المؤلفات الوضعية في ميدان الأحوال الشخصية لم اعثر على مؤلف ميز بين الامساك في نفقة الزوجية، والامتناع في نفقة الأبناء وأبان عن مدلول هذا الأخير والحكمة منه.

ان الحكمة في اعتبار نفقة الأبناء من تاريخ الامتناع هي حكمة شرعية محضة، على اعتبار ان نفقة الأبناء شرعت لسد الخلة(4) وفي ذلك يقول الشيخ خليل: " تسقط عن الموسر بمضي الزمن الا لقضية او ينفق غير متبرع" . وشرح ذلك الخرشفي (5) بقوله:
" قد علمت ان نفقة الولد المعسر على أبيه الموسر وان نفقة الأب المعسر على ولده الموسر انما هي من باب المواساة وسد (6) الخلة تدفع عند الاحتياج. فاذا تحيل المعسر منهما في نفقته وأخذها من غير من وجبت عليه ثم أراد الرجوع بها على من وجبت عليه مدة التحيل فانه لا يلزمه له شيء من ذلك.
وسقطت عن الموسر بها في ذلك الزمن لان الخلة قد استدت وزال سبب وجوبها ما لم يكن قد حكم بها حاكم. اما ان كان قد حكم بها حاكم فانها لا تسقط عن الموسر بمضي الزمن لانها صادرت بقضية الحاكم كالدين …"
------------------
(3) لقد تتبعت حتى بعض قرارات المجلس الاعلى غير المنشورة في هذا الشان.
(4) الخلة: بفتح الخاء هي الحاجة كما جاء بحاشية الشيخ العدوي على شرح الخرشي على لمختصر سيدي الصفحة204 الجزء الرابع.
(5) الصفحة  204من المرجع المذكور.
(6) السد : المراد بفتح الخاء هي الحاجة كما جاء بحاشية الشيخ العدوي على شرح الخرشي لمختصر سيدي خليل الصفحة204 الجزء الرابع.
--------------------------
وقد جاء بهامش الدسوقي في تقريرات الشيخ عليش (7).
" وتسقط نفقة الولد، وكذا نفقة الوالدين عن المنفق الموسر بمضي الزمن، فاذا مضى زمن وهو يأكل عند غير من وجبت عليه مثلا، فليس له الرجوع على من وجبت عليه لانها لسد الخلة، وقد حصلت ، فليست كنفقة الزوجة كما تقدم لأنها في مقابلة الاستمتاع".

وعلى هذا الأساس فنفقة الابناء لا يشرع فيها الا  من تاريخ ثبوت الامتناع بعد المطالبة اما ما قبل ذلك فقد سد وانتهى، لان الحاجة كفيت والخلة سدت لا تهم الكيفية، بنقيض نفقة الزوجة، التي لو تسقط بمضي زمنها سواء حكم بها ام لا (8).

قراءة في قرارات المجلس الاعلى المنشورة منها وغير المنشورة.

اذا كان المشرع قد سكت عن تعريف الامتناع فان المجلس الاعلى أبان عن المحكمة من وراء تقريره، وقد جاء في قرار له غير منشور عدد 853 بتاريخ 22/9/1987 في الملف عدد: 5037/1985 "  نفقة الأولاد وان كانت  تسقط بمضي زمنها، لانها شرعت لسد الخلة كما نص على ذلك الشيخ خليل رحمه الله بقوله في باب النفقة وسقطت بمضي زمنها قال شارحة العلامة الورديري لأنها شرعت لسد الخلة أي الحاجة وقد سدت بمضي زمنها… ".
I- وأمام تعذر إثبات الامتناع عمليا كما سبق فان المجلس الاعلى قد ذهب الى ان حضور المدعى عليه بأول جلسة هو تاريخ الامتناع، وهذا ما صادفه بالقرار الشرعي عدد: 1613 الصادر بتاريخ 25/12/1990 في الملف عدد: 5956/87 والذي أيد قرار لمحكمة الاستئناف بالبيضاء صادر بتاريخ 20/10/1986 في الملف عدد: 495/1986. اذ جاء فيه " تاريخ الامتناع هو تاريخ حضور المدعى عليه لاول جلسة"(9).

ومن حيث المبدأ فقد حل هذا القرار القصور الذي شاب الفصل 130 من م. ح. ش.
الا انه أثار إشكالات عملية منها:
1) انه سكت عن حالة تخلف المدعى عليه هذا السكوت الذي حدا بابتدائية البيضاء انفا والى حدود سنة 1988 الى خلق اجتهاد مضمنه ان تاريخ الطلب هو تاريخ الامتناع في هذه الحالة.
--------------------
(7) انظر الصفحة 524 من الجزء الثاني لحاشية الدسوقي على الشرح الكبير.
(8) انظر نفس الصفحة.
(9) قرار غير منشور وهو تطبيق لقرار سابق للمجلس الاعلى.
-------------------
2) الطرح العملي الثاني الذي أثاره هذا القرار والذي يشكل إجحافا نوعا ما بحقوق الابناء ويتمثل في ان المدعى عليه قد لا يحضر الا باخر جلسة والتي تصادف حجز الملف للمداولة - وبعد ان يكون قد راج عدة جلسات وبتطبيق القرار المذكور فالأبناء لا يستحقون النفقة الا منذ هذه الجلسة دونما اعتبار للمدة السابقة التي استغرقتها القضية قبل التوصل والتي قد تمتد لمدة ليست باليسيرة.

II- ثم ذهب المجلس الاعلى في قراره (10)
منشور بمجلة المحاماة عدد 18 الى تاريخ بداية النفقة للأقارب ككل واعتبر ان تاريخ الامتناع في نفقة الابناء هو تاريخ الطب، اذ جاء فيه: 
" بمقتضى الفصلين 121 و130 من مدونة الأحوال الشخصية فان النفقة الواجبة للأقارب، تنقسم من حيث وقت استحقاقها الى ثلاثة أنواع:
الاول نفقة الزوجة وتستحق من تاريخ الامساك عن أدائها ولا تسقط بمضي المدة.
والثاني نفقة الأبوين وتستحق من تاريخ الادعاء أي الطلب المقدم للقضاء
والثالث نفقة الأولاد وعلى الآباء او الام الغنية عند عجز الاب وتستحق من تاريخ الامتناع عن ادائها عند طلبها.
ولذلك فان الحكم المطعون فيه لم يكن على صواب حين اعتبر إمساك طالب النقض عن النفقة امتناعا من أدائها وحين قضى على الاب  بالنفقة عن مدة سالفة دون ان يثبت ان تلك النفقة قد طلبت منه فامتنع عن أدائها ويكون بذلك قد خرق الفصل المشار اليه الذي يكتسي نظرا لوجوده ضمن مدونة الأحوال الشخصية صبغة النظام العام". 
وقد حل هذا الى حد ما ما كان يعترض المحاكم بشان تحديد تاريخ الامتناع، والملاحظة ان اعتبار نفقة الأبناء من تاريخ المطالبة لا يجحف بحقوق هؤلاء ويعد تطبيقا للقاعدة الشرعية الآنفة الذكر، بدليل ان المطالبة تفيد ان الخلة قائمة، أما السكوت عما قبلها فدليل على  سدها ودفعها.

موقف محكم الاستئناف بالبيضاء من هذا القرار

ان استئنافية البيضاء وان سارت من حيث المبدأ على نهج هذا القرار الا أنها لم تأخذ
--------------------
(10) قرار اجتماعي عدد122 صادر بتاريخ 27/9/1977 المنشور بمجلة المحاماة عدد 18 السنة 13 مارس وابريل81 صفحة 115.
-------------------
به على علاته، واصبحت تطبقه بنوع من المرونة آخذة على نفسها ان لا تجحف بحقوق الأبناء وأصبحت تتلمس مصلحة الولد من خلال الامتناع الحقيقي فقد لا يقيدها تاريخ الطلب اذا ثبت لها ان الأب امتنع عن الإنفاق قبل ذلك.
وقد يقر الأب بعدم الإنفاق، ومن المنطقي ان يعتد بإقراره ضمانا لحق الولد (11)

موقف القضاء من الامتناع بعد صدور حكم بالنفقة

ان ما قبل عن الامتناع انما ينطبق ويتحقق اذا لم يكن هناك حكم سابق بالنفقة.
اما اذا توافر حكم سابق فالامتناع يعتبر من تاريخ هذا الحكم بدليل ان المطالبة بالإنفاق قد تحققت وان الاب اشعر بضرورة الانفاق، وبحاجة الولد، فمن الحيف ان نطالب المدعي بنفقة الولد بإثبات الامتناع كل مرة والحالة انه يتوفر على حكم سابق، وهذا ما جاء في قرار غير منشور للمجلس الاعلى عدد 502 صادر بتاريخ 1/4/1986 في الملف عدد: 4707/1984.

" ان الامتناع من النفقة ينطلق بداية من تاريخ الحكم السابق بالنفقة" (12).
وجاء في حيثياته بالحرف:
" وان امتناعه ينطلق بداية من هذا التاريخ أي تاريخ الحكم السابق لان الأصل في الأشياء بقاؤها على حالها الى ان يثبت خلاف ذلك بما يرفعه شرعا وان دمة المدعى عليه عامرة بيقين فلا تبرأ الا بيقين، والمحكمة لم تجب عن هذا الدفع".
والمجلس الاعلى بقراره هذا يكون قد طبق المقتضيات الشرعية التي اشرت اليها آنفا، وذلك في الاستثناء الذي جاء بقول الشيخ خليل "الا لقضية" والتي شرحها الخرشي بقوله: " اما اذا كان قد حكم بها فإنها لا تسقط عن الموسر بمضي الزمن لأنها صارت بقضية الحاكم كالدين … ".

وقد عثرت على قرار غير منشور للمجلس الاعلى عدد: 45 صادر في الملف الشرعي عدد: 6078/89. جاء فيه " الحكم السابق في النفقة لا يعتبر تاريخ الامتناع إذا قدم المقال بعده بمدة " (13).
---------------
(11) وهذا ما تصر عليه ابتدائية البيضاء أنفا اسوة بمحكمة الاستئناف.
(12) القرار المذكور نقض قرار لمحكمة الاستئناف بالبيضاء عدد 816/1983 بتاريخ 2/11/1983.
(13) القرار المذكور أيد حكما لمحكمة الاستئناف بالبيضاء صادر بتاريخ 10/6/1987 في الملف عدد: 242/1987.
--------------

وقد بدا لي لاول وهلة ان هذا القرار يناقض السابق الا ان استقرائي لوقائعه وحيثياته جعلني اقف على تطابقها لعلة أت المدعى عليه بهذا القرار أتى بشهود لإثبات الاتفاق عن المدة السابقة للمقال، ومن البديهي ان لا يعتبر الحكم السابق هو تاريخ الامتناع طالما ان الإنفاق قد ثبت.

هذا ولا يفوتني ان أشير الى ان المقتضيات المتعلقة بالامتناع وان كانت تطبق على النفقة فانها لا تنطبق على أجرة الحضانة، اذ جاء في قرار غير منشور للمجلس الاعلى عدد: 
353 صادر في الملف الشرعي عدد: 5323/1987 بتاريخ 13/3/1990.
" الامتناع لا يسري على اجرة الحضانة" (14).
وقد اعتمد هذا القرار على مقتضيات الفصل 103 من م. م. ش التي تفيد ان أجرة الحضانة هي غير النفقة.
--------------------
(14) القرار المذكور نقض قرار لمحكمة الاستئناف بالبيضاء، صادر بتاريخ 30/6/1986 في الملف عدد: 1514/1985
--------------------

*مجلة المحاكم المغربية، عدد 67، ص .61

Sbek net
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع القانون والقضاء المغربي .

جديد قسم : أبحاث قانونية مغربية